حول العالم على كرسي متحرك "1"
أحبتي الكرام هذه سياحة جديدة،في كتاب آخر،ونحن هنا نمارس سياحة في سياحة،فالكتاب – وعذرا لرفع الكلفة والقول "كتاب"هكذا بدون ألقاب ,, ولكن المقامات محفوظة – هو نفسه سياحة أو رحلة حول العالم على كرسي متحرك) قام بالرحلة الأستاذ حسين القباني،والكتاب من نشر شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع،في طبعته الأولى سنة 1401هـ / 1981م. سوف ندخل إلى الكتاب عبر بوابته،أي عبر المقدمة كل إنسان في هذه الدنيا،منذ أن وجدت الدنيا يحلم بالتنقل من مكان إلى آخر .. ومن كهف إلى كهف .. ومن بيت إلى بيت .. ومن مدينة إلى أخرى ... ومن بلد إلى بلد آخر .. بشرط أن يعود في النهاية إلى وطنه مهما طالت غيبته عنه ..حتى التجمعات الزراعية التي من طبيعة أهلها الاستقرار .. إن الفلاح ربما لا يفكر جديا في الخروج من أرضه لأي سبب .. ولكن من المؤكد أنه يحلم بالعالم الخارجي .. العالم المحيط بهذه الأرض،بكل ما فيه من خلائق ومناظر .. من شوارع .. وأزقة .. من عمارات شاهقة وقصور فاخرة .. من تقاليد وطباع .. وقد يقتصر الحلم على زيارة أقرب مدينة إلى قريته .. وقد يتمادى إلى زيارة عاصمة إقليمه .. وقد يسرف في التمادي لزيارة عاصمة بلاده ليعود إلى أبناء قريته هتفا (يا خلق الله).. وأنا كأي إنسان،كانت لي أحلامي في التّرحل .. في رؤية العالم .. أيا كان – هذا العالم،محليا أو دوليا .. ولعل محنة المرض المزمن الذي لا زمني منذ صباي كانت أدعى إلى إذكاء هذه الأحلام .. وما أكثر الساعات التي عشت فيها حالما يقظا .. وما أكثر اللحظات التي كنت أثوب فيها إلى رشدي وأهز رأسي يأسا وأنا أجد نفسي عاجزا عن الانتقال من مقعد إلى مقعد في نفس الغرفة أو من غرفة إلى أخرى في نفس البيت .. ولجأت إلى الكتب لأحقق فيها أحلامي .. لاسيما كتب الرحلات والمغامرات .. كتب ألكسندر ديماس ورايدر هاجارد وتشارلس ديكنز .. جزيرة الكنز في صباي .. سجين زنده في شبابي .. و"كنوز الملك سليمان: .. و"عائشة" .. و"عودة عائشة" .. وأخذت أطوف بأحلامي مع هذه الكتب مناطق القطب الجنوبي لأعيش مع الإسكيمو .. وأتسلق الجبال لأعيش مع سكانها في سويسرا،وأمرق بالسيارة بين الغابات لأنتشي بصمتها ورهبتها .. وأحلق في السماء بطائرة أتوقع في كل لحظة أنها ستسقط بي .. وطالت أحلامي سنوات وسنوات حتى تبلورت شخصيتي وتركت كتب الروايات والمغامرات إلى ما هو أهم وأجدى في حياة الأديب .. ولكن الأحلام .. مجرد الأحلام .. كانت تقتحم عليّ خلوتي إلى نفسي. كلما قرأت لزميل لي كتابا عن رحلة قام بها){ص 1 - 2}.ثم جاءته الفرصة،فسافر إلى لندن للعلاج،فألف كتابا آخر {50 يوما في لند}غير هذا الذي بين أيدينا.وبعد هزيمة 1967،عكف على دراسة القضية العربية والدور الذي تلعبه الصهيونية،وأعد بعض الدراسات باللغتين العربية والإنجليزية .. (واتصلت بالسيد مدير الإعلام الخارجي بجامعة الدول العربية. وقدمت له مشروع الرحلة،والدراسات،والأهداف منها .. ووافق السيد المدير،وقرر أن يرسل خطابات إلي مكتبي الجامعة في باريس وروما ليقدم المسؤولون فيها كل التسهيلات اللازمة،مع الاستفادة مني إعلاميا ... وهكذا أصبح للرحلة هدف أساسي وطني .. بجوار الأهداف الأخرى .. ولم يكن من بين هذه الأهداف،أي هدف له علاقة بالسياسة – لأني – بكل وضوح لا أحب السياسة،ولا أفهم لعبتها،ولم أفكر يوما أن أكون أحد لا عبيها (..) وإذا كان القلم قد جنح في الحديث عن موقف بعض الحكومات أو الأفراد منها،فإن له بعض العذر .. لأنه قلم في يد إنسان .. والإنسان يسعده الموقف الكريم فيتغنى به،ويشقيه الموقف اللئيم فلا يسعه إلا التنديد به ... فلا عجب إذا تملكتني أريحية إنسان كريم ... ولا عجب إذا أسخطني موقف إنسان لئيم .. وفي كل الأحوال،أشهد الله على صدق ما أكتب عن هذا أو ذاك .. والله ولي التوفيق.){ص 3 - 4}.هذه الرحلة كانت سنة 1970م. وقبل أن نفسح المجال للأستاذ(القباني) ليسرد علينا وقائع الرحلة،أو نصحبه فيها ... أشير إلى ملاحظتين : أعتقد أنني قرأت عددا لا بأس به من الرحلات،وتحتفظ الذاكر بصورة سلبية تتمثل في تغييب الحديث عن شعائر الدين!! طبعا باستثناء المتدينين أصلا ،ولكنني أتحدث عن الكاتب المسلم العادي... حتى عندما يدخل مسجدا ففي فإنه يدخله كسائح!! أما الملاحظة الثانية،فتتعلق بكثرة حديث المؤلف عن النساء والنظر إليهن ... ومع أنني أعلم تماما لماذا يصر تيار معين،على تعرية المرأة وتتركز كل مطالبه – تقريبا - على ما يتعلق بعريها أو الاختلاط بها،أعلم ذلك،ولكنني سوف أكثر النقل من هذه الرحلة،لكي تتضح الصورة لدى من لا زال يسأل : لماذا كل هذا التركيز على المرأة؟! مع لفت النظر إلى أن الكاتب ليس قادما من مجتمع متزمت مغلق،متلفعة نساؤه بالسواد ... لذلك تبدو قضية مطالبة ذلك التيار بالاختلاط وبعري النساء (عادلة) جدا!!! فهل من العدل أن يستمتع الرجال في العالم كله برؤية (البكينيات) أوأكثر أو أقل ... بينما يحتاج أحدنا إلى السفر خارج البلاد لمشاهدة ذلك؟!! أو يكتفي بمشاهدة الصور!!!!! مع ما سبق لا تمنعنا معرفتنا بأهداف التيار المشار إليه،من القول بأن التيار الآخر لا تنقصه المبالغة والتضييق فيما فيه خلاف فقهي. .. وإلى الرحلة. يقول الكاتب لن أطيل الحديث فيما أعددته للرحلة من اتصالات مع إدارة الإعلام بجامعة الدول العربية،ومن اختيار المرافقين،ومنهم ابنتي الطالبة بالتعليم الجامعي،ومن محاولات لتحويل مبلغ بسيط إلى العملة الصعبة لا يكاد يكفي ثمنا لبنزين سيارة مسافة خمسة آلاف كيلو متر ..وكان برنامجي في المرحلة الأولى أن أقطع نحو عشرة آلاف كيلو مترا في عشرة دول حول البحر المتوسط.وتذكرت – وأنا أقلب بين يدي المبلغ البسيط الذي تقرر أن أعيش به مع ثلاثة مرافقين أكثر من شهرين – بعض الزملاء المحظوظين الذين طافوا قبلي حول العالم واثبين من طائرة إلى أخرى. ومن مدينة في أقصى الغرب إلى أخرى في أقصى الشرق،تنتظرهم الشيكات السياحية والمبالغ المحولة بلا حساب،والفنادق الفاخرة التي يستقبلهم فيها صفوف من عمالها ....وهززت كتفي وأنا أحاول – مثل كل فقير مفلس – أن أقنع نفسي بأنه ليس بالمال يصنع الإنسان كل شيء،وأن الرحلة التي تكتنفها الصعاب والعقبات بسبب قلة المال هي الجديرة بأن تكون أكثر تشويقا وأكثر متعة ... وخيل إليّ أني أسمع في أعماق نفسي ضحكة ساخرة..!! وتمت جميع الإجراءات التي لن أطيل الحدث عنها،حتى تحدد يوم السفر،صباح الأحد – الثامن والعشرين من شهر يونيه .. ووصلت السيارة البيجو الاستيشن إلى باب المنزل .. وبدأت عملية نقل الحقائب الضخمة المحملة بالزاد والزواد إلى السيارة التي تقرر أن تحملنا إلى بنغازي .. ونظرت حولي لحظة الوداع ... أصدقاء كثيرون تركوا بيوتهم هذه الساعة المبكرة من الصباح لتوديعنا ... ابنتي تعانق أمها في لحظة وداع مؤثرة،فقد كانت تلك أول مرة تفترق عنها لمدة طويلة ...وتحركت السيارة وأنا أتمتم "اللهم سبحانك أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل". .. ونظرت إلى يساري ... إلى مرافقي الشاب إبراهيم سلامة .. صديق في سن الابن،ترك أعماله وزوجته ووالدته وإخوته وإخوانه ليصحبني في الرحلة .. مساهما في نفقاتها،لا لشيء أكثر من الحب والوفاء .. إن الدنيا لا تزال بخير .. وابنتي حنان. الطالبة بكلية الاقتصاد المنزلي،افترقت عن والدتها لأول مرة في حياتها،وقررت أن تتحمل مشاق السفر بسيارة أكثر من عشرة آلاف كيلو متر،لكي تتولى رعايتي صحيا .. ولكن هذا واجب الابنة .. كل ابنة نحو الأب .. كل أب .. والمرافق الثالث،الشاب محسن .. فشل في دراسته في مصر وقرر السفر إلى أوربا للتدريب على أعمال الفنادق .. ولكنه،بحكم ما بيننا من أواصر القربى،قرر أن يصحبني في رحلتي ليقوم بأعمال السكرتارية،ثم نفترق في أوربا،فيمضي إلى وجهته. وأعود إلى وطني بعد أن أكون قد أتممت الجزء الأول من الرحلة إن شاء الله .. ونظرت إلى السائق الليبي .. عمر .. شاب هادئ السمت. قليل الحديث .. ويزين بعض أسنانه – كالكثير من إخواننا الليبيين – بطرابيش فضية اللون. ){ص 5 - 6}.وبعد أن قضوا يوما في الإسكندرية،بحثا عن استكمال ركاب السيارة .. (وفي الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم التالي كانت السيارة تحمل معنا،شابا اسكندرانيا واثنين من إخواننا الليبيين ... وتوكلنا على الله .. وفوجئت بالطريق بين العجمي وسيدي عبد الرحمن غير مستقر على حال .. في ارتفاع وانخفاض دائما ... وعمر السائق منطلق بالسيارة بسرعة تتجاوز المائة كيلو متر في الساعة .. وكلما مرت السيارة على مهبط في الطريق،ارتفعنا نحن من مقاعدنا إلى السقف .. ولولا استعمال صاحبي إبراهيم ساعديه لتثبيتي في المقعد – كلما اقتربنا من مرتفع – لما احتملت هذه السرعة فوق طريق من هذا الطراز ..ولكنه لم يلبث أن استوى في منتصف المسافة إلى مرسى مطروح (..) وتوقفنا في مرسى مطروح قليلا ريثما تناولنا طعام الغداء،ولم ننس أن نشتري بضع بطيخات شيليان لنحملهما إلى بنغازي .. فقد سمعنا أن البطيخ هناك مرتفع الثمن،وأنه ليس في حلاوة البطيخ المصري.وعادت السيارة تطوي الطريق إلى السلوم .. رمال بعد رمال على الجانبين ... وبين الحين والآخر نمرق بجوار بضعة بيوت صغيرة كان صاحبي إبراهيم يتساءل مدهوشا عن كيف يعيش سكانها في هذه البراري الشاسعة (..) ومضت السيارة تطير فوق طريق واسع ناعم كالحرير .. وعدنا ننظر على الجانبين البراري تمتد إلى مد البصر ... وعدت أتساءل : متى ينتصر سكان الصحراء على رمال الصحراء ... هل ستشهد الأجيال الآتية بعدنا كيف يستخدم أبناؤنا وأحفادنا العلوم الحضارية لاستصلاح هذه الأراضي وتحويلها إلى مزارع وبساتين ... إننا لن نصعد إلى القمر ,, ولكن علينا أن نقيم التوربينات الهائلة التي تدار بالذرة لتحويل مياه البحر إلى مياه عذبة تروي هذه البراري ... ونطلق السحب الصناعية لتمطر ماء تربو معه الأرض وتؤتي ثمارها،ونحول المنخفضات إلى بحيرات يتدفق فقوها ماء البحر مولدا الكهرباء ... ونحول بلادنا الصحراوية إلى جنات في الأرض. (..) ولما استأنفنا السير. شرعت شمس الغروب،وكانت قرصا متوهجا بالضوء الأحمر،تحاورنا .. فهي تارة عن يميننا .. وتارة على يسارنا .. حسب انحرافات الطريق،وبعد أن غابت في البحر،مضينا على البقية من شفق غروبها حتى اقتربنا من طبرق .. وتمنيت لو دخلت هذه المدنية التي شهدت أعنف المعارك في الشرق أثناء الحرب العالمية الثانية .. ولكن السائق كان متعجلا للوصول إلى بنغازي في نفس الليلة .. ومن ثم اكتفينا بالمرور بها من بعيد .. وكانت تبدو كشعلة فضية بأنوار الاحتفالات بأعياد التحرير .. وانطلقت السيارة مرة أخرى في طريقها إلى البيضا ... وبدأ الطريق يصعد ملتويا في سكون الليل .. وقيل لي أنها تقترب من الجبل الأخضر الذي تربض عليه المدينة بجامعتها الإسلامية ... والليل ساكن تماما إلا من هدير الريح المنبعث بسبب السرعة غير العادية للسيارة وحمدت الله حين رأيت ابنتي حنان مستغرقة في النوم ... (..) وعاد الطريق الثعباني في الهبوط إلى بنغازي .. واستيقظت ابنتي وحاولت أن تعرف أين نحن .. ولكننا أكدنا لها أننا نسير في طريق عادي،وأننا نقترب من بنغازي،وفوجئنا بالسيارة تمر على كوبري معلق يصدر أصواتا تحت عجلاتها .. ثم بكوبري مماثل كان يقف على مدخله جندي ينظم حركة المرور عليه بحيث لا تمر أكثر من سيارة في وقت واحد. ووصلنا إلى مدخل بنغازي بعد منتصف الليل ... وانحرف السائق إلى طريق في حي الفندق،وهو – كما رأينا في الصباح – من الأحياء الشبيهة بحي أبو العلا أو روض الفرج .. وتلفّت حولي كما لو كنت أنتظر رؤية المستقبلين لي .. ولكنني لم أر مخلوقا حتى توقفت السيارة أمام فندق صغير "فندق البيضا" .. وهنا فقط لمحت ثلاث قطط تتعارك على كومة من القامة بالقرب من الفندق ..وعلى هذا النحو كان استقبالنا في بنغازي حين دخلناها بعد منتصف الليل ..){ص 7 - 11}. إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي -المدينة المنورة Mahmood-1380@hotmail.com