منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1

    عندما اكتشفَ أن عمرَه أربعون عاما وليس عشرين فقط (!!)

    تجمع المغادرون والقادمون في ركن واحد من المطار حماية لهم من قصف الطائرات التي أغارت فجأة..
    هو كان قادما من باريس ليتطوع في الحرب إلى جانب المقاومة..
    وهي كانت مغادرة إلى القاهرة في إجازتها الجامعية الصيفية..
    تعرفا وتحدثا وأصوات الانفجارات تبعث برسائلها "أن القصف يقترب"، و"أن الموت صياد"..
    هو أخبرها بأنه استبق إجازته الجامعية كي يكون في قلب المعركة التي كانت قد بدأت منذ أيام..
    وهي أخبرته بأنها أنهت امتحاناتِها، وترغب في الابتعاد بسرعة، قبل أن يتعذَّرَ السفر نهائيا بفعل احتدام المعارك..
    دوَّى هدير طائرة مغيرة أتبعها عويل قذيفة ما لبثت أن انفجرت غير بعيد، فاهتز المكان..
    انتفَضَت رعبا، فإذا بها ترتمي فوق صدره كطفلة تهرب من خيالاتٍ أرعبتها..
    لم تنتبه إلى ما فعلت من شدة الخوف..
    يحضنها وهي ملتصقة به والقصف متواصل ويقترب..
    يهدهدها، تهدأ، ثم تتوقف عن الارتجاف، ويختفي صوت نحبيها تماما..
    شكَّ في الأمر، لكنه تأكد من أنها غفت وهي على صدره واستغرقت في النوم..
    بالغ في ضمها كي يرسل إلى قلبها شفرات جنين حبٍّ بدأ يتكون تحت قصف الطائرات ودوي المدافع..
    وهي مستغرقة في النوم كطفلة استسلمت في حضن الأمان المطلق..
    هدأ القصف، وبدأ الناس يتفرقون وينتشرون..
    وهي مستسلمة للنوم، لم يحاول إيقاظَها، إلى أن استيقظت بعد نصف ساعة..
    أدركت الموقف، شعرت بالحرج، احمرت وجنتاها خجلا عندما تلفَّتَت لترى أنها كانت بغفوتِها سببا في بقائه وحيدا في المكان، وأنه لم يتحرك كي لا يزعجَ غفوتَها..
    كان الأمر واضحا، الجنين نَبَتَ في القلبين معا..
    كان دافئا، غريبا، متلهفا هذا الجنين، فأمسك بالقلبين وأبى التفلُّت، وبنى بينهما جسرا من العطر وزهور الياسمين..
    حان وقت الفراق..
    طلبت منه عنوانه ورقم هاتف يمكنها أن تستخدمه لتطمئن عليه، فهو ذاهب إلى حرب..
    اعتذرَ مُبَرِّرا بأن الحرب هي سبب اعتذاره..
    فقد يموت أو يصاب..
    وهو لا يريدها أن تتصل لتطمئن فتُفْجَع..
    فالأفضل أن تدثرها دوما أفياء أمل بأن هذا الغريب العابر فجأة إلى أفياء القلب، قد يكون ما يزال على قيد الحياة..
    بدا أن كلماتِه شحنتها ببقايا الجرعة التي كانت تنقص الجنين كي يكتملَ في قلبها..
    افترقا، وكلٌّ يُضْمِرُ شيئا ما لا يعرفه لا هو ولا الآخر..
    تاه الحادث في زحام الذكريات، لكنه احتل من الزحمة مُحَرِّكَها، ومن زوايا الذاكرة أكثرها بروزا وتحديا لمنافي النسيان لديه..
    كل عام، في يوم هو ذاته يوم التقيا كطائرين لاحقهما صياد أفلتا منه معا، ليفترقا على أمل أن يحميَهما الجسر العالق بين القلبين من كلِّ الصيادين، كان يخلو بنفسه، يوقد شمعة، ويطفئها محتفلا بميلادها في قلبه، ثم يستحضر تلك اللحظات، التي اندهش كيف يمكنها بكلِّ الموت الذي رافقها، أن تُوَلِّدَ حبا عَشِقَ الحياة إلى هذا الحد، فانتصر على الموت الذي قنص أمامه كلَّ الأحباء في تلك الحرب، فقط لكي يلتقيَها يوما ويضمَّها إليه كما ضمها في المطار..
    لم يكن يعرف عنها شيئا، لا أين هي، ولا ماذا جرى لها، ولا كيف تعيش، ولا يعرف لها مكانا أو عنوانا غير قلبه وذاكرته السنوية التي يحيي بها مع لهيب شمعةٍ راقص،ٍ عَبَقَ اللقاء الذي كان يبتعد في الماضي رويدا رويدا، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أعدَّ له عشرين شمعة، هي عمر الجسر الذي أقامه ذلك الجنين بين القلبين النازفين فجأة بعشقٍ صامت، رَهَنَ مصيرَه إلى الأمل المتسلح بالصبر الباسل..
    حمل شموعَه العشرين وركب الحافلة المكيفة المتجهة من القاهرة إلى بيته في مدينة 6 أكتوبر عندما كان في زيارته لمصر، كي يعيشَ طقوس عبادته الخاصة مع هذه الذكرى التي أصبحت جزءا من ذلك الخليط من الأمل المتفلِّت المشوب بالألم المتمدِّد..
    اعتاد أن يحجزَ مقعدين متجاورين، فهو لا يحب أن يشاركَه أحد في أسفاره الخاصة، ويحسُّ بأن من يشاركه المقعد قد يسرق بعضا من رحيق خلوته العزيز عليه..
    لكنه لم يجد مقعدين متجاورين خاليين، وما وجد سوى مقعدٍ واحد فارغ إلى جانب امرأة كانت مشغولة بالنظر إلى خارج الحافلة عبر النافذة..
    جلس مضطرا متحاملا على نفسه..
    انطلقت الحافلة، أغمض عينيه، وسافر مع طقسه الذي كان ينتظره مع شموعه العشرين..
    فجأة وقبيل الوصول، توقفت الحافلة فجأة بشكل أرعب كلَّ الركاب الذين اشرأبت أعناقهم وتصايحوا وهللوا ووحدوا الها، شعورا بموتٍ يدهمهم..
    صرخت جارته صرخةً خفيفة، وارتمت في حضنه كطفلة، كأنها تلتجئ إلى صدره من الخطر المحدق..
    لم يتحرك، تركها إلى أن هدأت واستعادت الحافلة حركتها الطبيعية..
    ابتعدت عنه وهي مُحرجة تعتذر بنظراتها المتردِّدَة إلى وجهه..
    تبادلا النظرات وهو يخفِّفُ عنها..
    الشموع في يده ترتجف، والعتمة في الحافلة لم تكن قادرة على إخفاء ملامح وجه لم تغيره الأعوام العشرون..
    العشرون عاما تتكثف في لحظة، والموت كان في المرتين هو الدافع إلى صدره ليكون ملجأها..
    أنقذها صدره قبل عشرين عاما من رعبٍ ارتجفت بسببه في مطار بيروت..
    وها هو صدره ينقذها مرة أخرى اليوم من رعبٍ سببه هذا السائق..
    لم يعرف لماذا كان الجسر الذي أحس على مدى العشرين عاما بأن متانَتَهُ تتزايد يوما بعد يوم، يترنح في تلك اللحظات، وتظهر هشاشته مع كل كلمة كانا يتبادلانها..
    كان يريد أن يخبرها عن طقوسه، عن عبادته، عن الشموع التي كانت تتوالد عاما بعد عاما كما كان عبير حبه يتوالد، عن الجنين الذي شبَّ في قلبه، عن الجسر الذي أصبح قلعة..
    لكنه كان يفقد الحماس مع كل لحظة تمر من حديثهما..
    أحسَّ بالبرد، رغم حرِّ الصيف..
    سألته عن الشموع التي في يديه، فقد كانت كثرتها مريبة لفتت انتباهَها..
    صَمَت، ابتسم ابتسامة ساخرة لخَّصَت مسافةً من الأمل امتدت في عمر جسرٍ بين لحظة بنائه ولحظة انهياره..
    نظر إليها ثم إلى الشموع ثم قال:
    كنت أريد أن احتفل اليوم بعيد ميلادي العشرين..
    ضحكت لأنها تعرف أنه أكبر من ذلك..
    ونطقت بكلمات استشعر فيها صقيعا أشَدَّ بردا من كل ثلوج الدنيا..
    أصابه الحزن لأنها لم تلتقط الرسالة، ومد يديه يحاول حماية الجسر من حلول لحظة الانهيار، لكنه فشل..
    فانهار الجسر..
    انهار وأخذ معه عشرين عاما جميلة، لم يدر هل كانت جمال خيبة أم جمال وفاء..
    ثم فتح النافذة وألقى بالشموع إلى الشارع وهو يقول لها:
    "الآن فقط انتبهت إلى أن عمري أربعين عاما وليس عشرين..
    ثم كتب على جبين قلبه النازف:
    "كان لابد من أن نلتقي كي أعرف ذلك، ليتني ما التقيتك لا اليوم ولا أمس، ربما كنتُ كسبتُ عشرين عاما من عمري شطبها من سجِلِّ حياتي هذا اللقاء الطويل الممتد بطول المسافة بين جرحين، أحدهما كان بسبب طعنةِ عدوٍّ قاتلتُه، والثاني كان بسبب طعنةِ حبيبٍ عشقتُه"..
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  2. #2
    جميلة جدا جدا ..كان سردها رائعا .. جعل القارئ يعيشها
    بارك الله بك .
    تحيتي .

  3. #3
    فيها من املعاني المبطنة مافيها، تحيتي لك.
    ع ك
    موقع عدنان كنفاني
    http://www.adnan-ka.com/

المواضيع المتشابهه

  1. كبوة عشرين عام
    بواسطة زيد الطهراوي في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 02-21-2013, 04:27 PM
  2. أربعون عاما في الكويت : فيلويت ديكسون
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 07-27-2011, 10:28 AM
  3. حمل عشرين كتابا في ملف واحد للأستاذ : محمد قطب
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-05-2011, 04:36 PM
  4. كيف توقف زحف الشيخوخة في عشرين خطوة؟
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان الطبي العام .
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-22-2010, 06:01 AM
  5. البارح كان في عمري ( عشرين) !!
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الأدب الساخر
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-07-2009, 04:29 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •