للمرَّةِ الستينِ ندورُ فى نفس الدائرةِ
نبحثُ عن معالم صورةٍ للبلادِ
نفتـِّشُ بينَ الحُطام عن آخر قطارٍ للنجاةِ
عن آخر شمعةٍ فى الليل المُظلم
نفتـِّشُ عن نارٍ خبأتْ تحتَ الرمادِ
للمرَّةِ الستينْ .... يهزمُنا جبروتُ التنينْ
نزرعُ الشوكَ بأيدينا
ونرجوه تيناً وزيتوناً عِند الحَصادِ
يطلعُ الصبحُ علينا ولا زلنا
عالٍ صوتُ غوغائِنا
مشتعلٌ بينَنا اختلافـُنا
أفى اليمين كانَ أمْ فى اليسار
سوطُ الجلادِ ؟!!
للمرَّةِ الستين ِ
نُنكرُ عَلاقتـَنا بحارقةِ روما
أوهزيمةِ أشبيلية
وبكل ألوان الفسادِ
لازلنا خائفينَ من الموتِ
لازلنا راغبينَ عن الشهادةِ
لازلنا راجينَ ما فى أيدِ العبادِ
للمرَّةِ الستين ِ
نتهمُ إمامَنا بالكفرِ
ونرمى العذراءَ بالعُهرِ
ونجعلُ من مقبرةِ العميل ضَريحْ
للمرَّةِ الستين ِ
نلهثُ هرباً من عَارنا
نحاولُ إخفاءَ سوآتِنا
فنطفقُ نخصِفُ طيناً على وجهٍ قبيحْ
نجرى ولا نعرفُ أينَ ذاهبونَ
متخبطونَ ضائعونَ
ظالمونَ أم مظلومونَ ؟!
مناضلونَ أم خائنونَ ؟!
فالقلبُ دامٍ
والعمرُ كسيحْ
للمرّة الستين ِ
يضيعُ الحَمَلُ بينَ أنيابِ السباع ِ
ونرمى البيضَ فى وكر الأفاعى
يفزعُنا دوىُّ الأزيز
تفزعُنا غوغاءُ الفحيحْ
سؤالٌ للمرّة الستين ِ
لماذا يُرهبُنا زيلُ التنين ِ
مذبوحونَ نحنُ أصلاً
فماذا سيفعلُ السكينُ
فى رأسٍ ذبيحْ ؟!
فكلُّ ما فى ذاكرةِ التاريخ
نصرٌ أو هزيمة ٌ
كلُّ ما فى قاع البحار
غرقٌ أو غَنيمةٌ
وكلُّ الطرق يكسوها ضبابٌ
وكلُّ مافى العينين سرابٌ
كذراتِ ترابٍ هبّتْ فى وجهها ريحْ
مخنوق ٌ صوتُ الأذان ِ
مكسورٌ خَشبُ الصُلبان ِ
مهرولونَ نحنُ كالفئران ِ
نفتِّشُ عن مكان ٍ
نبحثُ فى زمان ٍ
والقدمُ حافٍ
والصدرُ جريحْ
شهادؤنا آخرُ قطار ٍ
للنجاةِ من مَزبلةِ التاريخ ِ!!
فلا العيشُ بالعار أراحَ مَن عاشَ
ولا موتُ الجبناءِ يُريحْ
فمعَ أذان الفجر سيحيا الشهيدُ
ويعودُ لغزة ثانية ً
يحملُ السلاحَ بيدهِ ويقاتلْ
فلا تنزعجوا إذا أفقتمْ فى الصباح
على صوتِ بركان ٍ
أو هِزةٍ كهزاتِ الزلازلْ
حتى وإن ماتَ الشهيدُ ثانية
يبقى العطرُ رغمَ اصفرار الوردِ
تبقى المقولة رغمَ موتِ القائلْ
فيا ليلَ الظلمةِ سوفَ تنقشعُ قريباً
سوفَ تنفكُّ يوماً يا زردَ السلاسلْ
فكيفَ يدومُ ظلامُ الليل أبداَ
وكلُ ما فى الليل والليلُ زائلْ
فيا أيُّها الطفلُ الذى ماتَ
ولمْ يعرف حتىَ السببْ
لمْ يُقدّر لكَ أنْ تعرفـَنا
إليكَ عنَّا...نحنُ أمة العربْ
يدانا ملطخةٌ بدمائكَ
فتبتْ يدانا كما تبتْ يدا أبى لهبْ
فى وغىَ المعاركِ تركناكَ فريسةً
وجعلناكَ فارساً فى مُقدماتِ الخُطبْ
تاجَرنا بكَ
جعلناكَ سِلعة رخيصة
فى أيدى النخَّاس
مسكينٌ أنتَ ؛ صَدّقتَ الكذِبْ
يا أيُّها الأبُّ الفقيرُ القعيدُ
لقد غلبوكَ
والحياةُ – تعرفُ – لمنْ غلبْ
يا أيّتُها الأمُّ الثكلىَ
كُفِّى صُراخَكِ
فقد خُضنا فى دماءِ أبنائكِ العشرةِ
حتى الرُكبْ
وإذا سمعتِ (اذهبى أنتِ وربُّكِ فقاتلا)
فما من داع ٍ إلى الذهول أو العَجَبْ
إنْ كانَ أبناؤك قد ابتاعوا الأرضَ بالحياة
فإنَّا بعنا الشرفَ والكرامة لأجل الذهبْ
يا أيّتُها الأمُ الثكلى
إنَّ أرضَنا عطشىَ
فأغرقيها ببحرٍ من الدموع ِ
إنَّا تُهنا رغمَ شمس النهار
وأنتِ أوقدتِ فى الظلام عشرَ شموع ِ
إنَّنا المسافرونَ بلا بطاقةِ هويةٍ
والمبحرونَ فى البحر اللُجىِّ بغير قلوع ِ
فيا أيّتُها الغَرقى
كفاكِ بحثاً بين الحُطام
عن مُحمدٍ
كفاكِ بحثاً عن يَسوع ِ
قانتونَ نحنُ ضائعونَ
هائمونَ موهومونَ
ذاهبونَ إلى الجحيم بغير رجوع ِ
شُعراؤنا بغير قافية ٍ
خُطباؤنا ذاهبون إلى هاوية ٍ
وكلـُّنا بلسانٍ مقطوع ِ
أغنامٌ نحنُ على باب مِقصلةٍ
نفاياتٌ فى زحام مَزبلة ٍ
حتى صوتُنا المشنوقُ غيرُ مسموع ِ
كلُ ما فى عتمةِ الليل حتماً سينجلى
وكلُ ما فى السماءِ من نجومٍ فهى لابدَّ آفلة
لازلنا حائرينَ بينَ تخدير الوعودِ
وفكِّ حصار القيودِ
وبين ضربةٍ عاجلة
للمرَّةِ الستين ِ
نُدنِّسُ ماءَ المطر
ونهربُ من سهلٍ بارتْ أرضُهُ
لنحتمى بظل صحراءٍ قاحلة
وما زلنا شاكينَ كل همومِنا
إلى الغولةِ الكبيرةِ ؛
أمِّنا الروحيةِ الودودةِ الفاضلة
لا نرىَ مَن سَحَلتْ وجهَنا
لا نعرفُ مَن بقرتْ بطنَنا
لا نسمعُ إلا مَن أصمّتْ أذنَنا
لا نُكلّم ُغيرَ من أخرسَت صوتَنا
ولا ندرىَ من القاتلة
مضيعونَ كل شىءٍ
مِن خيرٍ ومِن سَوْءٍ
كلُّ ماضٍ بعناهُ
وقايضنَا على كلِّ ما هو آت ِ
متهمونَ بحرق إبراهيمَ
ولم يُحْرقْ!
متهمونَ بذبح اسماعيلَ
ولم يُذبحْ!
متهمونَ باشعال ماءِ البحار
وارفعوا عنها شبحَ البصماتِ
للمرَّة الستين ِ
جرذانُ الطريق لا نهابُها ولا تهابُنا
بهذا أفتانا بالأمسّ إمامُنا
وكلابُ الحى نلقاها خاشعينَ
كما لو كُنا فى خشوع الصلاةِ
لمْ يعُدْ لنا فى ثوبِ الحياءِ خيْطٌ
لم يعُدْ لنا فى هذى الأرض بيتٌ
ما عادَ أحدٌ مِنـَّا على قيْد الحياةِ
ظلماتُنا فى القلوبِ ظلماتُنا فى الضميرِ
تساوىَ صاحبُ الأرض بصاحبهِ الأجيرِ
لمْ يعدْ بطريقنا غيرُ الدماءِ
لمْ يعُدْ به غيرُ الظلماتِ
عيونُنا عينٌ بالجنةِ وأخرى بالسعيرِ
الأسيرُ فينا أسيرٌ والحرُّ منّا بقايا أسيرِ
نأوى إلى حضن الغولةِ
كمَن يستظلُ بنار الفُلاةِ
فنحنُ الذين باعوا الكرامة والإباءَ
وارتضينا الخنوعَ والهوانَ منذُ زمنْ
نحنُ الذين خِلتُمونا ظهورَكم
فأظهرتْ الحقيقةَ نوائبُ المحنْ
فيا كلَّ إنسانٍ على وجهِ الأرض
حَارَ فى الحياةِ بحثاً عن وطنْ
شيئان أقسىَ ما فى الحياةِ مِن ذل ٍ
أنْ تقولَ للكلبِ (يا عمُّ !)
وأنْ تسجدَ لوثنْ
يا كلَّ إنسانٍ على وجهِ الأرض
حَارَ فى الحياةِ بحثاً عن وطنْ
إنَّ يدَ الأوطان عروسٌ
والمهرُ محفوفٌ بالمخاطر والشَجنْ
يا كلَّ إنسانٍ على وجهِ الأرض
حَارَ فى الحياةِ بحثاً عن وطنْ
إنَّ طاحونة الحياةِ – فاعلمْ –
لا تذكرُ مُسافراً ضَلَّ الطريقَ
ولا تنعى جباناً قد وَهنْ
يا كلَّ إنسانٍ على وجهِ الأرض
حَارَ فى الحياةِ بحثاً عن وطنْ
عِشْ فى أرضكَ حُراً طليقاً غَرداًَ
وإلا فاخترْ لكَ فى قلبِ العراءِ سكنْ
لا تنتظرْ عدلَنا .. ظالمونَ نحنُ
أضحتْ حياتـُنا درباً من الجنون والخبنْ
نحنُ المضيعونَ حقَّ الجار
نحنُ أصنامُ زمان العار
نُساق كالأغنام كلَ يومٍ
من غزَّةَ إلى عَدَنْ
فيا أيُّها الشهداءُ
يا مَن اكتفيتُم من كل رَغَدِّ الحياةِ
بقطعةٍ صغيرةٍ من قُماش الكفنْ
قلوبُنا دونَ شُعورٍ
مُحَنَّطونَ بغير قبورٍ
فاحتْ من ضميرنا رائحة العَفنْ
يا أيُّها الشهداءُ
اذهبوا أنتمْ إلى ربِّكُم فرحينَ
ودعونا هنا خَزايا مفتونينَ
نتقلبُ يميناً ويساراً على نار الفِتنْ
دعوا يسوعَ مصلوباً على الجَدارِ
ودعونا لخربشاتِ سنين العارِ
فلنْ ينساهَا أبداً ضميرُ الزمنْ
يا أيُّها الشهداءُ
ناموا فى قبوركُم هانئينَ..
فلم نبعْكُم بَخساً
ناموا هانئينَ..
فقد قبضنا الثمنْ
ناموا هانئينَ ناموا هانئينَ
ناموا هانئينَ ... فقد قبضنا الثمنْ
محمد فياض
فى 1 مارس 2009