غالب الغول / يرد على مبحث. أ. د.أحمد محمد عبد الدايم
في بحثه .حول ظاهرة الخرم في علم العروض
http://www.alukah.net/literature_language/0/38379/
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
اليوم الأربعاء/ 27/ آب ( أغسطس) 2014 م
سررت جداً بهذا المبحث الذي حير العروضيين منذ قرون , ولم يجدوا له تفسيراً ظاهراً وواضحا .ً إلا كما قال أستاذنا أحمد محمد عبدالدايم في نهاية مقالته وكما يلي :
((أن الخرم رخصة للشاعر، يأتيها إذا كان مضطرًّا لإتيانها ومِن ثَم فإنَّه يوقعه في قصيدة عمدًا وقصدًا، وقد يكون ذلك لثلاثة أسباب:
أولاً:لدفْع حِدَّة الرتابة في القصيدة، الناشئة عن رَتابة الوزن فيها، ممَّا يدْفَع عن النفس الملل، ذلك إنْ كان الخرم في وسط القصيدة.
وقد يكون الشاعِر مضطرًّا لذلك؛ احترامًا لسلامة التركيب، وحرْصًا على صحة الأسلوب، ذلك إذا كان في مِصراع القصيدة وافتتاحها، وهذا هو الأكثر.
وقد يكون ذلك لإظهار القُدْرة والبَراعة والتفرُّد بتلاعبه في وزن القصيدة، فقد يأتي بشطر على بحْر، وبالآخَر على بحر ثان، وتصِل القُدرة ذروتها حين يرتكب الشاعر الخرمَ في الصدر والعجُز، فيأتي البيت على بحْر الكامل مثلاً، ثم يتحوَّل إلى الطويل، بعد أن يتخلَّى عن الخرم))))
وسيأتي مناقشة هذه العبارة لاحقاً .
لقد تعرض الدكتور الباحث إلى عشرات المراجع من الكتب العروضية ليصل في النهاية إلى الملخص أعلاه , ووضع لنا الشواهد الشعرية لأقوال العروضيين بين مؤيد ( للخرم ) وبين من يجعله ( مكروها) وبين من يجيز الخرم لتفاعيل أخرى .
ونورد الآن أهم الأقوال التي وردت على لسان العروضيين لمناقشتها وتوضيح أسرارها .
بدأ الدكتور حديثه عن العروض وصعوبته في مقدمته قائلاً :
(((، بل إنَّ الذين يجرؤون على الغوْص في بحور عِلم العَروض، أحسبهم لا يَزيدون على عدد أصابع اليدين إلاَّ قليلاً، فلعل مقالة الجاحِظ عنه بأنه "علم مستبرد" لا فائدةَ له ولا محصول" جعلتْهم يهابون درسه ويعزفون عن الخوضِ في مسائله، أو ربَّما صرفَهم عنه عجزُ الأصمعي عن أن يحذق هذا الفن، وصرْف الخليل له عن درْسه في لطف بقوله:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب )))
وأقول : إن كان يزيد عدد العروضيين على أصابع اليد , لمن يتقن هذا العلم عروضياً ولغوياً وموسيقياً فلا نحتاج إلى من يضيف في العروض شيئاً , ولكن الذين يفقهون هذا العلم على علاته الطبيعية الإنشادية والغنائية والإيقاعية فهم لا يتجاوزون عدد أصابع يد واحدة .
وأما قول الجاحظ (بأن العروض علم مستبرد ) فيرد عليه الخطيب التبريزي بقوله ( ولا سيما أن للجاحظ نفسه قولاً آخر يعترف فيه بوظيفة العروض ), ثم يضيف قائلاً : ( وربما كان كلا القولين مرجعه إلى افتراق المذهب وما يوقعه في النفس من هوى , فالنظام والجاحظ من أهل المعتزلة , والخليل من أهل السنّة ).
وأنا أقول : لولا علم العروض لما كان عدد الشعراء بالملايين , لأنه علم يبحث في نغم الكلام ثم حسابه وتحليله , وعلينا أن ندرك عمق هذه العبارة وفائدتها لدارس علم العروض والشعر .
وأما ما قاله الدكتور والباحث أحمد عن الأصمعي الذكي الفطين وما قال الخليل عنه : (أو ربَّما صرفَهم عنه عجزُ الأصمعي عن أن يحذق هذا الفن، وصرْف الخليل له عن درْسه في لطف بقوله:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب )
فنحن نعلم أن البيت الشعري أعلاه لم يقله الخليل بحق الأصمعي , وقائل هذا البيت هو (أبو تمام ) إذ قال :
السيف أصدق أنباء من الكتب ......
وربما أورده الدكتور بطريق الخطأ , وأما الصواب , فلقد قال الخليل للأصمعي هذا البيت الشعري الذي به خرج الأصمعي ولم يعد :
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ولما سمع الأصمعي هذا البيت , خرج ولم يعد , فتعجب الخليل من ذكاء الأصمعي .
والمهم , أنني لا أعارض مقالة الدكتور بهذا الشأن , بل إن العروض مهما بلغ من صعوبة , فلم يكن بصعوبة باقي العلوم كالهندسة والرياضيات والطب والعلوم الأخرى , ولكن السبب الذي نفر منه الناس , هو عدم إداركهم لما يرمي إليه العروض من أسرار إيقاعية , وبدأ العروضيون سيرهم نحو تفسير الظواهر الخارجية للعروض بلا عمق إيقاعي أو موسيقي , وظل كلامهم عن العروض هو هو دون أي زيادة أو نقص , بل قاموا بتشويهه وتعقيده مما أجبر فئة من العروضيين للبحث عن عروض آخر كبديل لعروض الخليل , فظهر الأديب الدكتور ( كمال أبو ديب ), الذي هو الآخر تاه عن مسار التفاعيل واخترع تفاعيل بأنوية لا تصلح لنظام الشعر .
ولقد أبدع الدكتور أحمد في قوله :
((أنَّ العَروضي يحتاج إلى أُذن موسيقيَّة مع قُدرة على تحصيل مصطلحاته واستيعابها، ثم إنَّه ذلك العِلم الذي يهيِّئ للناقد قدرةً على معرفة ما إذا كان الشاعِر يُجيد فنَّ النظم ويقدِر على تصريف الكلام، ويُقيم الأوزان أم لا ))
ولكن الدكتور الباحث لم يعرفنا عن ماهية هذه الأذن الموسيقة , هل تستطيع هذه الأذن التمييز بين البحور المتشابه بالمقاطع ؟ أم أنها مجرد إذن وعين تشاهد المقاطع فقط لتحكم على مسيرة البحر وإيقاعه ,؟
هل تستطيع الإذن الموسيقة أن ترصد إيقاع الكامل بتفاعيلة ( المضمرة كلها ) وبين الرجز بتفاعيله السالمة من الزحاف ؟وكيف ؟
وهل تستطيع الأذن الموسيقية أن تميز بين إيقاع الرجز بتفاعيل كلها مخبولة ( فعلتن ), مع تفاعيل قصيدة أخرى بتفاعيل ( سالمة من الزحاف ( مستفعلن ) وكيف ؟
والجواب بكل صدق : إن الاعتماد على الأذن الموسيقية بشكل مطلق لا يوصلنا إلى نتيجة , إلا إذا سبق هذه الأذن علم يسمى بعلم الإيقاع الشعري الموسيقي , ليعرفنا على التفعيلة إن كانت فعلاً أصابها (الخرم ) أو بقيت سالمة من أي علة أو زحاف , فالإنشاد الشعري الإيقاعي سيبقى هو الحكم , وليس صورة التفعيلة إن كانت مخرومة أو سالمة من الخرم .
وأما حديث الدكتور عن معنى الخرم , فهو منقول من كل الكتب العروضية دون أي زيادة , أي أنه النقص في أصل وتد التفعيلة , بحذف أول الوتد المجموع في أول البيت الشعري , صدراً أو عجزاً ولقد ورد في الصدر أكثر من العجز , وهذا لا خلاف عليه , ولكن الذي يهمنا هو :
لماذا يأتي الشاعر بالخرم؟
ومن الذي يبيح الخرم من العروضيين الأوائل ؟ ومن الذي لا يجيزه ؟
وهل يجوز الخرم في الأسباب والأوتاد معاً أم أنه مقصور على الأوتاد المجموعة ولا غير سواها ؟
ولقد أجاب الدكتور الباحث على لسان العروضيين بما فيه الكفاية , ولكن نحن نؤيد ما قاله الخليل الذي ثبت بأن له دراية في علم الموسيقى , ولذلك فكلامة هو الصحيح ولا نأخذ بأقوال غيره , علماً أن الأخفش وكل العروضيين باستثناء ابن القطاع الذي عارض رأي العروضيين , قد أيدوا ما نقل عن الخليل , بأن الخرم لا يكون إلا للتفاعيل التي تبدأ بوتد مجموع .
حتى أن الدكتور يضيف في بحثه قائلاً (((إلا أنَّني أرى أنَّ ابن القطاع، مع هذا، لم يخرجْ عن إطار الخليل بن أحمد في أنَّ الخرم إنما يكون في الجزءِ الأوَّل من البيت ))
وأما قول الدكتور :
( أما الأخفش ,فقد ذكر حين حديثه عن الزحاف في مستفعلن ,حينما يدخله التشعيث ,وهو حذف سابعه الساكن , وتسكين ما قبله , وبه صار إلى ــ مفعولن ــ )
وأعتقد هنا أن الدكتور أحمد قد أخطأ في نقل هذه العبارة , لأن مستفعلن حين تصير إلى ( مفعولن ) فلا يسميها الخليل أو الأخفش ( مشعث ) بل تسمى بعلم العروض ( مقطوع ) أما التشعيث فلا يكون إلا في تفعيلة ( فاعلاتن , حين تصير مفعولن ) ولا يوجد التشعيث إلا في بحرين فقط وهما ( الخفيف والمجتث )
ولا بأس في ذلك , فحديثنا عن لقب الأخرم فقط , وليس عن لقب التشعيث .
ويقول البغدادي حول الخرم كما نقله الدكتور في بحثه : (والبغدادي يرَى أنَّ الخرم عيب، يُعاب مرتكبه، ويرى أنَّه مستكره عندَ العرب، يقول:
: والخرْم مستكرَه عندَ العرب، وإنما يقَع في الضرورة، ولم يجزه جماعة المولدين )
ومن هنا علينا أن نتساءل :كيف يكون الخرم جائزاً وفي الوقت نفسه مستكرهاً ؟ عجيب هذه الأمر , ولكن الصواب في هذا الأمر أقول :
ليس الخرم ممنوعاً ولا مستكرهاً , لأن الخرم لا يجوز في كل التفاعيل , بل هو جائز في كل التفاعيل التي تبدأ بوتد مجموع , سواء أكان البحر خليلياً أم مستحدثاً , والسبب في ذلك يعود إلى ما قلناه سابقاً وما نقلناه لكم عن الخطيب التبريزي الذي قال :
((علم العروض ... هي القدرة على الفطنة إلى نغم الكلام ثم حسابه وتحليله . ولا بد من الحساب والتحليل . .. والعروض غرضه الضبط والتصنيف ووضع المقاييس ))
إذا فهمنا سر هذه العبارة , فستنجلي أمامنا كل الشبهات في الحكم على الخرم إن كان جائزاً أو مكروهاً , فعندما يكون نغم الكلام ( الإنشاد ) هو الحكم بين المقاطع ولفظها لفظاً إنشادياً , أو عندما نحسب خسارة كل تفعيلة زمنياً جراء إصابتها بالعلة أو الزحاف , , وعندما نعرف ونتحقق من المقاييس الوزنية الشعرية الموسيقية إن كانت مقاييس ثلاثية أو رباعية أو ثنائية , فعند ذلك يسهل علينا القول بأن ما تفقده التفعيلة من الزمن عند خرمها , فلا يتعدى نصف ثانية , وهذه الخسارة عندما تكون في بداية البيت الشعري فإن الموسيقار أو المنشد يستطيع أحدهما أو كلاهما تعويضها وكأن المتلقي لا يحس بهذا النقص , فبدل من أن نلفظ التفعيلة ( ف عولن ) نستطيع هضم الفاء ونقول . عولن ) دون أي خلل في الوزن . ولكن إن كانت الخسارة سبباً ثقيلاً أو سبباً خفيفاً فإن الخسارة الوزنية والزمنية تكون أكبر , ومن هنا يكون الإيقاع فيه عرقلة وضعف وتلعثم , لذلك فإن جميع علماء العروض وافقوا على الخرم وما شابه الخرم في التفعيلة ( فعولن ) ( فعولُ ) ليصيرا ( عولن . عولُ ) في أول البيت الشعري , ولا مانع أن يكون في أول الشطر الثاني , وكذلك ( مفاعيلن , ومفاعيلُ ) يمكن أن تصيران ( فاعيلن ) ( فاعيلُ ) ولا خرم قطعياً في حشو البيت الشعري .
وختاماً أجيب على سؤال الأستاذ أحمد عند حد قوله :
((ومعنى هذا ببساطة: أنَّ الطويل إذا خُرِم في صدْره وعجُزه يتحوَّل إلى الكامِل، بمعنى أنَّ أبيات القصيدة كلها التي علَى الطويل إذا دخلَها الخرمُ في الصَّدر والعجُز تتحوَّل إلى الكامل، وهنا نتساءل:
هل الكامِل هو الطويل المخروم الصَّدر والعجُز؟ أقول: ربَّما ))).
وإجابتي : عندما يقرض الشاعر قصيدته على نمط واحد من الزحافات , التي توافق مقاطع الكامل , ثم التزم بالخرم في الصدر والعجز لكل أبيات القصيدة ( وهذا لزوم ما لا يلزم وبه مشقة وجهد كبير جداً ــ فعندها نقول للشاعر المنشد : انشدها على إيقاع الكامل فقط . فينشدها إنشاداً لا علاقة له ببحر الطويل ,
وعندما نكلفه أن ينشد القصيدة على وزن وإيقاع بحر الطويل بالخرم , فإنه ينشدها على إيقاع الطويل بكل براعة , دون الخلط بين البحرين , ومن هنا نقول : أن البحر الشعري لا تقدره المقاطع العروضية وحدها , بل لا بد من وجود إيقاع ليكون هو الحكم على سير بحر القصيدة .
وهنا تكون القصيدة لها وجهان إيقاعيان , للطويل مرة , وللكامل مرة إخرى , ولا يجوز الخلط بينهما في قصيدة إيقاعين مدمجين .
أشكر الأستاذ الدكتور على همته وتقصيه لهذه العلة في الخرم , وما تقدم به من أدلة وشواهد , وبارك الله به وبكل مجتهد أمين على لغتنا وتراثنا .