بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل قصة علي بن الجهم مع المتوكل صحيحة ..؟
قصة علي بن الجهم مع المتوكل نشر في المجلة العربية - عدد ( 250 ) ذو القعدة 1418 ص 58
يشيع بين المتأدبين في مجالسهم وفي بعض منتدياتهم ومحاضراتهم قصة تقول : إن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً ، فقدم على المتوكل العباسي ، فأنشده قصيدة ، منها :
أنت كالكلب في حفاظك للود=وكالتيس في قِراع الخطوب
أنت كالدلو ، لا عدمناك دلواً=من كبار الدلا كثير الذنوب
فعرف المتوكل حسن مقصده وخشونة لفظه ، وأنه ما رأى سوى ما شبهه به ، لعدم المخالطة وملازمة البادية ، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة ، فيها بستان حسن ، يتخلله نسيم لطيف يغذّي الأرواح ، والجسر قريب منه ، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به ، فكان – أي ابن الجهم – يرى حركة الناس ولطافة الحضر ، فأقام ستة أشهر على ذلك ، والأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته ، ثم استدعاه الخليفة بعد مدة لينشده ، فحضر وأنشد :
عيون المها بين الرصافـة والجسـر=جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فقال المتوكل : لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.
أقول : هكذا وردت القصة – بتصرف يسير – في محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار لابن عربي الصوفي ( 2/3 ) وعنه نقل محمد أحمد جاد المولى وصاحباه في قصص العرب (3/298) وخليل مردم في تحقيقه لديوان علي بن الجهم (حاشية ص 143) فالمصدر واحد لا ثاني له ، وقد حاولت أن أجد لها أصلاً في كتب المتقدمين كالجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن عبد ربه وآخرين فلم أقع على شيء من ذلك ، وهذا وحده كاف في توهينها .
فإذا عرفت أن ابن عربي أسند روايتها إلى مجهول فقال: ( حكى لنا بعض الأدباء.. ) زاد وهنها عندك , علما أن بين ابن الجهم ( ت 249هـ) وابن عربي ( ت 638هـ) ما يقارب أربعة قرون ، فأين انزوت هذه القصة الطريفة طوال أربعمائة سنة ؟! . زد إلى ذلك أن ابن عربي نفسه متّهم في دينه ، مطعون في إيمانه ،بل متهم بالكفر ، نقل ذلك فيمن نقل الذهبي (سير أعلام النبلاء : 23/48 ) فقال : إن الشيخ العز بن عبد السلام يقول عن ابن عربي : ( شيخ سوء كذاب ) ، وقال الذهبي نفسه : ( ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص ، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر ) . فهذا الذي يتهم بالكفر كيف لا يتهم بصناعة قصة طريفة يأنس بها الناس ويهشون إليها ؟ أما وقد تسرّب الشكّ إلى نفسك في صحة هذه القصة - من حيث تفرّد امرئ مغموز في دينه ، متأخّر زمنه بروايتها _ فاعلم أن متن القصة يحوي شيئاّ يكذبها : قال : ( إن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً ) ،والتاريخ يقول خلاف هذا ، ففي معجم الشعراء للمرزباني ( ص 286) أن أصله من خراسان ، ولا يعني هذا أنه غير عربي ، ونقل عمر فروخ ( تاريخ الأدب العربي 2/289) أنه ولد ببغداد عام 188هـ ، وفي طبقات الشعراء لابن المعتز (ص 319) ما يدل على أنه حضري لا صلة له بالبادية ، فقد روي أنه حبس في المكتب ، فكتب إلى أمه :
يا أمّنا أفديـك مـن أمٍّ=أشكو إليك فظاظة الجهم
قد سرّح الصبيان كلهم=وبقيت محبوساً بلا جرم
وفي تاريخ الطبري ( 9/152) أن علي بن الجهم مدح الواثق بعد أن ولي الخلافة ، وهذا يدلّ على صلته بالخلفاء قبل المتوكل ، وعلى معرفته بما يلائم وما لا يلائم من فنون القول وضروب التشبيه .
وفي هذه القصة لفحة شعوبية تريد تصوير العرب أجلافاً لا يعرفون ذوقاً ، ولا يدركون الحسن من السيئ ، ولذا جاء هذا البدوي فشبه الخليفة بالتيس والكلب والدلو _ على سليقته زعموا _ وعنده أن هذه الأشياء خير ما يشبه به.
والتاريخ الأدبي يكذب هذه الفرية ، فالعرب لم تمدح أحداً بتشبيهه بالحمار أو التيس أو الكلب ، وهذا أدبهم بين أيدينا ، إنما شبّهوا بالبحر والقمر والشمس والسماء والجبل وغيرها من المشبهات الحسنة، أما عند الهجاء فلا عجب أن يشبهوا بالكلب أو الدلو أو ما قلّ وحقر في عيونهم.
هذا وقد وصف خليل مردم هذه القصة بأنها خيالية ، وقال : إن أثر الوضع ظاهر عليها (انظر ديوان ابن الجهم ص 117،143) ولكنه لم يبيّن سبب شكّه ، ومع ذلك ثبت البيتين الواردين فيها ضمن الديوان (ص117) واكتفى بقوله : ( والذي نراه - إن صحت نسبة البيتين له - أنه قالهما في أحد مجالس المتوكل يعبث ببعض الندماء أو المضحكين ).
أقول : إذا ثبت فساد القصة - وقد ثبت - فلا يصحّ أن يلحق البيتان بديوان ابن الجهم , لعدم ورودهما في المصادر المتقدمة ، ولو أن مردماً جعلهما في آخر الديوان في ضمن ما ينسب للشاعر مع تحقيق ذلك لكان أولى ، والله أعلم.
- الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد -
ومن وحي ما سبق نورد هذه الحكاية تدل على شدة الذكاء وعلى أن الثقافة كانت فاشية في المجتمع البغدادي في العهد العباسي:
إذ يـُروى أنّ رجلا ًً من طلاب العلم الأذكياء كان قاعدا ً على جسر بغداد يتنزه ، فأقبلت امرأة ٌ بارعة الجمال من جهة الرصافة ( شرق بغداد ) متجهة ً إلى الجانب الغربي ( الكرخ ) ، فاستقبلها شابٌ متجه ٌ نحو الشرق ، فلما صار بجانبها قال : رحم الله علي بن الجهــــــــــم ،
فقالت المراة ُ : رحم الله أبا العلاء المعري ،
وما وقفا ، بل سار كل منهما في وجهته .
قال الرجلُ : فتبعتُ المرأة َ
وقلتُ : والله إن لم تقولي لي ماذا اراد بابن الجهم لأفضحنـَّك ِ ،
فضحكت المرأة ُ وقالت : أراد به قوله :
عيون المها بين الرصافة والجسر=جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردتُ أنا بقولي قول أبي العلاء المعري :
فيا دارها بالخيف ِ إنَّ مزارهــــــا=قريب ٌ ولكنْ دون ذلك أهــــــــوالُ
- هذه قصة جميلة ومعبرة ولكن ربما قد تكون مختلقة منحولة , والله أعلم -