كثر كتابات السوريين عن حلب، كأن مأساة المدينة فاجأتهم أو كأنهم لم يروا مقدماتها الواضحة مثل مخرز في العين. وما يميّز حلب ليس فقط أنها العاصمة الاقتصادية لسورية، بل أيضاً لأنها علامة توسّع تركيا نحو الجنوب ليكون لها حضور مستدام في سورية، أو لأنها علامة على اكتمال الوجود الروسي في سورية بما يحقق لموسكو آمال غسل القدمين في مياه المتوسط الدافئة وهذا ما عجز عنه القياصرة وإلى حد ما الشيوعيون. موسكو وأنقرة حليفتان لدودتان، ومعركة حلب ساحة مواجهة بينهما من غير إعلان. من هنا إصرار أميركا «الضمني» وأوروبا والأمم المتحدة «العلني»، على سورية المدنية والمحافظة على حلب الشرقية (40 في المئة من المدينة) كما هي، وأن تتولى إدارتها هيئة مدنية محلية إذا انسحب المسلحون أو هيئة عسكرية معتدلة إذا انسحبت «القاعدة» وأشباهها.
حلب، إذاً، ساحة معركة إقليمية- دولية، على رغم أن خسارات الدم والمؤسسات هي للسوريين وحدهم، وليس من ناطق مباشر يدافع عن مصالحهم، لا النظام ولا المعارضة. وإذا سلّمنا باليأس من تحمُّل النظام مسؤولية تخلّى عنها منذ البدايات السلمية للثورة، فإن القيادات السياسية للمعارضة تبرهن بدورها عن تخلٍّ ناتج عن انقطاع اتصالها بوقائع الحرب، وليس اعتبار المعارضة نفسها قائدة مدنية لـ «الجيش الحر» سوى كلام ضبابي، لأن هذا الجيش يجد نفسه مضطراً لعلاقات مع قوى عسكرية تحمل فكراً متطرفاً، وقد يعمد أحياناً إلى استعارة أسماء «تراثية» من هذه القوى يطلقها على كتائبه، بحيث تبدو تابعة للمتطرفين أكثر من تبعيتها لجيش معارضة وطنية ديموقراطية.
إنها حرب طاحنة في حلب الشرقية، ولا مكان للمدنيين المرشحين ليكونوا ضحايا لا يهتم بهم أحد، لا النظام ولا المعارضة. ويبدو أن قرار الاجتياح اتخذ في فترة أميركية رمادية بين آخر عهد باراك أوباما وأول عهد دونالد ترامب. تقود روسيا الحرب إلى جانب النظام وأعوانه، فيما الموقف التركي خجول، لأنه أسير علاقاته الملتبسة مع موسكو وطهران، لذلك تتحرك أنقرة بطريقة خفية، باذلة ما يمكنها -وهو قليل- لدعم المسلحين في حلب الشرقية. أما المعارضة السورية السياسية فتقوم بجولات أوروبية طالبة مساعدة من لا يستطيع، في حين تعجز هي عن التنسيق مع مسلحين لا لغة مشتركة معهم، وهم في نظرها غارقون في عصبيتهم ولا يثقون بالعمل السياسي مفضلين ثنائيتهم المقدسة: النصر أو الشهادة.
وإذا استطاعت روسيا والنظام وأعوانهما إسقاط حلب الشرقية يتحقق هدف بشار الأسد في استبعاد المسلحين المعتدلين أو شبه المعتدلين من المشهد، ليبقى «داعش» وحده حاملاً السلاح، وتتظهّر صورة للنظام أليفة لدول العالم، على اختلاف سياساتها، في نقطة مشتركة: الحرب على «داعش» كرمز للإرهاب وكعدو للحضارة. ويتلاقى هذا الهدف الروسي- الأسدي- الإيراني مع كلام دونالد ترامب أثناء لقائه أمس صحافيي «نيويورك تايمز» وقوله إن الولايات المتحدة مضطرة الى حل النزاع في سورية، وإن رؤيته للحل تختلف عن رؤية أي شخص آخر، متنصلاً من المهام الإنسانية لدولة كبرى حين قال: «لا أظن أن علينا أن نكون خالقي أمم». وإذا كان ترامب امتنع عن توضيح طريقته لحل الأزمة السورية، فمنطق الأمور يستعيد كلامه غير السلبي عن بشار الأسد أثناء حملته الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض. تؤكد ذلك مخاطبته أسرة تحرير «نيويورك تايمز»: «ألن يكون جيداً إذا انسجمنا مع روسيا لنتصدى لداعش؟».
كتابات كثيرة للسوريين عن حلب اليوم، ترافقها كتابات أشبه بنقد ذاتي أو اعتراف، تتولى نقد سياسات المعارضة في مختلف مراحلها. نوع من الحكمة المتأخرة التي تفقد قيمتها بتأخّرها، لأن رأس الحكمة بعد مخافة الله استشراف الآتي وفق قراءة واعية للحاضر والماضي. هكذا تظهر سورية بلا حكماء، أو أنهم أحياء صامتون أو أموات تحت أنقاض حضارة عمّروها بالفكر الحر والجهد الذي لا يصيبه ملل.
البحث عن حكماء في سورية. كلام كلاسيكي. وإذا كانت الحكمة في وجهها السياسي المفترَض، تعبيراً عن المصالح الوطنية والاقتصادية لشعب ما، فمن هو الحكيم السوري اليوم؟ صوت سيده أو القاتل باسم سيده أو النازح هرباً من سيده أو المهاجر لخدمة مخطط سيده لتخريب أرض الآخرين؟
نقلا عن صحيفة الحياة