رن جرس الهاتف...مشروع قصة...
قفزت ْ من جلستها الهادئة , وضعت ْ يدها على قلبها مرتعشة ً , إلى متى سيمارس الوصاية َ عليها؟ وهذه السطوة على الفكر والسلوك؟إنها الأنانية الشرقية بامتياز,ومن قال له أنها ستستبدل هذا الدفء العائلي يوما ً ما بتلك الهواية الخاصة ؟ و التي تعطيها شيئا من الكينونة؟ بل كيف يفكر وهو المثقف المتعلم ؟لماذا هذا الفهم الخاطئ ؟هل كل النساء متماثلات؟ وهل أنقصت ْ يوما ً ما من واجباتها العائلية ككل؟ شيء محزن جدا ً...
كيف ستتدارك وقد اقترب حضوره ُ , والفكرة مازالت في حالة المخاض؟!!!!يجب أن تكتبها وتكسب وقتا فكم يضيع منا ما أجلناه يوما ً.
لقد تعسّرت ولادة هذا النص كثيراً ,ولم تتمكن إلى الآن من إنجازه ..., لم تعد تدري ما سبب كل هذا الاستعصاء!, والذي تعانيه منذ مدة غير قصيرة , ولماذا يزداد في هذا الوقت بالذات؟ هل لكثرة مهامها.؟ أم لأنها شعرت ْ برتابة ِ الروتين الذي يفرض نفسه على طقوس الكتابة المستعصية..؟
من المفترض أن نلوّن َ في نصوصنا، ونـَخرج من رتابة الموضوع في كل نص، سواء ً كان التغيير بالفكرة، أم في طريقة وأسلوب الكتابة! يجب أن نسعى إلى التجديد بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى, ولكن كيف ذلك والقلم يغصّ أمام عوائق داخلية ذاتية، وخارجية متعـِبة؟..هل هو شعور ٌ طبيعي؟ أم هو مخاض الكتابة الطبيعي الذي يولّد الإبداع و الجديد في كل مرة؟
كثرت ْ المسودات بين يديها حتى ملّت منها, وخشيت بعد ذلك أن تبهت الفكرة مع الوقت وتتناثر بعيدا ً عنها, الأهم أن الفكرة لم تغب عن ذهنها أبداً، وما زالت حية ,و تشكل لها هاجسا لذيذا تحبهً, لا بد أنه الإهمال الذي يجعلنا نندم على ما فات من براعم أفكار ضاعت هباء , ولم ترد لها المقاديرُ ظهورا ً ولا ولادة ً , على الرَّغم من أنها فكرة حيّة، وحارّة، وبوح جميل, تغيب ُ عنا حينا ، ونغفو عنها، وعندما نصحو نلهث لجمع شتاتها من جديد!!!
نظرت لأدواتها المكتبية المحببة ,و للأوراق المتناثرة من حولها بفوضى لافتة، وهي مازالت تحمل أفكاراً متفرقة، تحاول أن تعرض من خلالها فكرتها النديّة، مزيّنة بشتى الألوان، لكنها لم تزل غير قانعة بها أبدا، ربما ليس من أمل لخروجها إلى النور, وربما من الأجدى والأجمل أن تكون َ بحلّة ٍ أخرى! وربما لم تنسج لها ثوبا ًأنيقا ً يليق بالفكرة ِ التي تحملها، وهي فكرة ندية ، سكريّة الطعم, لقد كانت الولادة هذه المرة فعلا ً متعسّرة وجداً أيضا ، إلى درجة ِ السأم المرّ, رغم أن موضوعها وبرأيها الخاص كان يستحق المحاولة فعلا ً وبقوة, ليفرض عليها التزاما أقوى .
فواجباتها الحياتية لم تترك لها متنفسا أبداً، لقد تداخلت مع نسيج القصة، وتلاحمت ْ بشكل غريب ٍ، حتى كادت تشكّل جسداً واحداً وهي غير ذلك تماما!
يا للهول.. بات تنسيق وترتيب ما كتبت من أصعب الأمور الآن...
حتى أن سخرية زوجها القادحة والمستمرّة لم تدع لها بقيّة رغبة في إتمامها:
ـ سلوكك هذا لا فائدة ترجى منه، إنه يقود إلى طريق الفقر والعوز, طريق من لا طريق له, طريق الضعفاء المقهورين الذين لم يجدوا سبيلا للخروج من واقعهم ومشاكلهم وقصورهم، إلا عبر الكتابة، إنه طريق العاجزين.!
الغريب في نظرها أن زوجها يعتبر نفسه من المثقفين، فهل هناك فعلا من ينكر على المثقفين إخراج ما يعتمل في صدورهم بهذا الشكل.؟ خاصة إن كان مفيدا ً؟ وهو يعرف لا ينكر أنه يتمتع بقراءة ِ نصوصهم.؟ أليس هذا حال كثير ٍ من البشر عبر واقع صعب ٍ محموم ٍ يدفعنا بقوة ٍ نحو اللقمة والماد ة ويبعدنا لتذوق هذا الطعم الفريد والمهم بآن واحد؟
أليس هذا تناقضا ً غريبا ً جداً، بل وأكثر من ذلك.!
ما تعرفه جيدا أنها لن تتخلى عن هذا الطريق, الذي بات نافذتها الوحيدة المفتوحة على العالم الخارجي بعد أن لقّبت منذ زمن غير قريب بربة منزل، ومن المؤكّد إنه لن يغيّر طريقة تفكيره هو الآخر.
ما الحلّ إذن.؟ ربما كانت محاولة غريق كي يطفو على السطح، أو ينتظر من ينقذه.! وربما لن يجد, فمتطلبات أولادها لم تترك لها مجالا رائقا للكتابة بهدوء... أو حتى إلى لملمة أفكارها بروية كما كانت تريد , كم ترغب وتحب الآن, أن تنهي أمر هذه القصة العظيمة التي يجب أن تجد لها مخرجاً ما,لقد نضجت الفكرة حتى تفتقت في ذهنها واحترقت , فإما للإعدام أو للنور! وبشكل من الأشكال, أو تضع حداً لهواجس القلم التي لا تنتهي أبدا... وهو يتقلّب حائراً يمنة ويسرة, وكيف يشاء، لقد احترقت الفكرة فعلا في ذهنها عن آخرها....
ما زال ذاك الصوت المدوي في تلك الجلسة النقدية يرن في أذنها:
ـ نفسُكِ قصير في الكتابة جداً, متى تنتقلين إلى الضفة الأخرى.؟
ـ لماذا لا تضعين عقدة كبيرة في قصتك ماذا لو صفعها زوجها يوما ما.؟
ـ يبدو أن القصة مرّت مرور الكرام، و لم نشعر بها، عليك أن ترتقي للأفضل, يجب..........
المضحك ُ والمبكي في ذات الوقت, أمر هؤلاء ِ الغريب جدا , إنهم ينشدون المصداقية في عالم الأدب والوصاية الأدبية, وهم في الحقيقة لا يتمتعون بأدنى مقوماتها البسيطة، فالمصداقية ثوب فضفاض يشمل كل نواحي الحياة, هو كل لا جزء يطبق على منهج حياة بالكامل, ليس كمن يفصل الإفتاء في زمننا حسب الرغبة فتصبح ثوبا براقا يرضينا.! المصداقية أن نكون دوما صادقين مع أنفسنا لا أن نملك ازدواجية نعرفها جيدا في أنفسنا, ونختفي وراءها لتلميع واجهتنا المقنعة, إنهم لا يتوخون المصداقية مع الرب حتى, و كذلك الأمر عبر سلوكهم غير السليم.! ربما كان هذا رأيي الخاص، ومن منا يملك المثالية الكاملة.؟
بل كيف تلاحمت تلك الازدواجية وتناغمت في تلك العقول ِ المبدعة ِ المنشدة ِ للخير والصدق ِ في الطرح؟ وهل نحن نتدثر بمائة عباءة وعباءة.؟
ربما كان بعضهم على صواب في بعض الأمور، ولكن ليس في جميعها حتما ً, كان الأجدى بهم والأجمل أن نكون نحن فقط أينما كنا وأينما حللنا، نحن فقط بثوب ٍ واحد.
ما تعرفه الآن أنها لن تكتب لهم أبدا ولم يكن هذا هاجسها يوماً، رددت بقوة وبصوت عال ٍ:
ـ ومن قال إنني أكتب لكم.؟ أنتم لستم بغيتي ومرامي, أنتم لستم أنا ولم تفهموني بعد, أنا اكتب لهؤلاء المراهقين الذي ضاعوا عبر دهاليز الواقع المتلوي كالأفعى, وحتى أنتم يا من حملتم ناصية القلم, لم تكونوا يوما ما كما حلمت، فلم العجب.؟ إنه جيل الحواسيب والانترنيت, جيل الهواتف النقالة والثقافة المتنقلة أينما كنا وحيثما حللنا, عصر تفصيل الثقافة كما الدين على المقاس تماما, كل يرتب ثقافته كما يحب ويهوى ولم يعد لها هوية واحدة وقاسما مشتركا ً يجمعنا ً معا في بوتقة ِ الوطن الواحد! إنهم ضائعون فعلا ً ويحسبون أنهم على الطريق الصحيح, أم هو فعلا تفاوت في طبيعة الزمن ومتطلباته ولم نعد أوصياء عليهم.؟ ما نعلمه جيداً أن هناك ثوابت لا تتغير بتغير الزمن كحب الوطن والدين ووو...إنهم لا يتمسكون بشيء البتة.!
ربما كان الخطأ منا ولكننا نحاول أن نكون الأفضل دوماً..
قفزت فزعة منزعجة ونظرت للمرآة وكان شخصا قفز فيها:
وصرخت:
-نعم...
أنا أكتب لهؤلاء الذين لم يفقدوا بعد رائحة البخور, و لم تلوثهم أمراض العصر وحضارة الأنا والهوى ومتعة التخفي غير السوية! علينا أن نحميهم حتى من أنفسهم، حتى أن نحفظهم ومن زلات ربما نكون اقترفناها نحن في وقت ما.! والله خير حافظاً..
أكتب إلى من يبحث عن الحرف الحلال والطريق السويّ.. وإلى من لم يطرق بعد باب الأسى فمنعه من الوصول إلى دهاليزه، أو ربما يريد أن يعود من حيث أتى فيصلح ذات البين بينه وبين نفسه المغتربة..
مزقت كل ما مضى, كي أبدا من جديد.. فهل أنجح.؟
أنتم لستم بحاجة لحرفي .. ولا لفكري، فقد اكتفيتم بما وصلتم إليه, وانتهى الأمر..
يا لهول الأنا الصارخة فينا.. أنا أسعى وراء هؤلاء الذين تنازعهم المنابر، وتغطيهم حقول قمح، لكنها سوداء، و يسري على الأرض التي يمشون عليها سمّ مرّ، أهمس لهم.. أداعب ُ طهرهم كي يقفوا بصلابة ٍ وذكاء.
كي لا ينكسر جدار الحياء يوما فينكسروا.!
صمتت برهة.. لكن صراخ الأولاد أعادها إلى واقعها من جديد، يمزق فضاء تفكيرها....
إلى متى تبقى القصة عالقة بين السماء والأرض.؟
أسعى وراء حروف ٍ منيرة.. لكن صوته ما يزال يردد:
ـ نَفسُكِ في الكتابة قصير....
ـ ولم لا.! ألا يكفي أن نقول كلمتنا قصيرة ما دامت تصل إلى الآخر.؟
فجأة رن جرس الهاتف
ـ سوف أعود مبكراً.. هيئي لنا طعام الغداء أنا في عجلة من أمري، ولا تنسي أن تبعدي أوراقك لا أريد أن أراها اليوم, علنا نقضي وقتاً دون هوسك..
كان صوته ً مجلجلا ً ومخيفا ً ورهيبا جداً، يوحي بخطر داهم، وزجر قادم....وعقاب ٍ قريب!.
دخلت ْ المطبخ وهي غير واعية تماما ً لما تقوم به، فقد جاءتها حمى الكتابة ٍ اليوم على غير موعدها ,فاستغرقت حواسها كلها, وما زالت تحلم وتحلم ، وصوت ٌ يصرخ في داخلها، إنها تعيش القصّة فعلا ً....
وهي على يقين تماما ً من أن العناد َ والإصرار على تحقيق هذا الأمر المحبب, هو في غاية الجمال والمتعة ِ إذا ملكت الثقة َ، وآمنت برسالتها، وهل يمكن أن يحقق أحد ٌ طموحه دون إصرار وثبات على موقفه.؟
إنه مشروع قصة.!
يا لهذا المشروع الذي ما زلنا ننظر من شرفته تائهين, نبحث عن الأفضل، وكل من حولنا يجدون أنه كثير علينا, وأكثر من ضروريات الحياة ومتطلّباتها، يقولون:
ـ الثقافة ترف، أو فقر.!
ماذا لو أطعنا عصيانهم وصمتنا وتركنا الحكايات تولد وحدها.؟ هل تموت الأرض التي تنبت منها.؟ أم ترانا نعود من حيث بدأنا.؟
رن الهاتف من جديد :
ـ أبكيتني يا خالتي..ماذا تكتبين.؟ لقد مدحك الطبيب فلان عندما أهديته كتاباً من كتبك، أكملي مسيرتك فهذا ما نريد.. بالله عليك أكملي ولا تبالي بالعثرات .
رائحة حريق من المطبخ...
قفزت من مكانها فزعة.. كيف نسيت أمر المطبخ كي تكتب جملة جديدة في قصتها.؟
صدق من قال إن في كل أمر مساحة ربح ومساحة خسارة.!
تطايرت الأوراق... جمد الأولاد في مكانهم... قهقه زوجها ساخراً متبلّداً..
لم تستطع أن تتحرك لجمع ما تناثر منها، وأفكارها المختلطة تشوش عليها سلوكها.
لم تجد في نفسها رغبة لتجمعها من جديد...........
أم فراس 3-5-2010