منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 9 من 9
  1. #1

    يسار .. يمين (قصة قصيرة)

    يسار .. يمين

    قصة قصيرة
    بقلم – (محمد فتحي المقداد)*

    لا عليك ..، أغلق أذنيْك، وكأنّك لم تسمع كلامَهُما، يبدو أنهما طُفَيلِيان، يثرثران فقط من أجل الثرثرة، وهي عادة سيئة خاصة في الأماكن العامة، ومزعجة للآخرين، قال ذلك ابراهيم، لمّا رأى احمرار وجهي، وكأن شفق الغروب قرر إقامة مؤقته فيه، ريثما ينجلي هارباً أمام سطوة الظلام.
    ارتباكٌ سيطر على مشاعري المختلطة، فلا طاقة لي ساعتها من التصرف بطريقة سليمة، المقهى يعجّ بزبائنه، و الطاولات كلّها مشغولة، ومن الصعب خاصة بعد العصر خلوّ واحدة، حتى أنها تمددت على مساحة الرصيف رغم مخالفتها لقوانين البلدية.
    قُبالتنا على مسافة أمتار منّا طاولة، يجلس إليها شخصان، أحدهما سمين، ممتلئ الوجه، مندلق الكرش، شارباه يغطيّان شفتيْه، أطرافهما مفتولان إلى الأعلى، كأنه اقتدى بالمطرب طوني حنّا، الذي وضع تأمينٍا على شاربيْه كما أشيع وقتذاك عنه، وكنتُ أعتقدُ أنهما أعظم شاربيْن على مستوى الشرق الأوسط. هذا السمين يقابلني في جلسته، وكان لقاءً عابرًا من خلال الأعين، أزحتُ نظري عنه، لكنه ما زال يركز نظراته الحادّة على ملامحي، بينما صديقه المقابل له، لم أر ملامح وجهه، لأنني لا أرى إلا ظهره، وأعتقد أنه ضئيل الحجم، هزيل الجسم، كأنه مصاب بمجاعة مزمنة كالأفارقة.
    السمين، يتحدث إلى الهزيل:
    - انظر لذاك الشاب، إنه يَساريٌّ.
    الهزيل:
    - كيف عرفتَ ذلك؟.
    السمين:
    - تأكدتُ من أنه يمشط شعره باتجاه اليسار.
    وكان يومئ بإصبعه السبابة مشيراً إليّ، مع غمزة من عينه اليسرى، كي يُحددَ الهزيل في أي اتجاه، وفي أية نقطة ذلك الشاب المقصود.

    ***



    لم أحتمل هذه الغلاظة، وقلة الأدب، فقمتُ من فوري إلى الحمّام، رغبةٌ جارفة بالتبول اجتاحتني، بينما ابراهيم يتأمل ورقة أمامه، لاستكمال قصيدة بدأها منذ أيام، وكانت فرصة لقاءنا؛ للتشاور في بعض ما استشكل عليه من أفكار، قبل خروجي من الحمّام، وقفتُ أمام المرآة المنتصبة فوق المغسلة، تأملتُ وجهي، أخرجت مشطاً صغيرًا من جيبي، وغيّرت اتجاه تسريحة شعري، لأنفّك من تعليق السمين الفَظ، وأُبعِدَ عنّي تهمة اليَسَاريّة، وكان أن اتجهت به هذه المرّة نحو اليمين، وتأكدتُ من استقامة مفرقي بشكل دقيق، ابراهيم لم ينتبه لعودتي ثانية و الجلوس أمامه، سيجارته في فمه، وقد انطفأت حينما وصلت للقطنة، ولم يفطن لها، لكزتُه بطرف كفّه المنبسطة على الطاولة، انتبه:
    - آه.. ها قد عُدتَ، يبدو أنه قد أُغْلِقَ عليّ، ولم أستطع حل المعضلة.
    ما إن اتخذتُ مكاني، حتى خامرني شعور غريب من نظرات ذلك السمين المركزّة عليّ، تسرّب الشكّ إلى نفسي بأنني مُراقب من جهة أمنية ما، انهالت الأفكار على خاطري من كلّ حدبٍ وصوبٍ، عاد الارتباك لي ثانية، خاصة عندما أطلق ضحكته المجنونة التي دوّت في أرجاء الصالة الفسيحة، فاستجلبتْ انتباه الآخرين، وقال لصديقه الهزيل:
    - قبل قليل كان يساريًّا، يا سبحان الله..!!، في غمضة عين صار يمينيًّا، أمثاله قضُوا أعمارهم، وأكلهم الدودُ في السجون، ولم يتحوّل أحدهم عن يساريّته أو يمينيّته، بمثل هذه المفارقة العجيبة.
    لم يصلني ردّ الهزيل، لكنني لاحظتُ بأنه يهزّ رأسه، موافقًا لما سمع من السمين. ابراهيم مستغرقٌ في لُجّة من أفكاره، تَصْدُرُ منه همهمةً غامضة بكلام مغمغم، لم أتبيّن مراده، وكأنه يستشيرني بشيء ما، يا إلهي..!!، أنا في وادٍ آخر، اختلاطات ربما تدفعني لارتكاب حماقة، كبّلتني حبال الخوف المتسرّب إلى قلبي، دوافعه تتجدد باستمرار بحرارة موقف بسيط، ثانية امتلأتْ المثانة، قمتُ كأنني في حالة طوارئ من مرض السُّكريّ، بعد انتهاء مهمتي بإفراغها، عدتُ للمرآة و المشط بيدي، بعد أن بللتُ شعري، و للخروج من الخلاف تهيأ لي بتسريحته للخلف.
    انفجر السمين ثانية بضحكته المجلجلة، بوتيرة أقوى من سابقتها:
    - يا سيدي، صديقنا لم يكتف بأن يكون يساريًّا أو يمينيًّا، فانقلب بسرعة البرق إلى رجعي، عندما أرجع شعره للخلف.
    هزّ الهزيل رأسه، متأكد من تعليقه، لكنني أتشوق لأعرف قوله، يبدو أنه ذو خبرة كبيرة، تفوق ذاك المعتوه السمين، وأنه أرفع منه رتبة في الوظيفة، ساعتها لم يساورني شكّ بأنهما يراقباني بشكل خاص.

    ***


    طار صوابي، وأنا أتلظى بضرامٍ داخلي، وقفتُ، و الغضب يتلوّن بعيني بقتامة المشهد، ابراهيم ما زال جالسًا في مكانه، ظننتُ أنه لا يستطيع الوقوف بسبب مادة لاصقة تشدّه إلى كُرسيّه، وراحَ يُرَدّدُ:
    - أما قلتُ لكَ لا تُلقي له بالًا، وكأنك لم تسمعه، هذه السفاهات مزعجة حقيقة، ولكن ليس بأيدينا إعادة تربيتهم بالشكل اللائق، فلا أرى داعيًا للحِدِيّة وانفعالك بكلام فارغ.
    نوبة ضحك سيطرت عليّ ما إن بلغت الرصيف خارج القهوة، و ابراهيم يثعب على سيجارته، وينفثُ دخانها إلى الأعلى، كأنني به وقد اغتاظ من ضحكي المفاجئ، بعكس حالتي قبل دقائق، وهو يهدّئ من غضبي: آه..!!، ما الذي يُضحككَ هل انقلبتِ الموجة معك إلى مزاج آخر بهذه السرعة؟.
    - عَصْفٌ ذهنيٌّ أعادني لأيام الدراسة الإعدادية و الثانوية، ومادة التربية العسكرية، وكان اسمها الفُتُوّة، وقد فرضوا على جميع الطلاب اللباس الأخضر الموحد، وقبعة على الرأس، لزرع الانضباط فينا، وتدريبنا على أشياء كثيرة، وكانت البداية مضحكة في درس النظام المُنْظّم، وإيعازات المدرب، (يمين دُر)، (يسار دُرْ)، الجميل في ذلك أن كثيراً من الطلاب، ينفذون عكس الإيعاز، فيغتاظ المدرب، ويعود لإصراره على التنفيذ السليم.
    - ابراهيم: ما الرابط بين ما حدث معنا قبل قليل، وبين التدريب.
    - تخيّلت أن هذا السمين الأحمق لو رأى ذلك المدرب، سيقول عن المدرب، مهووس باليمين و اليسار، وربما يُحلق به الخيال؛ لنسج الأساطير عن ذلك المدرب المَرهَق.. و المتأفف من غباء تنفيذ التلاميذ، أو أنه سيكون انتقائيًّا في اختيار تصنيفه ما بين يساريّ ويميني.
    ما إن بلغنا نهاية الجادّة المؤدية إلى شارع رئيسي، حتى وجدتني أدخل صالون حلاقة، وللمرة الأولى أتخذُ قراراً سريعًا، بالخروج من حالة التصنيف العقائدي، وأقص شعري على الماكينة بقياس الصفر، لم أكنْ أتوقع شكلي الجديد، فيتوجّب علي الاعتياد على تقاسيم وجهي بهذا الشكل، وما إن وصلنا، مشارف حارتنا حتى بادرتني التهنئة بالسلامة، بخروجي من السجن.
    ابراهيم أصابته نوبة ضحك هستيرية، لم يستطيع أن يقول لي ما كان يجول في ذهنه، وهو يُردد:
    - كنا في مصيبة، فانتقلنا إلى أعظم منها، قلتُ لكَ: (خلّيك على ملعونك، حتى لا يجيئك ألعن منه)، وهذه نتيجة قرارك الارتجالي، عليك احتمال نتائجه غير المعلومة.
    - صديقي، طار صوابي من التصنيفات، خاصة في وصف اليسار بالتطرّف، واليمين بالعفونة، و الرجعية بالتخلف، تخيّل أن يصل تصنيفي هذا إلى آذان حلف الناتو، أو محكمة العدل الدولية.



    من مجموعتي (رؤوس مدببة)
    عمّان \ الأردن
    22 - 7 - 2016

  2. #2
    تستحق ذلك أن يكون تصنيفك إلى آذان حلف الناتو عقاباً لك , لأنك لو بقيت على يساريتك لكنت صائباً ههههه
    شكرا على هذا السرد الجميل , لك التحية وباقة ورد معها ,

  3. #3
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالب الغول مشاهدة المشاركة
    تستحق ذلك أن يكون تصنيفك إلى آذان حلف الناتو عقاباً لك , لأنك لو بقيت على يساريتك لكنت صائباً ههههه
    شكرا على هذا السرد الجميل , لك التحية وباقة ورد معها ,

    أستاذنا الفاضل غالب
    ألا ترى أننا صرنا نخاف من خيالنا..
    وأصبحت طرق الخوف هي التي نسلكها
    بحذر شديد..
    بتعرف لو أن خبر حكايتي وصل إلى آذان
    حلف الناتو، لأصبحت مشهورًا على مستوى
    العالم. هههههههه .. من خلال اللقاءات معي
    على الفضائيات وتسابقها لعمل لقاء معي..
    تحيايت لك أيها الجميل

  4. #4
    قصة جميلة ترمز للواقع الذي نعيش, بارك الله بك أستاذ مقداد

  5. #5
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زهير أبو حذيفه مشاهدة المشاركة
    قصة جميلة ترمز للواقع الذي نعيش, بارك الله بك أستاذ مقداد
    بوركت أستاذنا الفاضل زهير أبو حذيفة
    كل التقدير و الاحترام لك..
    سعدت بمرورك
    تحياتي

  6. #6
    سعدت بهذا السرد الجميل وهذه القصة الممتعة , بورك بك اخي القاص .

  7. #7
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة آمنه أم وليد مشاهدة المشاركة
    سعدت بهذا السرد الجميل وهذه القصة الممتعة , بورك بك اخي القاص .

    سيدة أم الوليد
    تحياتي لك أيتها الراقية
    دمت بخير

  8. #8
    جميلة وممتعة ومعبرة
    تقديري واحترامي

  9. #9
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رياض محمد سليم حلايقه مشاهدة المشاركة
    جميلة وممتعة ومعبرة
    تقديري واحترامي
    أستاذ رياض
    لك تحياتي وخالص ودي
    وتقديري

المواضيع المتشابهه

  1. الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية - جلين تندر
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-05-2015, 08:06 AM
  2. الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية - جلين تندر
    بواسطة جريح فلسطين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-23-2014, 08:32 AM
  3. الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية - جلين تندر
    بواسطة أسامه الحموي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-18-2014, 05:43 PM
  4. فك الشفرة الوراثية للممثلة الامريكية جلين كلوز..
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان الطبي العام .
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-14-2010, 11:35 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •