الغناء بكاء ....عند منتصف الليل
قصة قصيرة
كل يوم أنا وعبود ، نقتفي أثره ،نطارده ، نرصد كل حركة له..قد يفاجئنا حيوان يبحث عن طعام ، أو طير يفرّ فزعا من عشه حين ندنو منه ، أقدامنا يتكسر تحتهايابس العشب بإيقاع مميز ، الطير يحوم حول أفراخه يمزق سكون الليل بالصراخ ، نحيط النار بأجسادنا ، الشاي رائحته تضوع ، يغني عبود، صوته يلم بقايا الليل من كل مكان ويحشدها في هذا الخلاء، إيقاعنا صينية شاي ، وعلبة من الصفيح .. لا يهدأ لنا روع حتى ينبلج الصباح كل يوم تتكرر هذه الحكاية ،ونحن نبحث عن ذلك الغريب الذي أقتحم علينا حياتنا منذ أن قتلت نعاج غضبان في حادث غامض حتى توالت الأحداث ، فكل يوم نسمع صراخ ، وماشية ممزقة الأشلاء ،تطوعنا أنا وعبود وحدنا لقتل هذا الوحش والبقية نيام ، شغلنا الشاغل أصبح هو ، بنادقنا تعبت وهي تقتحم وحشة الليل صامتة يقتلها الرعب ، لا أحد يعرف سر هذا المجهول القادم ألينا من خلف الحدود حيث يمتد الخوف وامتداد أساطير سومرية ، في تلك الأهوار القصية التي شاخ بها الزمان ، وأصبحت موطن خوف لا متناهي ،مرت بها سنين عجاف: حروب ، جثث لجنود إيرانيين دفنوا هناك ، فقر ، مرض ،جوع وتخلف،
حين جفف صدام الأهوار تحولت سيقان البردي فيها إلى شدوف أشباح واقفة ، لا تهزها ريح هصور ، أصبحت ملاذا للهاربين من جحيم الحياة .
عبود ينظر إلى بصيص نار قد خبت خلف الرماد في موقد أمامه ، نبشها بعصاه ، كنت أصغي إليه ، وكأني أصغي لضابط في الميدان يشرح خطة للهجوم .. قال وهو يفرك أرنبة أنفه : اليوم سنقضي عليه .. ضحكت في داخلي ، وأنا أنصت أليه ، تقضي على من يا عبود...؟! وفجأة أنطلق صوت بدا وكأنه دوي انفجار ، وشيء مر من أمامنا كريح عاصف ، قلب الموقد وتطايرت الجمرات ، وارتمينا على الأرض فزعين .. وبعد أن أفقنا من الصدمة ، ضحكنا ، وارتفعت ضحكاتنا تعانق عنان السماء،
الهاجس باق ،والخوف لم يغادر مكامنه، الصباح يزيل بيادراً من الخوف أطبقت على ا نفاسنا ، نرى طيور الماء تحط بسكون على صفحات الماء، أنا وعبود نضرب الماء بالمجداف، والمركب يسير يتهادى بين قصبات البردي ، نرى من بعيد نساء ، ننظر أليهن جمال بابلي متلفع بالسواد ، يعلو صوت عبود بالغناء يسبح بذلك الفضاء البعيد، تتمايل النغمات ، تصدح .. قلت لعبود الذي أفزعتني نظراته: عبود ، لم لا نرحل .....؟ قال بهدوء بعد أن تنهد : أين نرحل ، وكيف .....؟! لم يكن عندي جواب، ذلك المجهول يحيلنا إلى حكايات، تحكى عند كل مساء ، أسندت رأسي على الوسادة رغم تعب الليل لم يداعب جفوني الكرى ، كيف الخلاص من هذا الكابوس الذي أقض مضاجعنا ،وأفقدنا الأمان ...؟ قمت من مكاني رحت أبحث عن بندقيتي التي أخفتها زوجتي ، بعدما ملت وحدتها طول الليل ، فأقسمت أن لا تدعني أذهب هذه الليلة ، وإلا فبيت أهلها أولى من فراش بلا أنفاس رجل ، ضجت بالبكاء ، توسلت ، ولما لم تجد بداً صرخت : طلقني .....! نباح الكلاب ، ونقيق الضفادع ، يشيع في المكان وحشة ، نزلت إلى المركب ، مسكت البندقية حشوتها ، وأزلت الأمان ، رحت لا أميز مسالك الهور بسهولة أندفع بي المركب ، لأذهب وحدي بلا عبود دعه اليوم ينام سأكتشف سر هذا الوحش وحدي .. المركب يسير دون هدى ، راح الليل يزداد عتمة ، وفجأة أنطلق شيئاً ما صوبت بندقيتي أطلقت رشقات من الرصاص ، دون تعيين ، كل الاتجاهات صارت هدفا لي ، ثم ساد صمت ، وانحسرت كل الأصوات وبدا الفضاء لي أقل أتساعاً لا أريد التوغل في العمق أكثر ، لأنتظر حتى الصباح ، نباح الكلاب أنطلق فجأة ، عبود لن يرضخ للصمت ، لا بد لي من أن أسمعه يغني هكذا دائما كان في حربنا مع أمريكا راح يرد على حمم الموت الملقاة علينا بالغناء ، حين مات أبوه ظل يغني، حين أحب غنى ،وحين فارق حبيبته أنطلق يناجي ليلاه بصوته الشجي ، منذ الطفولة وأحلامنا واحدة ، يقول لي مازحا يجب أن نتزوج توأمين حتى لا نفترق، وما افترقنا كل هذه السنين ، شقشق الفجر بدت الأشكال تتضح جليا ، ياالله ...!كنت أهمس ونفسي بفرح ماأن رأيته طافيا على الماء : لقد قتلته ، لقد قتلته ، لم يكن خنزيرا ولا ضبعا ، لم يكن إنسان ، كان صورة مسخ لكل هؤلاء .... أين عبود ليرى ....؟
وجاء المركب يسير وحده عبود منكفئ على وجه يده تخط في الماء لازال خنجره مضمخ بالدماء ولازالت يده قابضة عليه، الوحش قد ثخن بالجراح العميقة ، وعبود ثقب في رأسه ...
لم أصرخ ، لم أبكي ..
بل ودعته بالغناء
لأن الغناء عندنا.... بكاء