علي الجندي في مدار الشعر
الانتماء للقضايا الخاسرة
محمود السرساويربما في عزلة الشاعر، أو نأيه طوال سنواته الأخيرة قبل الرحيل، ما يتوج سأم الشاعر، وتشظيات روحه، وقلقها، وتمردها على خواء المألوفات، ورتابة موجوداتها إذ الشعر ـ كما يراه ـ متدفقاً وحاداً كما السيف والدم، النبض الجواني الذي يكثف حوار الذات مع عالمها، ويختزن سيلانها المتواصل، فإن «لم يأت بصدق وعفوية يفقد الكثير من شرعيته، إنه المحور الذي تدور عليه حياة الإنسان، فليس صدى لانفعال ما، لكنه صدى الصدى»، التماس الجمالي الأخير للداخل مع الحياة بألمها وأملها، وفي الاندغام مع هذا الطوفان الداخلي، والنظر إليه كفعالية مثلى للقبض على التجربة الشاملة. لا معنى للشهرة أو الريادة كقيمة تاريخية، يقول لمحيي الدين البرادعي العام 1975 «بدأت الكتابة في الخمسينيات دون أن أعرف ما يكتبه أقراني «الرواد» فلم أستعجل الشهرة - في السنوات العشر الأولى على الأقل، وأدركت بعد زمن طويل أن الشاعر يجب أن يتقن سياسة العلاقات العامة، وما تحتويه من أساليب الدعاية، إضافة إلى أنني لم أملك وقتها ثمن طباعة ديوان شعر، ولم أكن مؤمناً بأن كل ما يكتب ينشر، كان بإمكاني تدبير نشر أربعة كتب دفعة واحدة، وهي خليط من الجديد والقديم كما فعل «بدر» مثلاً، وكان يمكن أن تحمل قيمة تاريخية وتضعني مع ما يسمى الرواد، لكنها ستخلو ـ بالتأكيدـ من القيمة الإبداعية، قيمة التفرد، وخطي الشعري الراهن»، وفي التفرد إدراك للاختلاف، لفكرة التجاوز الإبداعي، والمفارقة مع المحيط، فالشاعر لا يُشتمل، لا يُحتوى، ولا يطمئن.
مسكوناً بنزيف حزن جارف، إذ الحزن هو «حس الزمان»، وفق تعبيره، ولكنه الحزن الكاشف والمتأمل، صانع المعاني الجديدة..
وقد أتاحت نشأته في بيت شغوف بالقراءة أن يستنطق الكتابة مبكراً «كنا نقرأ، مثل عائلة برونتي، التي كان أفرادها ـ رغم عزلتهم ـ يتناوبون على قراءة أي كتاب يصلهم، وكنت تلميذاً متفوقاً أكتب أفضل موضوعات التعبير السابقة على عمري، وساهم حبي العذري لفتاة وقتها بأن أرسل لها عشقي عبر قصائد، وهي شعر تفعيلة لا كتابة نثرية..».
وآنذاك لم تكن «قصائد التفعيلة» قد شقت طريقها بعد، والشاعر يعترف في حوار آخر بأن الماغوط كتب أجمل الشعر دون قواف وتفعيلات، فالإشارة للتفعيلة هي إشارة السبق لا الاستغراق، وهذا الانفتاح المحب على الآخر والاعتراف به ثمرة ثقافة متطلعة للإضافة، رغم أن الانتماء للشعر كما يقول انتماء للقضايا الخاسرة، فقد «كنت أبحث عن وسيلة تعينني على الدمار الداخلي لهذا اخترت الشعر، وهو لم يعطني شيئاً سوى ما أعتبره فانياً، وربما كان ذلك أجمل ما في الشعر، أما ما أعطيته أنا للشعر فقد أعطيته حياتي».
وقد كتب في مجلة الطليعة تحت عنوان النعامة والصقر: «كلما سمعت حديثاً لشاعر أو ناقد يتهجم على التجديد أحسست بأن الحياة متجلدة متخشبة، وأن الاهتراء يعمّ الجو الذي أنا فيه، ويهتف بي هاتفٌ عميق أن كل ذلك زائف ومؤقت، وأن الحقيقة تنمو في الهواء الطلق، وأن المهم أن نعشق الفن المتوثب بطفولة أزلية متوجة بحكمة متحفزة..».
والطفولة الأزلية والحكمة المتحفزة هما من العلامات الأساسية للكتابة الشعرية، حيث الكشف عن العالم كأنما هي المرة الأولى التي تراه فيها، وتعيد صياغته بإتقان المجرب حتى الامتلاء، فإن كان «درويش» يلحّ على الانغماس في المعيش كثيراً والكتابة عنه قليلاً، فعلي الجندي يراها أشبه بأغصان الشجرة التي تنمو ناشبة نشوباً نحو السماء، لا ملولبة، وذلك ما يعكس حقيقة الشجرة فأنا «لا أضع مخططاً لما أكتبه ولا أجبر القصيدة على القدوم، لذلك تأتي وكأنها مصاغة سلفاً، أكتبها دفعة واحدة دون أن أصلح فيها، فأنا لا أحب الصياغة كثيراً، وهناك عشرات القصائد لو عدت إليها لأكتبها لمزقتها، وهناك الكثير لم أنشره في مجموعاتي لأنني أحسست بأنه لا يمثلني، فشعري صورة عن حياتي، وحياتي صورة عن شعري...».
وهذا ما يعبر عن فداحة وجوديته واندغامه في الدفاع عن المعنى، والاندفاع الدائم نحو الحرية حياة وشعراً، لا انحيازاً نيتشوياً للإنسان الأعلى، كما يعتقد البعض، إنما تماهياً مع حالة الشعر كحياة وليس مجرد كتابة وحسب... ومن هنا يؤكد بأن «الشاعر قد يكون عاشقاً جميلاً للمرأة لكنه لا ينجح معها كزوج، وقد وجدت المرأة الحلم لكن بعشر نساء وفي أعماقي أحس بوحدة ليس فيها أي إنسان، وهذا أحد الأسباب لخلوّ شعري من المرح»..
محمود السرساوي