احتلال قديم....... احتلال جديد
سلام مراد
استمرت الحروب الصليبية /200/عام تقريباً؛ لكن الشرق خرج منتصراً، محرراً لأرضه، طارداً للقوى البربرية الغازية: والتاريخ يخبرنا من هم المشاركون في الحروب الصليبية. كان المشارك الكبير في هذه الحروب النورمان، يليهم الفرانك والذين سيعرفون بعد قرون، وبعد تشكل الدولة الفرنسية باسم الفرنسيين. والنورمان: هم شعوب اسكاندنيافيا المعروفون باسم الفايكنغ، قراصنة القتل والنهب، تنصر الفايكنغ بشكل متأخر بالنسبة لأجزاء أوروبا الأخرى، وكان الفايكنغ يشنون الحروب في أنحاء القارة الأوربية عندما كانوا وثنيين وبعد تنصرهم، ولإشغالهم عن أوروبة حملَّهم البابا أوربان الصليب ليغزو بهم الشرق الإسلامي، لأنه كان يريد التخلص من شغبهم وتدميرهم العنيف لأنحاء أوربة فتم توجيههم إلى الشرق، وكانوا وقتها متحمسين للدين الجديد الذي دخلوا فيه، وقتها لم يكن قد مضى على دخولهم المسيحية أكثر من /200/عام.
وحين اتجه هؤلاء المتوحشون إلى الشرق، دمروا في طريقهم أجزاء كبيرة من هنغارية، ثم بلغارية الأرثوذكسية، ثم بيزنطة وعاصمتها القسطنطينية الأرثوذكسية، فزرعوا القتل والحرق والنهب في العالم المسيحي قبل أن يصلوا إلى الشرق الإسلامي.
كان الوضع في الشرق سيئاً، فالمنطقة مقسمة إلى دويلات، والدولة العباسية ضعيفة، والدولة الفاطمية في مصر كانت متداعية، لذلك مر الفرنجة بسهولة وأينما حلوا، خلفوا الدمار والحرائق والجثث.
لكن الشرق استيقظ مجدداً بقيادة نور الدين وصلاح الدين والذين جاؤوا من بعدهم فكانت جولة بعد جولة حتى انتهى المشروع الصليبي مهزوماً تاركاً وراءه آثار هزيمته واندحاره على أيدي أبناء المنطقة.
هذه التجربة التاريخية، جعلت الفرنسيين يفكرون ويخططون كثيراً قبل غزو المنطقة، لأنهم درسوا أسباب تهاوي المشروع الفرنجي في الشام، وكان احتلالهم للجزائر ولكثير من الدول العربية، هذا الاحتلال الذي انتهى مشروعه الاستعماري كالمشاريع السابقة الأخرى.
وبعد الفرنسيين والإنكليز جاء المشروع الصهيوني من رحم الاستعمار الأوروبي الحديث، ودرس الصهاينة أيضاً أسباب انهيار المشاريع الاستعمارية على أسوار المنطقة، وذلك لكي يتحاشوا انهيارهم هم أيضاً على أيدي أهل البلد.
لذلك تساءل اسحق رابين: "إن أكثر ما يخشاه على إسرائيل هو أن تذبل إذا أصابها جفاف الهجرة كما حصل مع الدولة الصليبية قبل ثمانية قرون".
كما يتساءل الصحفي الإسرائيلي يوري أفنيري صاحب جمعية هاعولام هازية، أي هذا العالم: "هل انقراض الدولة الصليبية سيتبعه انقراض الدولة الإسرائيلية".
هذه الأسئلة وغيرها يحاول الإجابة عليها الأستاذ عبد الله سليم عمارة صاحب كتاب حملات الفرنجة و"إسرائيل" تشابه في المسار والمصير والصادر عن وزارة الثقافة سلسلة الكتاب الشهري /75/ آفاق ثقافية مقدسية بمقدمة للأستاذ خيري الذهبي الذي أشرف على هذه السلسلة طوال عام /2009/ بمناسبة دمشق عاصمة الثقافة 2009م.
بين الأستاذ عبد الله عمارة أن إسرائيل تُولي حملات الفرنجة على المشرق العربي اهتماماً زائداً، من خلال البحوث والدراسات التحليلية، من حيث أحداثها، وخاصة العوامل التي أدَّت إلى زوال الكيانات المصطنعة التي زرعتها في بلاد الشام وبخاصة المملكة اللاتينية في القدس، على الرغم من الدعم اللامحدود الذي كانت تتلاقاه من الغرب الأوروبي طوال قرنين من الزمن، لذلك كانت تجربة الغزو الفرنجي هاجساً ظل يؤرق حكام "إسرائيل"ومثقفيها والعسكريين فيها، ومن الذين تناولوا حملات الفرنجة بالدراسة ا لمستفيضة والمعمقة، اسحق رابين، وشيمون بيريز، وبنيامين نتنياهو، والبروفيسور يشوع برافر أحد خبراء تاريخ الصليبيين، وهناك فرق عمل من المفكرين والأكاديميين في الجامعات العبرية تخصصت في دراسة الحروب الصليبية، وجميعهم يتفقون على ضرورة استخلاص الدروس للاستفادة والأخذ بها وتطبيقها، لتجنب المصير نفسه الذي آلت إليه مملكة بيت المقدس اللاتينية، هذه النقطة المهمة وضحها أكثر من مؤرخ وكاتب ومفكر فالدكتور شاكر مصطفى يرى بأن اهتمامات المستشرقين اليهود منحصرة في نقطة وحيدة هي: "كيف تم انهيار مملكة القدس اللاتينية، وطرد الفرنجة المحتلين من البقاع نفسها التي يحتلونها". ويجيب د.شاكر مصطفى عن هذا السؤال بنفسه فيوضح قائلاً: "إن المستشرقين اليهود والصهاينة، يدرسون ويحللون مدى قدسية القدس، في نفوس المسلمين... وردود فعلهم ضد الاحتلال الغريب، ويبحثون عند جذور الترابط في المنطقة من مصر إلى العراق.
وعن أسباب التوحد في حطين... كما أنهم يلاحقون نصوص التراث، الذي نتصور أنه نائم في دمائنا وأدراجنا، فهو لديهم كيان كامل على المشرحة، يستنطقونه ويحكمون علينا من خلاله... واهتموا بالشعراء الذين عاصروا الحروب الصليبية.. كما يدرسون كتب الفقه والفتاوى... وأعطوا اهتماماً خاصاً للسير الشعبية، حيث يرون فيها مناجم المشاعر العميقة للجموع المقاتلة، مثل سيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة، وفتوح الشام للواقدي، وفتوح الشام الأخرى للأزدي، وقصة علي نور الدين المصري مع مريم الزنارية، ويصلون حتى إلى تحليل النكات والنوادر...".
إن هذه الدراسة، تلقي الضوء على نقاط التشابه بين مسيرة الغزو الفرنجي للوطن العربي، والغزو الصهيوني، من حيث الأحداث التاريخية المصاحبة لكل من الغزوتين، مع التركيز على العوامل التي أدت إلى انهيار مملكة بيت المقدس اللاتينية وزوالها، وتبيان المأزق الذي تعيشه "إسرائيل" في ضوء السابقة الصليبية.
فالغزوة الفرنجية والغزوة الصهيونية كأنهما فلقتان أخرجتا من بذرة واحدة، وكلتاهما حركتان استعماريتان استيطانيتان تسربلتا برداء الدين، وارتكزتا على مفهوم الخلاص، وكل منهما كيان غريب، يضم مجموعة بشرية متفاوتة الثقافات والدرجات الحضارية، زرعتا في أرض غريبة اللسان عنهما، إسلامية الثقافة، مشرقية اللمسات... ينطبق عليهم بين المتنبي وهذا التشابه بين المشروع الفرنجي الصليبي والمشروع الصهيوني الإسرائيلي، هو أمر متوقع لأن كليهما جزء من المواجهة المستمرة بين التشكيليتين الحضاريتين السائدتين في الغرب والشرق العربي، وحملات الفرنجة كانت انطلاق أوروبة نحو التوسع والإصرار على بسط سيطرتها على الخارج، ومن نقاط التشابه الأخرى، "المشروعان استعماريان من النوع الاستيطاني الإحلالي، أما المشروع الفرنجي، كان يهدف إلى تكوين جيوب بشرية غربية وممالك فرنجية تدين بالولاء الكامل للعالم الغربي، ولذا لم تأت الجيوش وحسب، وإنما أتى معها العنصر البشري الغربي المسيحي ليحل محل العنصر البشري العربي الإسلامي، وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الصهيوني إلا في بعض التفاصيل.
فالحركة الصهيونية استغلت الأساطير الدينية لتحقيق مآربها العدوانية الاستيطانية في فلسطين، كما اتَّخذ الفرنجة من الدين ستاراً يخفي أهدافهم الاحتلالية الاستيطانية في المشرق العربي وفلسطين بخاصة، فالحركة الصهيونية عملت على كسب تأييد الدول الاستعمارية الأوروبية الطامعة بالسيطرة على الشرق العربي وثرواته وموقعه الاستراتيجي لإحكام السيطرة على طرق التجارة العالمية، كما أنَّ البابا أوربان الثاني نجح في حشد ملوك وأمراء وفرسان أوربة في مؤتمر "كلير مونت" 1095م. ودعاهم إلى التوجه إلى الأرض المقدسة لمحاربة المسلمين، وتخليص بيت المقدس من أيديهم، والكثير من الأمراء والفرسان وتجار المدن الإيطالية، لم يستجيبوا لنداء البابا أوربان الثاني، إلا لأنَّهم رأوا في الاشتراك في الحرب وسيلة لتحقيق مطامعهم التي لا تمت إلى الدين بصلة.
ربط المؤلف الأستاذ عبد الله سليم عمارة مقارنة دائمة بين الكيان الصهيوني والممالك الصليبية في المشرق، فالمشروعان استعماريان استهدفا المنطقة، والمشروعان غير شرعيان، فإسرائيل ولادة غير شرعية، كما الممالك والإمارات الصليبية، وإسرائيل ما زالت تستمد قدرتها على الاستمرار والوجود، بفضل الحاضنة الأمريكية التي تمدها بكل أسباب الحياة.
ورغم امتلاك إسرائيل آلة حربية متطورة، تجعلها الأقوى عسكرياً في المنطقة، إلاأنها غير قابلة للعيش إذا ما أُخرجت من الحاضنة الأمريكية، لأنَّ الوسط الجغرافي والبشري والثقافي والحضاري الذي زُرعت فيه لا تمت له بصلة، فهي غريبة عنه، ولذلك فإن هذا الوسط يلفظها، ويقاوم وجودها باعتبارها عضواً غريباً ونبتاً شيطانياً.
إن إسرائيل تدرك هذه الحقيقة، تدرك أن الأرض ليست أرضها، وإن الثقافة ليست ثقافتها، وإن الحضارة ليست حضارتها، فلذلك ومنذ إعلان قيامها، قلدت ما ارتكبته حملات الفرنجة من مجازر يندى لها الجبين البشري، ولذلك تنتهج سياسة عدوانية، تحاول من خلالها، إرهاب ما حولها فتلجأ، إلى تدمير البشر والحجر والشجر وتمارس إرهاب دولة منظم، لكي تغير ملامح الأرض والسكان، وتقضي على مقاومة الشعب العربي الفلسطيني، من أجل القضاء على المناعة الداخلية، عسى أن يتم قبولها في هذا الوسط الذي ستبقى غريبة فيه، فهي كيان غريب مصطنع، وهي كالفيروس الذي دخل جسماً فقاومه الجسم لأنه كائن غريب عن هذا الجسم الأصيل.
دام احتلال الفرنجة للمشرق العربي حوالي قرنين من سنة 1095 إلى 1291 ومع هذه المدة الطويلة فشلوا في بقائهم في المستوطنات التي أقاموها، على الرغم من الدعم اللا محدود من أمراء وملوك أوروبة.
إن إسرائيل فرضت نفسها على المنطقة بقوة السلاح وبالدعم الغربي لها، لكن نتساءل إلى متى سيستمر هذا الدعم الغربي،وهي قوية، لأن الإرادة العربية مقهورة، هذه المعادلة ستتغير عاجلاً أم آجلاً، فإذا كان لها جولات سابقة، فهذه الجولات ليست قدراً دائماً، فقانون الحركة والحياة لا يعرف الوقوف والثبات والتاريخ والمعطيات الحياتية تخبرنا، أن أي شيء لا يدوم، فكل شيء قابل للتغيير، والإرادة الضعيفة الآن ستصبح قوية في يوم ما، وقوتها العسكرية والدعم اللا محدود لها، لن يستمرا إلى الأبد، كما قال الشاعر:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
هي الليالي كما شاهدتها دول
من سرّه زمن ساءته أزمان
ونختم كلامنا بقول لأحد خبراء الاستراتيجية الأمريكية: "إن إسرائيل قد تظل متفوقة، ولكن المنطق وقانون المعدلات يوحي بأن إسرائيل الصغيرة المحاطة بكتلة بشرية هائلة من العرب ستفقد في وقت ما تفوقها".
الكتاب: حملات الفرنجة و"إسرائيل" تشابه في المسار والمصير.
الكاتب: عبد الله سليم عمارة.
الناشر: وزارة الثقافة ـ الكتاب الشهري ـ 75 دمشق 2009.