المرجعية القيميّة للثقافة في المجتمع العربي ـــ د.مثال صبري
تعد الثقافة (cultuer) من المفاهيم التي يصعب شرحها وتبسيطها في العلوم الاجتماعية، لسعتها وتعدد جوانبها، ويحار الكثيرون في تحديد هذا المعنى في أذهانهم، فقد يتبادر إلى الذهن أن الثقافة هي المعلومات، أو فهم وتذوق الفنون بأشكالها المتعددة أو هي فرع من فروع العلوم الأدبية أو الاجتماعية. لقد تعددت معاني الثقافة حتى ابتعدت عن المعنى اللغوي لهذه الكلمة فأصبحت تعني معنىً آخر هو المجتمع بكل ما فيه وما يعنيه(1).
المعنى اللغوي للثقافة
في اللسان العربي يتصل تاريخ الفعل (ثَقَفَ) بلغة العرب قبل الإسلام، ولا يخلو معجم من معاجم اللغة العربية من الأصل (ثَقَفَ)، الذي يعني الحذق والفهم عند الخليل بن أحمد صاحب (العين) أو الحذق بالصناعة وسرعة الفهم والتلقين عند ابن دريد(2) والثقاف الخصام، وآله من خشب تسوى بها الرماح (وثقف الرمح) قوَّمه وسوَّاه وثاقفَ مثاقفةً وثقافاً) لاعبه بالسلاح و(ثاقفه مثاقفه) غالبه فغلبه(3). ويشكل القرآن الكريم مصدر معنى (الثقافة) وهو الظفر بالشيء بعد البحث والتفتيش عنه، كما جاء في الآية الكريمة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) خلاصة القول إن كلمة ثقافة تعني لغوياً الحذق والفطنة والخفة وتسوية الاعوجاج وتقويمه، والخصام والمغالبة، والملاعبة بالسيف والرمح، وسرعة الفهم والتعلم والمهارة.
أما المعنى اللغوي للثقافة في الفكر الغربي فإن لفظة (culture) تفيد على وفق معجم أوكسفورد عدة معان أهمها(4).
1 ـ معنى العبادة والتبجيل والتقديس والتعظيم والتأليه للإله إن لشخص أو لشيء.
2 ـ زراعة أو تربية إن تنشئة نبات أو زرع أو كائنات حية مثل السمك أو النحل.
3 ـ حراثة الأرض أو التربة أو فلاحتها أو تهذيبها أو إدارتها.
4 ـ ترويض أو تدريب أو تأهيل الجسم البشري.
5 ـ تربية وتنمية وتهذيب العقول أو الأفكار أو القدرات العقلية أو الذكاء أو الذاكرة أو القدرات أو السلوك والأساليب والأنماط المتعلقة بالعادات والمواقف.
6 ـ تستخدم الكلمة لتفيد معنى التحسين، والإصلاح، والتطوير، والتنمية، والتجميل والتهذيب والتعليم والتربية والترويض.
وفي الموسوعة الفرنسية لاروس (larouss) يقصد بالثقافة (فعل التربية وتكريس الفعالية، وهي تهدف إلى تطوير وإغناء مختلف الكفاءات الروحية من خلال التدريبات العقلية)(5).
ولو قارنا بين معنى كلمة (ثقافة) العربية ومعنى كلمة (culture) الغربية لوجدنا أن كلاً منهما يرتبط من حيث الأصل والجذر بأمور حسية، فقد ظهرت لفظة (ثقافة) العربية مرتبطة بالقوس والرمح والسيف والزراعة، وظهرت كلمة (culture) الغربية بالزراعة والاستنبات وتربية الحيوان، وقد امتدت اللفظتان بعد ذلك إلى مفهوم تربية الإنسان وتهذيب عقله وقدراته(6).
ظهور المعنى الاصطلاحي للثقافة
مما لاشك فيه أن الكلمة تتحول إلى مصطلح عندما تصل الفكرة إلى أرقى مراحل التذهين ويصبح المصطلح مرتبطاً بنشاط الإنسان حيث يجعل للمعارف والأفكار قيماً اجتماعية بسبب استخدام هذا المصطلح في مجتمع معين استخداماً يعكس ما ينطوي عليه من مضامين ومدلولات اصطلح عليها أهل المجتمع(7).
وهذا ينطبق على فكرة الثقافة الحديثة التي أفرزتها أوربا كثمرة في عصر النهضة خلال القرن السادس عشر حيث أدى ازدهار الفكر والأدب والفن إلى استعادة الكلمة اللاتينية (culture) من الزراعة والعناية بالأرض إلى التعبير عن الواقع الاجتماعي وعطاء الفكر. وعندئذ نشأ مفهوم الثقافة الذي تطور ونما مع نشوء وتقدم علوم: الإنسان (الأنثربولوجيا) والأقوام (الأنترلوجيا) والنفس (السيكولوجيا) والاجتماع (السوسيولوجيا) فأصبح أكثر تحديداً.
وقد بدأ العرب باستخدام مفهوم الثقافة بمدلوله هذا في أواخر القرن التاسع عشر وكان استخدامه قليلاً لشيوع كلمات أخرى مثل التربية والمعارف، وقد ظهرت كلمة المثقفين في كتابات الشيخ محمد عبده في العدد الأول من جريدة (العروة الوثقى) 1884م ثم بدأ المعنى الاجتماعي لكلمة (ثقافة) يظهر في كتابات (قاسم أمين)(8).
تعريف الثقافة
عرفت الثقافة بالعديد من التعريفات التي توسع بعضها ليميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية وضاق البعض الآخر ليقتصر على النتاجات الرفيعة في مجالات الأدب والفن، وكما سنلاحظ من خلال استعراضنا لعدد من التعريفات الخاصة بالثقافة:
فهناك من عرف الثقافة كخاصية للإنسان تميزه عن الكائنات الأخرى، فالثقافة هنا (كل ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة أو ما يجده فيها)(9) وهذا معنى واسع إلى أقصى حد لأنه يشير إلى صفة رئيسة تميز الإنسان كنوع عن الحيوان، ويحمل هذا التعريف معنى التكيف ويشير إلى تدخل الإنسان في تعديل الطبيعة أو تحويرها بإضافة عناصر بشرية على الوجود الطبيعي وإدخال أشياء اجتماعية لم تكن موجودة في الطبيعة، فكل إضافة إنسانية على الوجود الفيزيقي أو العالم الطبيعي هي ثقافة(10).
شهد العام (1871م) تقديم أول تعريف انثربولوجي للثقافة تضمنه كتاب (الثقافة البدائية) للعالم أدوارد تايلور حيث قال:
(الثقافة بالمعنى الأنثرجرافي الواسع هي ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة، والعقيدة، والفن، والقانون، والعادة، وكل المقومات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع(11). أما لسلي وايت فقد عرف الثقافة بأنها تنظيم لأنماط السلوك والأدوات والأفكار والمشاعر التي تعتمد على استخدام الرموز، وبسبب هذه السمة الرمزية تنتقل الثقافة بسهوله وبسرعة من كائن إنساني إلى كائن إنساني آخر. ولذلك يقول وايت (إن الثقافة عملية رمزية مستمرة، تراكمية وتقدمية)(12). وفي ضوء تعريف لينتون تكون الثقافة (تنظيم للسلوك المكتسب ولنتائج ذلك السلوك، يشترك في مكوناتها الجزئية أفراد مجتمع معين، وتنتقل عن طريق هؤلاء الأفراد)(13).
إن التعاريف الأنثروبولوجية لكلمة ثقافة كثيرة جداً وقد صنف عالما الأنثربولوجيا كروبير وكلوكهون قبل أكثر من ثلاثة عقود ما يزيد عن 100 تعريف للثقافة وقدم هذان العالمان صيغة تأليفية في محاولة لتحديد مفهوم للثقافة حيث عرفاها (جميع مخططات الحياة التي تكونت على مدى التاريخ بما في ذلك المخططات الضمنية والصريحة والعقلية واللاعقلية وغير العقلية وهي توجد في أي وقت كموجهات لسلوك الناس عند الحاجة)(14).
من خلال استعراضنا لهذه التعريفات التي تتشابه إلى حد كبير فيما بينها نستطيع أن نتبين أهم مميزات الثقافة:
1 ـ الصفة التعليمية للثقافة، حيث تظهر التعريفات أن عناصر الثقافة أمور يكتسبها الإنسان بالتعلم من المجتمع الذي يعيش فيه، فالثقافة سلوك متعلم يتخذ شكل عادات جماعية تُكتسَبُ اجتماعياً (15) ويتم القدر الأكبر من هذا التعليم من خلال أفراد الجماعة الذين تعلموا سلوكهم الثقافي من الآخرين. فالثقافة إذن تربط بين الجيل السابق الذي منه كبار السن وبين الأجيال التي لم تولد بعد التي سوف ينتقل إليها القدر الأكبر من هذا السلوك المتعلم. ورغم أن الثقافة تنتقل عبر الأجيال إلا أنها لا تنتقل عن طريق الوراثة كالخصائص السلالية(16).
2 ـ إن الثقافة تنتقل من إنسان إلى إنسان ومن جيل إلى جيل، فالإنسان يبني فوق ما بنته الأجيال السابقة، فالثقافة هي تراكم الأفكار والقيم والأشياء، أي أنها التراث الذي يكتسبه الإنسان من الأجيال السابقة فتأخذ صفة الاستمرار وهي خاصية نابعة من تصور الثقافة على أنها التراث الاجتماعي الذي يرثه أعضاء المجتمع من الأجيال السابقة، وعلى هذا فالثقافة تنشأ وتتطور عن طريق الاتصال الإنساني بين الأفراد وتتكون الثقافة من مجموع الاتصالات هذه ومن النتائج المادية لها. ولا شك أن الوسيلة الرئيسية للنقل الثقافي هي اللغة فهي أداة حفظ وتوصيل في أي مجتمع، وأي خلل في اللغة يعني اهتزازاً في الإدراك والوعي أو في مجمل التكوين الروحي(17).
3 ـ أن لكل مجتمع إنساني ثقافته المميزة أو كما يقول كلاكهون (إن ثقافة مجتمع من المجتمعات هي نسق تاريخي المنشأ يضم مخططات الحياة الصريحة والضمنية ويشترك فيه جميع أفراد الجماعة أو أفراد قطاع خاص معين)(18) فالثقافة شأنها شأن الفرد تمثل نمطاً متسقاً إلى حد ما من الفكر والسلوك فتوجد داخل كل ثقافة بعض الأهداف المميزة التي لا تشترك فيها مع أنماط المجتمعات الأخرى ويحاول كل شعب في تحقيقه لهذه الأهداف أن يركز تجربته وخبرته الخاصة ويبلورها اكثر فأكثر(19).
إن الثقافة تشتمل على الجوانب المادية وغير المادية وهذا أدى إلى التباس في مفهوم الثقافة وتقاطعه مع مفهومي الحضارة والمدنية، فنجد أن البعض أخذ ينظر للثقافة بكونها تُشَكِّل الجانب الروحي أو المعنوي والذهني، والحضارة تمس جوانب الحياة ووسائلها المادية ويذهب د. محمد رياض إلى القول بأن الحضارة هي (أكثر المصطلحات شمولاً لما يقصده الدارسون للمجتمعات الإنسانية في شتى صورها) بينما يقتصر مفهوم الثقافة على (نوعية حضارية معينة) في حين يصف المدنية بأنها (مرحلة معينة زاهرة من مراحل الحضارة) وهي بذلك ليست حقيقة حضارية دائمة)(20).
بينما يرى أبو خلدون ساطع الحصري أن مفهوم الحضارة يتصل بمفهوم الثقافة اتصالاً وثيقاً غير أنه بطبيعته أوسع نطاقاً وأكثر شمولاً لأن الثقافة تنحصر بالأمور الذهنية والمعنوية وحدها في حين أن الحضارة تشتمل على الأمور المادية والوسائل المادية. ولهذا السبب تجد الحضارة تكون بطبيعتها قابلة للانتقال من أمة إلى أخرى بسهولة وقابلة للانتشار بين الأمم، وأما الثقافة فتبقى خاصة بكل أمة على حدة(21),
إن هذا التداخل والتشابك بين مفهومي الثقافة والحضارة والاختلافات بين المفكرين والباحثين حول الخطوط الفاصلة بينهما، جعل بعضهم يركز على الجانب المعنوي للثقافة فقدموا لها تعريفات تنطلق من زاوية نظرية القيم، حيث تلعب منظومة القيم دوراً مهماً في ثقافة أي مجتمع لأن الوحدة الاجتماعية تقوم على أساس وحدة القيم الكامنة في وعي الأفراد التي تتشكل متكاملة في صورة عقائد إيمانية. فالقيم هي الجانب المعنوي في السلوك الإنساني وهي تشكل مضمون الثقافة ومحتواها، والثقافة هي التعبير الحي عن القيم والعناصر الثقافية مثل الاتجاهات والعادات والسلوك هي طبقات الوجود الاجتماعي(22).
وفي هذا السياق يمكن إيراد تعريف (ببتر فارب) الذي ينطلق من هذه الزاوية في تعريفه للثقافة فهي المخطط الأساسي الذي يضعه المجتمع للسلوك الإنساني موضحاً ما يجب عمله وما يحسن عمله وما يمكن عمله وما يجب أن لا يعمل)(23).
وقد ذهب البعض إلى تحديد أضيق لمعنى الثقافة فهي (الإنتاج الفكري الرفيع)(24). وتم التركيز في هذا الإطار على الإنتاج الفكري في مجال الأدب والفن والفلسفة. لذلك فإن مجيء الثورة الصناعية واستخدامها للنظريات العلمية في الصناعة أدت إلى ظهور مصطلح (الثقافتين)، الثقافة العلمية والثقافة الأدبية أو الإنسانيات، وغدا الجدل قائماً حول أولوية أي منهما، حيث يرى أصحاب النظرية العلمية أن يحتل العلم المكانة الأولى، ويرد أصحاب النظرية الأدبية بالضد من ذلك، في حين أن الحواجز بين الثقافة والمعرفة واهية لأن هذه المدلولات متنافذة فيما بينها فالعلم وحده لا يصنع ثقافة والمعرفة وحدها لا تصلح معياراً للثقافة، ولابد من التوظيف المنسجم للعلم و(معطياته) والمعرفة (وتراكمها) في سياق منسجم، فالعلم ليس المحرك الأول للتغير الاجتماعي، فالقيم الثقافية هي التي تحدد الفكر العلمي والإبداع والابتكار ولا يمكن شراء ولا نقل هذه المخرجات دون أن تتوفر المدخلات الثقافية التي تمكن من الفهم والهضم والإضافة في القيم الذاتية للمنقولات لذلك فإن أحسن تعريف كتب عن التنمية هي (العلم حين يصبح ثقافة) (25).
من هنا نلاحظ بأن الاتجاه الحديث في تعريف الثقافة أخذ يركز على أبعادها المختلفة أي التركيز على البعدين المادي والمعنوي للثقافة باعتبارها نتاج المجتمع المادي والمعنوي. وهذا المفهوم للثقافة حددته منظمة الثقافة والتربية والعلوم التابعة للأمم المتحدة (اليونسكو) من خلال إعلان مكسيكو في 1982 {إن الثقافة بمعناها الواسع، يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات}(26).
الثقافة العربية
لاحظنا من خلال استعراضنا لمفهوم الثقافة استحالة وجود ثقافة بدون إطار قومي أو طابع قومي أو وطني، حيث أن البصمات الحياتية والذهنية لكل شعب من الشعوب ترتسم على ثقافته بشكل مباشر وتمنحها أبعادها المتميزة. إذن مفهوم الثقافة لا يمكن أخذه بشكل مطلق وبدون تحديد ولا يجوز الانسياق وراء تحديات الأبحاث الأنثروبولوجية الغربية التي تستقي مفاهيمها وتصوراتها من دراسة المجتمع الغربي، ولا يجوز وضعها على مستوى واحد مع مستوى المجتمع العربي، سواء كان ذلك في الماضي أو في الحاضر، ولابد من تحديد مفهوم الثقافة من داخل الوطن العربي ذاته(27).
فالثقافة القومية الحقيقية هي الثقافة النابعة من عمق المجتمع وتؤثر تأثيراً واضحاً في أفعال وسلوك أعضاء المجتمع. فالثقافة القومية بشكل عام والثقافة العربية بشكل خاص هي وليدة توتر ذاتي وخارجي بين مجموع أفراد الأمة في حاضرها وفي مختلف مستوياتها الاجتماعية، توتر إيجابي ينتج عنه تجديد القيم، وهي بذلك ذات ناحيتين: فمن ناحية مرآة تعكس صنوفاً من الواقع في شتى صوره، لأنها مجموعة قيم ونظم وإدراكات موروثة، وهذه الناحية نقطة البدء وأساس الارتباط بمعالم يتوجه بها الوعي، والناحية الأخرى التجاوز الدائم للواقع في سبيل التعالي عليه(28).
فنحن لا نستطيع أن نتكلم عن ثقافة عربية خارج إطار هموم الأمة العربية وقضاياها المصيرية وشخصيتها الحضارية حتى فيما يتعلق بتحديد مفهوم الثقافة الذي ينطلق من داخل المجتمع العربي، فعلى الرغم من حداثة هذا المفهوم بالنسبة للفكر العربي إلا أنه يتميز بتلك العلاقة العضوية واللغوية والاشتقاقية بين كلمة ثقافة وكلمة مثقف وهي علاقة لا نجدها في اللغات الأوربية(29).
إن الثقافة العربية الذاتية ليست مجرد استعادة صور الماضي والارتباط بحبله بل هي فوق هذا، دمج الماضي بالواقع العربي وبالتجربة العالمية المعاصرة وبرؤى المستقبل، فالثقافة العربية ليست مجرد اكتشاف لثقافة طمستها عصور التخلف، بل هي وقبل كل شيء، بناء ذو أربعة أعمده، التراث، والواقع العربي، والواقع العالمي، والمستقبل العربي والعالمي(30).
إن الثقافة الأصيلة هي تلك الثقافة الذاتية القادرة على الاستقلال دون أن يعني ذلك الانعزال عن الثقافات الأخرى، والحفاظ على الهوية الثقافية ليس مطلباً قومياً فحسب بل هو مطلب تنموي يتصل بتوفير الشروط السليمة اللازمة للتنمية عامة بما في ذلك التنمية الاقتصادية(31) لأن الثقافة بمعناها الواسع بُعْدٌ أساسي في عملية التنمية باعتبار أهمية الوعي الجماعي والفردي في استيعاب العملية تصوراً، وفي مساندتها ممارسة وأبدعاً.
وتلعب اللغة العربية دوراً كبيراً في تحديد مفهوم الثقافة العربية وتأخذ موقعاً بارزاً في التراث الفكري والروحي والحضاري للأمة العربية ليس في الماضي فحسب، بل تأخذ مكانتها في التعبير عن حيويتها في هذا العصر أمام معطيات التفاعل مع الثقافات الأخرى، فاللغة العربية أهم عنصر من العناصر المكونة للثقافة العربية وتلعب دوراً بارزاً في توحيد الانتماء الجماعي حيث حققت انتساباً شاملاً من الخليج إلى المحيط(32).
للثقافة العربية كما لكل ثقافة، محور رئيسي يدور حوله التفكير هو العمود الفقري للمثل العليا التي يحترمها الناس ويتمسكون بها، وهو ما يسمى مرجع القيم، ويعد الإسلام هو مرجع القيم الرئيس للثقافة العربية.
للثقافة تأثيرها الفاعل في المشروع الحضاري القومي العربي فالوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج لم يكن على الدوام موحداً سياسياً أو متكاملاً اقتصاديا ولكنه ظل دائماً موحداً روحياً ووجدانياً ولغوياً ووحدة الروح والوجدان تخلقها الثقافة وتعمقها وترتقي بها(33).
وتشكل الثقافة العربية عنصراً مهماً من عناصر بعث الشخصية القومية، فهي الصناعة الثقيلة والحقه في المجتمع، فالثقافة العربية وحدها الكفيلة بتحقيق هذا الهدف الذي يتمثل في بناء الإنسان وتأصيل شخصيته وإحياء قيمه وضبط سلوكه.
وللثقافة وظيفة تاريخية هي وظيفة التوحيد المعنوي والروحي والعقلي. إنها وظيفة الارتفاع بالوطن العربي من مجرد رقعة جغرافية إلى وعاء للأمة لا تكون إلا به ولا يكون إلا بها.
ومن هنا فإن وظيفتها هي هويتها نفسها، لا بل ماهيتها نفسها. صحيح أن هناك مقومات عديدة وأساسية للوحدة العربية مثل اللغة والدين والماضي المشترك ولكن هذه جميعاً عناصر في كل وليس هذا الكل شيئاً آخر غير الثقافة العربية(34).
إن هذا الدور التاريخي للثقافة العربية وضعها في صراع دائم فالتجزئة والتخلف والمؤامرات الأجنبية لا يمكن لها أن تستمر إلا إذا استسلم لها العقل العربي وفقدت الشخصية العربية القدرة على مواجهتها والتغلب عليها. وهذا العصر الذي يوصف بأنه عصر ثورة المعلومات والبث الفضائي يتهدد الثقافة العربية لا بوصفها منظومة معرفية بل مجموعة القيم والمعايير والسلوك والمرجعيات المولدة للمفاهيم داخل النظام المعرفي(35) فهو يتوجه إلى الثقافة العربية من خلال تعطيل فاعلية العقل وتكييف المنطق والقيم وتوجيه الخيال وتنميط الذوق وقولبة السلوك(35) والغاية تفكيك الشخصية العربية وطمس هويتها العريقة بمفعول فلسفات وقيم دخيلة تحاول النيل من أصالتها وقدرتها على مقاومة التحديات المصيرية وتيئيسها للاستسلام للتبعية والتخلف. من هنا نجد أن دور الثقافة العربية لا يرتبط فقط بمهمة الارتفاع بالمستوى العربي بل بالحفاظ على جوهر الوجود العربي نفسه.
المصادر
1 ـ (1) (26) د. محمد الرميحي، واقع الثقافة ومستقبلها في أقطار الخليج العربي، مجلة المستقبل العربي، السنة الخامسة، العدد 49، (آذار 1983)، ص 44، ص 45.
2 ـ (2) ابن سيده، المخصص، ج 1، دار الآفاق الجديدة، بيروت السفر الثاني، ص 113، السفر الثالث ص 33 ـ 38.
3 ـ (3) محمد فريد وجدي، (دائرة معارف القرن العشرين)، المجلد الثاني، ط 3، دار المعرفة، بيروت 1971، ص 757.
4 ـ (4) (5) (7) نقلا عن د. محمد فريد حجاب، مفهوم الثقافة في الفكر الغربي، وتطوره وأبعاده، دراسة في نظرية القيم، مجلة شؤون اجتماعية، العدد الخامس والعشرون، السنة السابعة، 1990، ص 157 ـ 158.
5 ـ (6) نقلاً عن د. خلدون الحكيم، الثقافة العلمية الجماهيرية، دورية الدراسات الإعلامية العربية، ألسنة الثانية، العدد الثاني، 1982، ص 107.
6 ـ (8) نديم مرعشلي، الصحاح في اللغة والعلوم، ط1، دار الحضارة العربية، بيروت، 1974، التقديم والمقدمة ص أ ـ ك.
7 ـ (9) د. فؤاد زكريا، الثقافة والاعتماد على الذات، المعهد العربي للتخطيط، دار الشباب للنشر والترجمة، 1988، ص 15 ـ 16.
8 ـ (10) د. قبادي محمد إسماعيل، علم الاجتماع الثقافي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1977، ص 15.
9 ـ (11) Horton and hunt, sociology, London, 1982, p48.
10 ـ (12) (15) د. وهيب سمعان، الثقافة والتربية في العصور القديمة،دار المعارف، القاهرة، 1961، ص 13 ـ 14.
11 ـ (13) linton, the, culture baground of personality. P21.
12 ـ (14) (16) (18) (19) راف ل. بيلر، هاري هو يجر، مقدمة في الأنثربولوجيا العامة، ج1 ترجمة محمد الجوهري، دار نهضة مصر، القاهرة، 1976، ص 139، ص 162.
13 ـ (17) حيدر إبراهيم علي، أثر العمالة الأجنبية على الثقافة العربية، مجلة المستقبل العربي، العدد(50)، (السنة 5)، (نيسان 1983)، ص 108.
14 ـ (20) د. محمد رياض، الإنسان، دراسة في النوع والحضارة، ط2، دار النهضة، بيروت، 1974، ص 175.
15 ـ (21) (22) أبو خلدون ساطع الحصري، آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة، الأعمال القومية لساطع الحصري(6)، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985، ص 42، ص 53 ـ 54.
16 ـ (23) ببتر فارب، بنو الإنسان، تعريب زهير الكرمي، سلسلة عالم المعرفة (17)، الكويت 1983، ص 233.
17 ـ (24) ابن سيف يوسف، ندوة المستقبل العربي، الأقباط والقومية العربية، مجلة المستقبل العربي، السنة 4، العدد 33، 1981، ص 178.
18 ـ (25) المهدي المنجرة، الالتحام بين العلم والثقافة مفتاح القرن الحادي والعشرين، مجلة المستقبل العربي، العدد 136، (6/ 1996) وص 17.
19 ـ (27) (29) (34) (36) د. محمد عابد الجابري، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، ص 68، ص 26، ص 92.
20 ـ (28) د. محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، دار نهضة مصر، ص 118.
21 ـ (30) د. عبد الله عبد الدايم، المسألة الثقافية بين الأصالة والمعاصرة، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987، ص 690.
22 ـ (31) مجموعة باحثين، المثقف في الوطن العربي، ط2، بيروت، 1992، ص 11.
23 ـ (32) محمد الذوادي، في محددات الهوية الجماعية وإشكالياتها، مجلة المستقبل العربي، العدد 217، 3/1997، ص 32.
24 ـ (33) مجلة المستقبل العربي، العدد 83، 1/ 1986، ص 32.
25 ـ (35) مؤيد عزيز، رؤى نهاية القرن تحديات الثقافة العربية، مجلة الموقف الثقافي، العدد 7، 1997، ص 147.
المرجعية القيمية للثقافة في المجتمع العربي
العدد430
36
2007