نظر يمنة ويسرة وفوق وتحت ومن خلف...لم ير إلا الفراغ الذي كان يملأ اللاشيء, أمعن تحدّقه, كانت نظراته ترتدّ إليه حسيرة وقد اكتنفها التذبذب والزواغ, لقد خذلته أحلامه فقطعت عليه الطريق وهو عائد إلى عالم اليقظة وتركته معلقا في ضيق واسع من اللاشيء, إذاً عليه الرجوع قليلا إلى الوراء علّه يهتدي إلى نقطة البداية, تقهقر زاحفا, كان معلق في فراغ هائل لا حدود له, خشي السقوط في الهُوّة العميقة حيث نهاية الفراغ ؛فيستحيل عليه الرجوع,كان يتقدم إلى الخلف بجهد شديد , خال نفسه لا يزال يراوح مكانه لشدة التصاقه بللاشيء,..وبعد جهد مضنٍ استنزفه حتى الرمق وجد نفسه أمام غابة دخانية سوداء ,أشجارها من النحاس الملتهب ولها أغصان كأنها الأفاعي وعلى رأس كل غصن بوم ينعق وأسفل كل شجرة هيكل عظمي يكسوه بعض من بقايا لحمٍ متحلل,يحمل بين يديه جنينا غير مكتمل يطعن نفسه بمدية يخرج إثرها سيلا من الدماء الكثيفة التي أحاطت بالغابة وشكّلت حولها سداً منيعاً من الحمرة القانية المشربة بالسواد..!!, استبد به الذعر , لقد نسي انه رأى كابوساً قبل أن يخذله الحلم ويقطع به السبل, استدار ورجع مذعوراً إلى الفراغ حيث كان, حاول التقاط أنفاسه المتحشرجة فلم يستطع, نظر إلى صدره دون أن يحرك رأسه, ذُهل للحظات, رفع يده ووضعها على فيه, إنه لا يتنفس, هل مات؟!,,لا لم يمت,إن روحه هناك في جسده الممدد على السرير,إذا تنفس الآن فهذا معناه وبكل بساطة إن روحه غادرت جسده ولحقت به وسيعيش أبدا في هذا الفراغ المطلق, بدى له أن يصرخ لعل شيئا ما يتحطم داخله فيزيل عن عينيه هذه الغشاوة, تلفّت حوله يبحث عن شيء يلتقط الصوت لينقلب إليه صداه فلم يجد, فكر قليلا ,قال محدثا نفسه سأصرخ وليكن ما يكون, ..أغمض عينيه قليلا ثم انطلق في صراخ محموم: أين أنا؟؟!..أصاخ السمع..لم يسمع شيئا في أول الأمر, لكن الصوت انطلق في كل الجهات وعندما لم يجد سوى الفراغ ارتد وارتطم بجسده وتساقط كأنينِ مكتوم...صرخ مجددا:...ألا من مجيب..؟؟!لكن هذه المرة بصوت أعلى صكت ذبذباته أذنيه,انطلق الصوت في كل الجهات وعاد هذه المرة كصرخات متقطعة , صرخ بصوت أعلى من سابقيه :أين أنا..؟؟!وقف ينتظر رجع الصدى, طال انتظاره وعندما هم بالصراخ من جديد سمع جلجلة ملأت الفراغ من حوله:أتسأل أين أنت؟؟!ذهل عن نفسه للحظات ولفته دهشة مشوبة بالرعب,ضغط عينيه بشدة داخل رأسه ليتأكد مما يرى هل هو حقيقة!!كان هناك شيخ عجوز ذو لحية ثلجية بيضاء وكأنه سقط لتوه عن ظهر ملاك يستوي واقفا أمامه بقامة متقوسة ووجه نحاسي لا ملامح فيه, عقدت الدهشة لسانه للحظات...تابع الشيخ...ألا تسأل أين أنت؟؟ ,لم يستطع الكلام, لقد عُقد لسانه, تقدم من الشيخ يتحسسه ,كأنما ليتأكد من أنه لا يحلم.
قال الشيخ :إن ما تراه حقيقة لا خيال!!.ساد صمت بليد قبل أن يهدأ روعه ويسأل:
- من أنت؟؟.!
- ألا تعرفني؟ أنا هو أنت!!!أنا هنا منذ الأزل أنتظرك لأرشدك كيف تعود إذا ما وقعت في هذا الشَرَك.
- كيف جئت إلى هنا؟؟!
- كان هذا منذ زمن بعيد, بعيد جداً, ومحال أن أتذكر.
- كيف تقضي وقتك؟
- أقضيه سابحاً في اللاشيء!
- وإلى متى تبقى هكذا؟؟!!
- إلى أن تموت وتُفضي إلى خالقك الواحد الأحد!
- إذا أبقى معك!!!
- يجب أن تعود, لم يحن أجلك بعد, أمامك كثير من الأوقات السعيدة لتقضيها!
- إذا ترجع معي.
أشار الشيخ إلى صدره, كان يرتفع وينخفض بانتظام.
-.....................؟؟؟
- يجب أن ترجع إلى حيث ابتدأت , لا تخشى ما قد ترى , ستنهشك الأفاعي وتلجمك الدماء وينعق عليك البوم ويتساقط عليك النحاس الملتهب , لكن هذا كله وهم يغدو حقيقة إذا ما تراجعت أو نكصت على أعقابك, اجتز الغابة وارمي نفسك في نهر الدماء القانية وينتهي كل شيء, سأتركك الآن . اختفى الشيخ كأنه لم يكن , لقد تلاشى وأبتلعه الفراغ , تلفت باحثا في كل مكان , لقد نسي أن يسأله هل سيلقاه مرة أخرى, نادى ونادى لكن صرخاته تناثرت وابتلعها الفراغ اللامتناهي, سكن قليلا ليجمع شتات أفكاره التي كما لو أنه حل بها إعصار . بدأ تقهقره المنظم حيث البداية , تنبه إلى أنه إذا ما بذل مجهودا كبيرا في الزحف بقي مكانه وإذا تحرك بهدوء واتزان انطلق كما القذيفة , مرّ زمن قبل أن يصل إلى حيث تجثم الغابة الدخانية , أستجمع شجاعته واقتحمها بإصرار , بدأت الغابة تتخسّف وتتساقط عليه, لفّه الرعب للحظة وهم بالهروب إلى الفراغ لكنه تذكر كلمات الشيخ فتابع تقدمه , بعد وقت مرّ كدهر بأكمله اجتاز الغابة المحترقة وألقى بنفسه في بحيرة الدماء!
نهض من نومه مرعوبا وهو يصرخ، كان صدره يرتفع وينخفض بشدة وقلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه, نظر إلى ملابسه كانت حمراء مخضّبة بالدماء القانية, وأمامه مباشرة, كانت هناك كُوّة تؤدي إلى فراغ سحيق لا نهاية له، ما لبثت أن بدأت تتقلص وتبتعد رويداً رويداً حتى تلاشت..كان صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر قام من فوره اغتسل وتوضأ وأسرع ليلحق أول صلاة فجر في حياته..وكانت البداية!!
طــــه خضـــر ..