مشكلة الطبقات الثرية الحاكمة
بالرغم من نجاحهم، شعر زعماء الرأسمالية الأمريكية المتوّجين بإكليل المجد بأنهم متقلقلون. فقد وصف والتر ليبمان، وهو أحد المراقبين الأكثر إدراكاً للمشهد الأمريكي، مأزقهم قائلاً: (( اكتسبوا ثقافة تحقيق النجاح؛ قِلّةٌ منهم دُرِّبوا على ممارسة السلطة. وهم لا يُدخلون في حسابهم الاحتفاظ بنفوذهم وتسليمه الى أبنائهم. فهم يعيشون ليومهم)...(كلهم قلقون في شأن كيفية الحؤول دون تداعيهم))*1
يقول الكاتب: قد يكون الأثرياء والمقتدرون موضع حسد، ولكنهم قد لا يكونون موضع تبجيل. فقد يُطاعون دون أن يُجَلّوا. لقد لخص محامي الشعب (لويس برانديس) بجلسة سماع واسعة النطاق للكونجرس بسخرية لاذعة بأن المصرفيين الأثرياء يستخدمون أموال أشخاص آخرين ليزدادوا ثراءً. إنه امتياز أخذ البيض الذهبي الذي وضعته إوزة شخص آخر*2
لم يستطع أحد أن يرفع صوته في وجوههم مثل (ثيودور روزفلت) عندما قال: (من بين كل أشكال الطغيان، فإن الأقل جاذبية والأكثر ابتذالاً هو طغيان الثروة بذاتها، وطغيان الطبقات الثرية الحاكمة.*3
ونشأت مجموعة أخرى من المشاكل في مجال الشؤون الخارجية. ففي الوقت الذي ظهرت فيه رغبات أصحاب الثروات الطائلة للتوسع خارج الولايات المتحدة، لجمع المزيد من الأموال، مستخدمين في ذلك هيبة الدولة وإمكاناتها العسكرية، وصف مناهضو هذا التوجه بأنه يهدد الديمقراطية. وسيرهق دافعي الضرائب، واشتركت في تلك الجهود الرافضة لهذا التوجه عصبة النساء العالمية للسلام والحرية.
وتمثلت مشكلة أخرى واجهت الطبقات الثرية الحاكمة بمعاملة اليد العاملة، فقد كان أرباب العمل يضغطون على موظفيهم ويرهقونهم لدرجة إلحاق الضرر بصحتهم وسلامتهم في غالب الأحيان، كما حدث في الميدان الصناعي و لا سيما الحريق الذي شب في شركة (تراينغل شرتوايست في نيويورك 1911.
وكان قمع العمال يأتي بأشكال مختلفة منها (مليشيات) خاصة بالشركات، أو بواسطة أجهزة الحكومات المحلية، أو حتى الجيش، ولا يتوقف هذا داخل الولايات المتحدة، بل يتعداها الى ما وراء الحدود (بنما، المكسيك، الفلبين).
كما كان هناك صراعٌ دائم بين الأغنياء القدماء (الحافظين) وحديثي النعمة (النائلين)، فالقديم يكره الوافد الجديد للطبقة ويحاربه، وما أن تمر عشرة سنوات أو أكثر حتى يُضاف حديثو النعمة الى القدماء ويقومون بتمثيل نفس الدور.
إصلاح، حرب، وثورة، 1912-1921
حاول أصحاب الثروات الطائلة تحسين الصور المأخوذة عنهم، في إنشاء منظمات خيرية تهتم بصحة الفقراء وتعزيز مستوياتهم الثقافية، والابتعاد عن التعامل المباشر في قمع العمال، وخصوصا بعد الوحشية التي حدثت في مجزرة (لادلو).
وبازدياد الاستياء العمالي ومشاكل اجتماعية أخرى، اخترقت الجماعة الراقية الصفوف للمشاركة في حركات الإصلاح الاجتماعي. ومولوا مؤسسات خيرية. إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى وقعت تلك المؤسسات بشبكاتها الواسعة في شرك السياسات الانتخابية.
ولمنتقدي السياسات الإصلاحية الذين اتهموا القائمين بها بأنهم يتجهون الى طريق الاشتراكية، جادل روزفلت تكراراً: (الإصلاح الاجتماعي ليس نذيراً للاشتراكية بل عاملاً للحؤول دون بلوغها)*4
في الحرب العالمية الأولى، ساد قلقٌ حيال الحرب يتعلق بواقع (جاي مورغان) وشركاه كانت الوكيل الأمريكي الرسمي لعقد الصفقات مع الحكومة البريطانية. وحصل (مورغان) على 30 مليون دولار كعمولة لصفقة مباشرة أجراها الحلفاء بقيمة 3 مليار دولار، وكسب ملايين عدة على قرض أنغلو فرنسي بقيمة 500 مليون دولار.
وظهرت نزعات تخص الجانب العنصري واستحداث قومية (أمريكية) من خلال رسم مواصفاتها من قِبَل الطبقة الثرية الحاكمة، فأُغلقت الأبواب في وجه السلافيين والإيطاليين واليهود بين عامي 1921 و 1924*5
الإقطاعية المتحدة, 1922ـ 1932
في دراستهما بعنوان (الشراكة الحديثة والملك الخاص 1932) وصف (أدولف بيرل) و (غاردينز ميتر) النظام المتحد الذي تطور في العشرينات من القرن العشرين بأنه المرادف العصري للنظام الإقطاعي الذي تبدو فيه الشركات وكأنها حلت مكان الدولة بوصفها النموذج المهيمن على النظام السياسي*6
وقد شملت المساعي للتخطيط المتحد، والاتحادات التجارية على مستويات عليا على طراز إنشاء لجنة التداول الخاصة عام 1919 وهي اتحاد مالي بين مؤسسات عملاقة تضم (ستاندرد أويل؛ و دوبون؛ وجنرال إلكتريك).
في عام 1929 بلغت عملية توزيع الثروة قمة كبيرة جداً من عدم المساواة، عندما كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء أوسع منها في أي وقت آخر من القرن العشرين. وأخذت أشكال الترف والبذخ من جميع أوجهه تطال كل الجوانب، حتى تلك التي كانت تحاكي سلوك الأوروبيين الذين كانوا يكثروا السفر والسياحة في مستعمراتهم القديمة لزيادة رصيدهم الثقافي الخاص بالاطلاع على عادات الشعوب وطرقه في الحياة في الفن والثقافة وغيرها... فكثرت السفن التي تبحر لهذا الغرض لتجوب بحار العالم.
وما أن وقعت الأزمة المالية الكبرى في عام 1929 بانهيار الأسواق المالية حتى حل الذعر في كل أنحاء الولايات المتحدة. ولقد دعا الرئيس (هوفر) 400 شخصية مالية كبرى الى البيت الأبيض في كانون الأول/ديسمبر 1929. وقد نجح في ذلك بتصويب أوضاع العمال والإسهام في جمع مبالغ طائلة من الأموال لدعم الشركات المهددة بإعلان الإفلاس.
بعد الخروج من الأزمة عادت عملية انتقاد الطبقة الثرية وشحذ السكاكين للهجوم على 60 عائلة كبيرة لأنها بالغت في تأثيرها في إدارة البلاد والهيمنة عليها. وقد ساعد الرئيس (فرانكلين روزفلت 1932) في تقليم أظافر تلك العائلات وإدخال وتطعيم الطبقة الحاكمة من العناصر السياسية الاحترافية من الطبقة الوسطى.
فهل سيعود نفوذ تلك العائلات مرة أخرى؟
هوامش منتهميش المؤلف:
*1ـ Quoted in Aldrich, Old Money, 36
*2ـ Louis Brandeis, Other People's Money and How the Bankers Use It (1914; New York: Harper& Raw,1967),12
*3ـ Quoted in John Milton Cooper, The Warrior and the Priest: Woodrow Wilson and Theodore Roosevelt (Cambridge, Mass: Belknap Press of Harvard University Press, 1983), 116
*4ـ Quoted in Cooper, The Warrior and the Priest, 113; Garraty, Right Hand Man, deals with Perkins's career.
*5ـ See Gary Gerstle, American Crucible: Race and Nation in the Twentieth Century (Princeton University Press, 2001)
*6ـ Berle and Means, The Modern Corporation and Private Property, 1,356.