غاندي

السيرة الذاتية ل موهانداس كارماشند غاندي

مسرحية وحيد - مونودراما


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




“المسرح عبارة عن زنزانة مظلمة، نقطة الضوء تتركز على وجه رجل نحيل الجسم، يرتدي ثياباً بيضاء فضفاضة لُفت على جسده لفاً. وبين الحين والآخر يسطع ضوء كاشف يتحرك في ارجاء المكان، هو ضوء مراقبة السجن. غاندي يُغطي وجهه بيديه النحيلتين ويشد اليه ثوبه ويبدو مرتجفاً لشدة البرد وسعالة يشتد، وبعد ان يهدأ قليلاً، يقف على قدميه ويقترب من القضبان”.

غاندي:

أعرف
أنكم تعانون أكثر مني..

فان هذه الزنزانة الضيقة، وبرغم كونها قفصاً يكتم انفاسي

فهي تقيني اشعة الشمس الحارقة، وبرد الشتاء القارس..

وانتم هناك يا اخوتي..

قد سلبكم الانجليز.. حتى ثيابكم..

ووقفتم بجلودكم، التي لا تغطي سوى العظم، امام الشتاء والصيف

وتحت بطش احتلال لا يرحم..

ليكن رب السماء معكم

لقد مضى على محاكمتي.. لا اذكر كم..

لو عددت الخطوط على الحائط قد اعرف..

عذراً.. “يعُد الخطوط والاشارات فوق حائط الزنزانة”

نعم مائة يوم وثلاثة ايام ونصف..

لم أرَ احداً خلال هذه المدة.. إلا وجوه الجند والحراس

وجوه اناس

لا تشبهنا.. عيونهم ليست كعيوننا وقلوبهم ليست كقولوبنا..

لا يفكرون مثلنا..

ولا يحلمون مثلنا..

وجوه تحمل كل ما بالكراهية من معنى

انهم يُجسدون الطمع والموت..

انهم قساةُ قلوب لا يرحمون..

لقد إعتقلت.. وجاء اعتفالي تماماً على اثر وقف عصياننا المدني العنيف

وهذا خير دليل على ان سلطات الانجليز

تَود ان ترى هذه البلاد مغطاة بالموت

بحوادث القتل والنهب والسلب..

اتدرون لماذا؟؟!!

كي يكون لهم ذريعة.. لأن يضربوا شعبنا بيد من حديد

انهم يريدون ان يفهمونا اننا شعب متأخر

لا يملك المقدرة على حكم هذه البلاد..

انا اقول لكم يا اخوتي

انني لا اقبل العنف

ولكن اللاعنف بنظري اقرب الى معنى الثورة من العنف

لن يكون صلح مع الانجليز ما دام هذا التمساح الانجليزي يتمدد على ارضنا

ويهز في وجوهنا انيابه الدامية

ان في السماء رب عادل..

لا يقبل بأن يدوم الظلم..

وان كفاحنا الذي ابتدأ سنة 1920

هو كفاح يجب ان يبلغ نهايته...

سواء استمر شهراً ام عاماً

ام شهوراً ام اعواماً

واسأل الله ان يهب بلادي من التواضع والقوة

ما تستطيع ان تكافح به الى النهاية

اما ان نصبر على هذا الظلم

فهذا مستحيل

“غاندي يسعل سعالاً حاداً”

ماذا يريدون منا؟؟...

لقد نهبوا البلاد

لقد اذلوا العباد

انهم لا يشبعون..

“الضوء الكاشف يعود ليسطع متجولاً في المكان”

انها ليست الشمس.. هذا الضوء ليس ضوء الشمس..

انها اضواء شموسهم الكاذبة، التي يبحثون بها عن اثار جرائمهم

وعن اشلاء حلمهم الذي بدأ يتبعثر امام ارادتنا القوية

“يشتد شعاله الى درجة كبيرة”

لا اريد الموت

اريد ان آرى شمس بلادي تشرق

على شعب قد نال حريته

اريد ان لا اموت قبل ان ارى ارضنا تخلع

ثوب الدم.. ثوب الموت، وترتدي ثوب الحياة..

انني اشعر بالبرد..

واشعر بالندم ايضاً

لانني قد فكرت يوماً.. بان الانجليز اناس مثلنا..

اراوحهم كارواحنا

وقلوبهم كقلوبنا

لقد جلست معهم سنة 1893 في جنوب افريقيا.. نعم

وتبين لي..

اننا بنظرهم لسنا بشراً... لا كأدميين.. ولا كهنود

لقد حاولنا كل السبل

لكنهم قابلوا ذلك باقسى درجات الموت

سلبونا كل شيء

مثلوا بالابرياء..

ذبحونا دون رحمة

وغير ذلك من الفظائع والجلد والاهانة..

ان الهند التي لا سلاح لها اصبحت على درجة من الفقر

بحيث ضعفت وعلى الرغم من خيراتها ان تقاوم المجاعات

لقد ارجعونا الى الخلف

لقد عادوا بنا الى احوال لا تطاق

وضعوا ظهورنا للموت ووجوهنا كذلك..

ان الهياكل العظيمة المنتشرة في كل مكان..

لا يمكن لأي تعتيم ان يخفيها

ان هذه الهياكل العظيمة تفضح للانسانية.. وللانجليز انفسهم

فظاعة جرائمهم

وحق لهم ان يسألوا

لماذا هذه الجرائم التي لا نظير لها في التاريخ

انه من الجريمة ان نحبكم ايها الانجليز..

ان عدم التعاون مع الشر واجب

سلاحنا الذي نرفعه بوجهكم

هو سلاح اللاعنف.. بوجه العنف

واقول لكم ايها الانجليز

ان السلام ممكن.. ليس ممكناً فقط بل هو قوة..

وسيبرهن شعبنا الاعزل..

ان للقوة المعنوية سلطاناً اكبر من سلطان القوة والسلاح

وسيبرهن الانسان الضعيف..

ذو القلب والذي يقف بوجهكم دون سلاح

ان الحكماء هم وارثوا الارض

لا قوة الساعد بل قوة الروح

“السعال يشتد، ويعود الى فراشه ويغطي جسده النحيل ببعض الاغطية”

لماذا انا هنا؟؟

السجن هو مكان للمجرمين الخارجين على القانون..

وانا..

انا..

اي قوانين هذه التي يطبقونها علينا..

نحن اهل هذه البلاد..

عظامنا من صخورها

لحمنا من ترابها

دماؤنا من انهارها..

لقد جاء الينا هؤلاء الغزاة منذ ثلاثمئة عام..

وعلى وجه التحديد سنة 1650..

ان مساحة بلادنا الهند تبلغ 1808680 كيلومتراً مربعاً

انها بقدر مساحة اوروبا كلها

وعدد سكاننا بقدر عدد اوروبا كلها

ويأتي الانجليز..

من خلف الضباب..

يأتون.. من خلف البحار والمسافات.. لنهب بلادنا واذلال اهلها..

لماذا؟؟

لقد نشروا الرُعب في كل مكان

لقد نشروا الفقر في كل مكان

وليس سوى الموت في كل مكان

انا انسان من لحم ودم..

والهند تسكن كياني..

جرحها يدمي القلب والروح معاً..

منذ ان فتحت عيني.. على هذه الدنيا..

كان الانجليز..

كان ذلك سنة 1869 في الثاني من تشرين الاول..

نعم كنت طفلاً صغيراً.. ضعيف البنية..

لكن روحي كانت عالية.. كارواح كل الاطفال..

عالية تطير كالعصافير.. كالفراشات الملونة..

“غاندي يعود وينهض من فراشه، يبدو اكثر حيوية من ذي قبل.

يقترب من القضبان يهزها بيديه”

نعم كنت طفلاً صغيراً..

واذكر..

كانت السماء مظلمة تغطيها سحب كثيفة..

والريح تهب من ناحية المشرق..

كانها تنهدات عميقة

وعلى عتبة احد المنازل في “بوربابدر” المدينة البيضاء

القريبة من ساحل البحر

كنا ثلاثة.. انا واثنان من اخوتي

كنا ننظر الى السماء بخشوع ورهبة..

لقد انتظرنا طويلاً..

كنا نبحث بالسماء المكفهرة السوداء عن شيء ما..

ثم هتفت..

هتفت باعلى صوتي

“غاندي يتحول بصوته وحركاته الى مرحلة بعيدة مرحلة الطفولة”

هتفت لقد طلعت

لقد طلعت

لقد طلعت الشمس..

“بصوت حزين”

كانت الشمس تبرز باشعتها المتعبة الذهبية من بين سحابتين ثقيلتين توشكان ان تُطبقا عليها من جديد..

ركضت قبل ان يحدث هذا

وناديت باعلى صوتي

يا امي.. يا بوتلباي

يا امي..

لقد طلعت الشمس

نظرت الى امي بنظرات حنونة

وقالت: اعطني يدك لانهض يا موهان

موهان هو الاسم الذي كانوا ينادونني به في طفولتي..

إنه اسم جميل كلما سمعته او ناداني به احد.. اشعر بانني عدت طفلاً

مددت يدي النحيلة لاساعد امي ان تنهض..

كان لونها شاحب، وجسمها ضعيف.. نهضت متثاقلة

واتجهنا شطر الباب بخطى بطيئة وما ان فتحنا الباب

حتى كانت الشمس قد اختفت خلف تلك الغيوم السوداء الثقيلة

وسألت امي: اين الشمس يا موهان؟!

سالت الدموع على خدي

لقد كانت الشمس هنا منذ لحظة يا اماه..

اقسم لك انها كانت هنا.. لكن انت تأخرتِ في النهوض

وتباطأتِ في المسير.. فاختفت

اقسم لك انها كانت هنا.. اسألي اخوتي.. لقد رأوها مثلي

لكنها ابتسمت إلي ابتسامة عريضة.. حزينة

وقالت: لا عليك يا بني

ان الله لا يريد ان آكل في هذا اليوم

لقد كانت صائمة.. ونذرت ان لا تأكل إلا اذا رأت الشمس تبرز

من بين الغيوم.. وقد انفضت على ذلك ثلاثة ايام كاملة

لم تذق فيها الطعام ولا الشراب

ولما برزت الشمس.. لقد رأيتها انا.. واصبح بميسورها ان تتناول الطعام

تركت هذه الفرصة تفوتها.. واستمرت وكأن شيئاً لم يحدث

يا له من صبر عجيب

من يدري متى تبدو الشمس مره اخرى

فان الشمس في الهند لا تظهر في فصل الامطار إلا في فترات متقطعة

وقد تختفي لعدة ايام..

لا اريد ان تموت امي.. انها تستحق الحياة

وكان والدي “كابا” يحبها كثيراً

يا لها من ام طيبة..

لقد كرست عمرها لعمل الخير والاحسان ونشر الخصال الحميدة بين الناس

ويعرفها الجميع بورعها وصلاحها وحبها لكل ذي حياة

لطالما رددت معها صلاتنا اليومية كل صباح قبل ان تشرق الشمس

تلك الصلاة التي لا زلت ارددها حتى هذه اللحظة

يا زهرة الصمتِ الصباحي

يا من تسلكين دروباً لم يَعْلُها غبار..

ولم تطأها قدم

ألا.. شُقي طريق الفجر

وكوني

كوني شفيعتنا عند الله..

بعد كل صلاة كانت امي تطبع قبلة على جباهنا جميعاً وتضمنا الى صدرها

ومن ثم تلقننا.. ونردد خلفها

انا حر

انا شجاع

وسأقول الحقيقة دائماً

وبعدها تقول لنا: هكذا تتعلمون يا اولادي كيف تحكمون انفسكم

لا تعتدوا على احد ابداً.. واصنعوا الخير دائماً

لقد كانت امي هي معلمي وصديقي.. وكل شيء بحياتي

احياناً أشعر بانها اوتيت المعرفة كلها

مرةً واحدة اختلفت معها.. مرة واحدة..

كان ذلك.. نعم اذكر..

كان في منزلنا خادم من المنبوذين..

يكلف بالقيام بتلك الاعمال القذرة الشاقة..

كان ذلك الخادم كبير الرأس.. محمر العينين..

وكان دائماً يبكي

وكانت امي توصيني بان اتجنب ذلك المنبوذ ما استطعت اليه سبيلا

وكانت تقول: ان ديننا ينهانا يا ولدي عن لمس “الباريا” اي المنبوذين

وكنت اصغي اليها باهتمام..

ولكن في هذه المرة لم استطع فهم ما تقول..

وسألتها: لم لا استطيع ان ألمس “داوا بي” يا امي؟؟ ماذا صنع؟

فقالت: لا شيء يا ولدي انه منبوذ والله يأمرنا بتجنبه

وسألت: لماذا يا اماه؟ لماذا؟

هل اقترف ذنباً؟

هل كذب؟

فقالت: كلا

سألت: هل سرق؟

قالت: كلا.. ان داوابي رجل شريف

فقلت غاضباً: اذن ما معنى نصيحتك يا اماه؟

فقالت: ان الله امر بذلك

فقلت: ولما امر الله بذلك يا اماه؟؟

لم تجبني.. بل صمتت

ولم استطع ان اتقبل هذا الامر.. وخرجت الى فناء المنزل افكر بالامر

الذي لم استطع ادراكه

وفجأة بدأت ارى في الشارع ان الناس الكبار والصغار

يتجنبون المنبوذين ويزدرونهم ويحتقرونهم دون سبب

هل هذا معقول؟!

لا.. ان هذا غير معتقول

شعرت بان علي ان افهم هذا السر اكثر

كان ذلك المنبوذ يرتدي ملابس قذرة..

وكان شعره اشعث

وجلده وسخ وشكله كئيب جداً

دنوت منه..

أمسكت يده..

رفعتها الي..

وقبلتها.. نعم قبلتها

قبلتها رغم انني قد خالفت اوامر امي..

وانها ستغضب..

ستغضب كثيراً..

وان الألم سيمزق قلبها اذا علمت ان ابنها قد خالف اوامر السماء

لكن الرغبة التي سيطرت عليَّ.. كانت اقوى من كل شيء

عندما قبلت يد ذلك المنبوذ

شعرت بانني قمت بعمل عظيم

عمل عظيم جداً

تمتماً كأعمال القديسين الذين طالما سمعت امي تحكي عنهم

وبعدها اخبرت امي..

لم تغضب

بل قالت.. انت حر وانت شجاع

والشجاعة هي ان تتحدى..

شعرت بانها هي روح السماء على الارض

وعانتقتها عناقاً.. لا اول له ولا آخر

ان الوقت هنا يمر بطيئاً

وله نبض قاتل كاسنان المنشار

ان صمتُّ اشعر بثقل اللحظات فاشعرها مزيجاً من الثلج والنار

وعندما اتكلم.. اشعر بأنني اودع للرياح قضيتي

والرياح ستنقلها الى ملايين الناس من شعبي

تهمس النسمات بها لتلك الآذان التي ستصنع الانسان

الذي سيصنع الثورة

“الضوء الكاشف يعود ليتجول في انحاء المكان..

ويتسلط على وجه غاندي الذي يضع يديه على عينيه

إلا انه سرعان ما ينزل يديه”

يجب ان اعتاد الضوء

يجب ان لا تعتاد عيني على الظلمة

هذا الضوء ليس ضوء الشمس التي احب

انه ضوء عيون وكشافات تظارد احلامنا

ولكن لا بأس

ان ضوء الشمس سيهزم ذات صبح كل الاضواء المصطنعة الفاسدة..

ان الشمس كفيلة بان تضمن الحياة

ولكن..

يجب ان يفهم هؤلاء الذين يظنون بانهم يغطون الشمس يقبعاتهم

انه

كي ينبت القمح

يجب

ان يهلك البذار

وانه عليك ان تحارب عدوك بالسلاح الذي يخشاه

لا بالسلاح الذي تخشاه انت..

“السعال يشتد به، إلا انه يبقى قريباً من القضبان”

لا اريد النوم اريد ان ابقى صاحياً.. اريد ان ابقى معكم..

ان البرودة تتسلل الجسد عند النوم..

“لحظات من الصمت

تمسع انغام موسيقى هندية شعبية كتلت التي تُعزف في الاعراس

غاندي ينصت بتلهف”

انني اسمع موسيقى

نعم انها موسيقى شعبية من تراث الهند

انه بلا شك حفل زفاف..

او انه احتفال بولادة مولود جديد

“ينصت مرة اخرى”

لا انه حفل زفاف.. لا يهم كثيراً

لكي تستمر الحياة.. يجب ان يستمر الزفاف

وتستمر الولادة..

الزفاف عند الهندوسيين هوشيء مقدس..

ولذلك فحفل الزفاف يُنفق عليه من الاموال.. كثيراً.. كثيراً جداً

انا اذكر يوم زفافي

لقد فكر والدي “كابا غاندي” بان يزوجني لم اكن على علم بذلك..

كنت لا اهتم بأي شيء

إلا لحال مجتمعنا.. وللبحث في الكتب عن اسرار الكون والناس

اما والدي وقد ادرك ان مصاريف الزواج باهظة

فقد طلب من اخيه قائلاً: لما لا نزوج ولدينا في يوم واحد

فاني قد بلغت مثلك سن الشيخوخة

واريد ان اسعد بزفاف ولدي قبل ان يوافيني الاجل

فلنزوجهما معاً.. ولنتقاسم نفقات العرس فانها باهظة كما تعلم..

وهكذا بدأت التحضيرات

وانا لا اعلم بشيء

بدأ والدي يبحث عند معارفه عن عروس يراها مناسبة لي

وقد وجد ذلك

وبدأ مشوار الزفاف.. الذي يبدأ قبل شهور من الزفاف

كنت ارى على غير العادة اناسا يدخلون ويخرجون عندنا

لم اكن اعرفهم من قبل

وصرت ارى الزينة.. تكثر وتزداد

وتعددت الولائم والموائد

ولا أنكر انني كدت اطير من السعادة عندما اخبرني والدي بامر زواجي

وكان يوم الزفاف

“انغام الموسيقى ترتفع وتدنو.. والاضاءة تتغير وغاندي يبدو سعيداً..

واكثر حيوية من ذي قبل”

كان الفرح يطغى على المكان

واحبال الزينة معلقة تراقصها النسمات

وتبدلت الثياب البالية بثياب انيقة ملونة

وكانت الولائم متواصلة

والنسوة يذهبن ويجئن ويتهامسن بغموض ساحر

والابتسامات ترتسم على كل الوجوه..

كل ذلك يوحي

بان الزواج هو حلم الحياة وسعادتها العظمى

واقبلت ليلة الزفاف

وازدحمت الدار بكل اصناف الناس من مدعوين ومنجمين وكهنة

وموسيقى ومتسولين ايضاً

وتناثرت الزهور

وتفوحت العطور

وسطعت الانوار

ورأيت خطيبتي تتقدم إلي

كانت المرة الاولى التي اراها

كنت مذهولاً

وادركت ان علي ان اتقدم اليها

وسرت الى جانبها كان قلبي يخفق حتى كنت اسمع نبضاته

وسار الجميع خلفنا

تقدمنا..

ورافقنا الجميع الى المذبح حيث تتألق المشاعل ويتضوع البخور

كانت الفتاة خطيبتي معصوبة العينين

فدارت حول المذبح سبع مرات ووقفت

وفعلت مثلها.. دُرت سبع مرات

ووقفت امامها وجهاً لوجه

نعم وجهاً لوجه

نظرت اليها كانت عيونها لا تزال معصوبة

كانت كالبدر تغطيه السحابة

وصمت الجميع إلا انا

كان علي ان اردد على مسامعهم ذلك القسم.. بصوتي المرتجف

أقسمَ.. بأبوي.. وبالاله الواحد.. ان اغمرك بحناني

وان احميك.. واحبك الى الابد..

واقسمت هي ايضاً.. ذات القسم

وفجأة..

القي فوق رأسينا وشاحاً كبيراً

غطانا تماماً

وعندها فككت العصبة عن عينيها

ونظرت اليها.. تلاقت عيوننا للمرة الاولى

شعرت بسعادة لم اعرفها من قبل

ورفع الكاهن الوشاح

واقسمنا اليمين من جديد

هذه المرة لم ارتجف

اقسمت وانا امسك يدها

يدك على يدي.. وقلبك على قلبي.. وقلبانا متصلات بقلب الله

وهكذا اصبحت

كاستوربي زوجتي

التي احبها.. وتحبني وتقاسمني الحياة بحلوها ومرها..

قد لا تصدقون

ولكن بعد زواجي عدت الى المدرسة..

لانني حين تزوجت كنت صغيراً..

لم ابلغ الخامسة عشرة من عمري..

كنت تلميذاً متوسطاً..

ولكن كنت مجتهداً ومطيعاً لأساتذتي

كنت امقت الالعاب الرياضية

وكدت انحرف كما ينحرف الشباب

انها رفقة السوء..

كان ذلك الصديق سيء الاخلاق فاسدها

وحذرني الجميع من رفقته..

ابي وامي وزرجتي واناس كثيرون ممن عرفوني...

ولا ادري لماذا.. ابيت الاصغاء لاحد

كنت اعتقد ان بأمكاني اصلاحه وليس بامكانه افسادي

إلا انني اخطأت.. اعترف بذلك..

الانسان يخطئ ومن الفضيلة ان يعترف بغلطه

كانت اوضاع البلاد تسير من سيء الى اسواء..

وبدأت فئات من المجتمع تخرج على التقاليد الهندية..

فيأكلون اللحم ويعاقرون الخمر

وما الى ذلك من اشياء محرمة ممنوعة

لقد حاول صديقي اقناعي بهذا الدرب

وقال لي: نحن امة ضعيفة

لاننا لا نأكل اللحم

ويحكمنا الانجليز لانهم من أكلة اللحم

فهم بسبب ذلك اقوى منا جسماً واطول قامة

فاكل اللحم يقوي الجسم ويطرد الخوف ويعزز الثقة بالنفس

ولا اخفي عليكم بانني صدقته

فانا كنت ضعيفاً هزيلاً شاحباً

اخاف من الظلمة والافاعي واللصوص

وانا اكره الظلمة

اكرهها جداً

فلا انام إلا وغرفتي مضيئة

واخجل من زوجتي لشجاعتها فهي لا تعرف الخوف

لقد صدقت صاحبي حين قال انه بعد ان بدء يأكل اللحوم..

اصبح لا يخشى شيئاً.. يسير في الظلمة..

ويمسك بالافاعي.. ولا يخشى حتى الاشباح

بت اصدق ان اكل اللحم خير من تجنبه

وقررت ان أمر بهذه التجربة

لكن الامر الذي اعتقدت بانه سيخلصني من ضعفي ومن خوفي

كان بالنسبة لي ايضاً مبداً كفيلاً بان يحرر بلادي اذا هي قويت

وجاءت التجربة صعبة قاسية فظيعة

كنت كمن اقترف جريمة او رذيلة ولما تناولت اللقمة الاولى

شعرت بقرفٍ شديد وعصفت بنفسي عواصف متضاربة وانتابتني رعدة باردة

واحسست بما يشبه المرض

وقضيت ليلةٌ مرعبةٌ.. كان كابوساً قاتلاً

لم اذق طعم النوم

كان يخيل الي انه الي جانبي تتمدد عنزةٌ ذبيحة

وبقيت طيلة تلك الليلة فزعاً مذعوراً ممزق القلب بعذاب الضمير

لم اذق طعم اللحم منذ ذلك اليوم ابداً ابداً

وكان ذلك كفيلاً بان يجعلني اترك صديق السوء هذا

ومرض ابي

واشتد به المرض.. ولازم فراشه

وتذكرت قصة (شرافانا) التي طالما كان والدي يرويها لي في طفولتي

شرافانا هو ذلك الفتى الذي أخلص اخلاصاً عجيباً

كان ذلك الفتى يحمل ابويه الأعميين على ظهره

في هجرة طويلة هرباً من قسوة الحياة بحثاً عن لقمة الخبز

وعندما كتب القدر ان يموت الفتى..

ويبقى الابوان الاعميان العجوزان

وتركهما وحيدين معذبين يرثيانه طيلة ايامهما

كنت اتقطع ألماً على كلمات ذاك الرثاء

وطالما كنت في صغري احمل (الكونشرتينا)

التي اشتراها لي والدي

واعزف لحن الرثاء الخالد لشرافانا

“غاندي يقف صامتاً.. وتنبعث موسيقى حزينة

ويدندن لنفسه كلمات لحن الرثاء الخالد لشرفانا”

شرفانا

يا ايها الصغير

الذي يكبر فوق الاوجاع دون طفولة

ويحمل جبالاً من الالام ويمضي

يا قلبك الصغير

الذي يحمل ملح البحار

واعمار الغابات والجبال

شرفانا

يا ايها الغزال الذي ينزف دماً

على مدى الصحراء

ولذلك

يكون الشفق من دمه احمراً

لحظة المغيب

شرفانا

يا ايها الطفل الحبيب!!!

ومات ابي.. كنت في السادسة عشرة..

كنت لا ازال تلميذاً كبيراً في المدرسة

شعرت بانني لم اكن شرفانا

وعندما انهيت الدراسة الثانوية التحقت بكلية ساملداس في بافنجار

ولكن سرعان ما تركت الدراسة

لم اكن افهم ما يقوله الاساتذة..

وفجأة اردت ان اكون محامياً

وهذا كان يقتضي ان اسافر الى انجلترا

لأن المستعمرين قد فرضوا انه على من يريد احتراف المحاماة او القضاء

عليه ان يتعلم في بلادهم..

وسافرت بعد تردد وحيرة وعناء.. الى بومباي

ووصلت الى لندن عام 1889 وتركت خلفي زوجتي..وابني الرضيع

كان عمري عشرين سنة

ورويداً رويداً.. اصبحت اقترب منهم.. اعيش حياة جديدة

ارتدت ثياباً جديدة..

وانظر حولي مفتوناً ومسحوراً ببريق الحياة الجديدة..

وانتهت رحلتي في انجلترا..

واصبح بوسعي ان امارس مهنة المحاماة

وعدت الى الهند على متن الباخرة (أسام)

امامي الهند بكل حرمانها

وخلفي انجلترا بكل بريقها

وقفت على ظهر السفينة اتطلع الى مشرق النور

والعاصفة تزأر من حولي وتثير الامواج بعضها على بعض وتتلاطم

وتتلاطم بنفسي عاصفة اخرى

ماذا اصنع لاصلاح امة افسدها الغزاة

وكيف أصل الى تحرير بلاد مستعمرة؟؟

بأي ناحية ابدأ؟؟

وامتي قد استوطنها الياس والذل والفقر

تئن تحت اقدام اقوى دول الارض واقساها

كانت صورة امي بوتلباي وصورة زوجتي كيترباي وصورة ابني ديفاداس

الذي اقترب من سن الرابعة لا تفارق خيالي

وعندما حطت السفينة في الميناء

كان اخي في انتظاري

عانقته عناقاً شديداً

واول سؤال سألته اين امي..

لم يقل شيئاً

كانت تسيل على خده دمعة كبيرة.. اكبر من البحر

صرخت باعلى صوتي

امي ماتت؟؟!!!

واضطربت حياتي بعد عودتي الى الهند واهتز كياني

وكانت جنوب افريقيا مهجر الهنود المألوف..

لقد هاجر اليها الكثيرون

للعمل باجور بسيطة في مناجمها الكثيرة والكبيرة..

وهناك عانى الهنود من ابشع مظاهر الاستغلال والظلم والاضطهاد..

كانوا عبيداً بكل ما في الكلمة من معنى

وهناك بدأت مشوار كفاحي العملي.. في سبيل الضعفاء

داعياً الى الاتحاد والاضراب ومقاومة الظلم

واشتريت جريدة الرأي الهندي سنة 1904 وجعلتها منبراً للكفاح

في سبيل العدالة والحرية

واثرت بذلك اثراً كبيراً بحياة العمال والمستضعفين..

وحوكمت وسجنت اكثر من مرة..

وجاء النصر الاول سنة 1913 بعد ان صدر قرار يلغي التدابير الظالمة

بحق العمال والتي كانت هي عنوان الثورة

وعندما نشبت الحرب العالمية الاولى.. خدعتنا انجلترا..

قامت الهند بدعمها وسرعان ما تنكروا لنا

وهكذا بدأت ثورتنا

ثورة اللا عنف

هل تعلمون كيف كانت تدور المعارك بيننا وبين الانجليز

كانوا مدججين بالسلاح

باتجاه صدورنا يصوبون بنادقهم المحشوة بالرصاص

وكنا نتقدم

لا نكترث

ويطلقون النار فيسقط منا من يسقط

ولكننا نتقدم

ونتقدم..

ونتقدم..

دون ان نرفع يداً واحدة

“غاندي يرفس باب السجن بقدمه فيسقط.. ويتقدم”

لم نكن نقف امام بنادقهم

كنا نتقدم

“يسمع صوت رصاص كثيف”

هم يطلقون النار

ونحن نتقدم

هنا سقط.. صديقي

وهناك سقط اخي

وهناك سقط جاري

وهناك..

وهناك..

وهناك..

على كل شبر من هذه الارض سقط الشرفاء

وفي النهاية

حين كنا نتقدم

كانوا هم يلقون اسلحتهم ويهربون..

او يجمدون في اماكنهم

ونحن نتقدم دائماً

وهكذا ولدت الثورة..

وهكذا جئت الى هنا

انهم

يسجنونني

ظناً منهم ان يسجنوا الحرية

ويوقفوا الشمس عن مسارها

ولكن مستحيل

وانا اقول

ليس في الحياة الافراد ولا في حياة الشعوب خطأ لا يمكن اصلاحه

فالرجوع إلى الصواب يمحو جميع الاخطاء

اقول لكم

ان الارادة هي مفتاح الوصول

بشرط ان نمضي ونسعى للحصول على ما نريد

انهم هناك

يصوبون اسلحتهم الى صدورنا

لكن.. لن نخشاهم ابداً

نحن لا نخشى الموت

لاننا نريد الحياة..

“غاندي يتقدم ويتقدم يخاطب الجمهور”

ان سقطت انا

لا يهمكم

تقدموا..

تقدموا..

تقدموا..

“تسمع أصوات أزيز رصاص

غاندي يبدو وكـنه اصيب.. يمسك بطنه

ويتلوى إلا انه يبقى واقفاً.. يتقدم”

لا يهمكم

ان اصبت

او ان مت

تقدموا

لان الثورة دائماً تمضي للامام..





ستار






تنويه

قضى المهاتمى غاندي في سجنه عامين، ساءت خلالهما صحته كثيراً، واضطربت الحكومة وتولاها القلق لمرضه المتعاظم، لانها كانت موقنة بان موت المهاتما في السجن معناه نشوب الثورة الدامية على انجلترا في طول الهند وعرضها.

وعندما فحصه الطبيب الكولونيل ملروك تبين له بانه مصاب بالتهاب خطير في الزائدة ونقل على الفور الى مستشفى ساسون في بونا حيث اجريت له عملية جراحية. واعلن اليوم العاشر من شباط سنة 1942 يةم صلاة وصوم من اجل غاندي وغادر الزعيم السجن.

إلا ان الخلافات والنزعات دارت بين الهندوس والمسلمين وادى ذلك الى اصطدامات عنيفة فاعلن المهاتما انه سيصوم واحداً وعشرين يوماً لا ينقطع عن الصوم حتى يزول الخلاف. وهذا الصيام ادى الى تهدئة الاوضاع ووقف العنف.

واستمر النضال بتدفقه وانحساره..

وفي حزيران 1948 اعلن الانجليز عزمهم على الجلاء عن الهند. وعندما تم تقسيم الهند الى الهند والباكستان وبدأت الخلافات.

اعلن غاندي سنة 1948 كانون الثاني اعلن الصيام حتى الموت. واشتد الخطر على حياته، وكان عمره التاسعة والسبعين.

فخطب نهرو قائلاً: لسون تنوء ضمائركم بالعذاب لموت ابي الهمد التي تفرق بين الطوائف.

وإستجابت الهند والباكستان لهذا النداء وتأسست فرق السلام الراعية للاخاء والمحبة بين الطوائف وانتهى بعد 121 ساعة

وبعد ايام ذهب غاندي الى مُصلاه في بيرلا يلينصرف الى تسابيحه وصلاته كما في كل يوم واذا برجل يلبلباس اصفر يطلق عليه اربع رصاصات اثنتان منها اصابت صدره واثنتان اصابت بطنه.. وسقط على الارض.

وسادت الهند الفاجعة والصمت وانحنى العالم كله امام ذلك الهيكل البشري الضعيف والرقيق الذي حرك قلوب البشرية.



المراجع:



w ابراهيم رامي. ما هي الهند. المجلة الجديدة، العدد 410.

w امينة السعيد. مشاهدات في الهند.

w سلامة موسى. حياة غاندي وموته. الكاتب المصري، العدد 30.

w قدري قلعجي. غاندي ابو الهند. اصدار نادي الكتاب.

w مي الدين رضى. ابطال الوطنية.

w رومان رولان. مهاتما غاندي. تعريب عمر فاخوري.