( كلب ) صدقي إسماعيل: سخر حتى من السخرية
الجمل: غازي أبو عقللم يخل عصر من عصور الأدب العربي وغير العربي من كتّاب لم يحملوا تلك العصور على محمل الجِدّ الكافي، ولا ممن كانوا يرون الأمور بعيون نقادة أو ساخرة، ومع أن عصرنا الحديث غير متسامح مع أمثال أولئك النقاد الساخرين، مما ترك جزءاً كبيراً من إنتاجهم في "الظل" إلا أن جزءاً أقل حجماً جرى تداوله فأتاح لمن يهتم بهذا الجنس من الأدب فرصة انتهاب متعة شبه حرام.
عرفت أربعينات هذا القرن وإلى مطلع سبعيناته صوتاً فريداً في هذا المجال جسَّده صدقي إسماعيل في جريدته غير المعروفة كثيراً "الكلب" موضوع هذه المقالة.
ولد صدقي إسماعيل سنة 1924 في انطاكية من أقصى شمال سوريا الغربي، وقبل أن يتم عامه الخامس عشر، اضطر إلى مغادرة مسقط رأسه نازحاً إلى مدن أخرى لأن فرنسا التي انتدبتها عصبة الأمم لحكم سوريا بعد الحرب العالمية الأولى "تبرعت" بمحافظة الإسكندرونة كلها إلى تركيا الكمالية لقاء حصة من أسهم شركة نفط العراق "البريطانية"، هذه المحافظة التي أصبحت قضية سياسية تعرف بقضية اللواء السليب".
أَتَم صدقي إسماعيل دراسته الثانوية في مدن سورية أخرى منها حماه وحلب وحصل على إجازة في الآداب قسم الفلسفة من جامعة دمشق، وعمل مدرساً للفلسفة في ثانوياتها.
كتب صدقي المقالة والقصة والرواية والمسرحية والشعر طبعاً، وجُمعت أعماله ونشرت في دمشق بعد رحيله المبكر، في السادس والعشرين من أيلول سبتمبر من العام 1972. ومع انقضاء ربع قرن على غيابه نتوقف لنلقي نظرة على الجانب الساخر النقاد من إنتاجه، وهو الجزء الذي لا يحظى بما يستحق من التأمل لأسباب "فنية" ذلك أن صدقي أسس "جريدة" شعرية ساخرة أطلق عليها اسم "الكلب" تيمناً بالمدرسة الفلسفية الأغريقية "الكلبية" التي يسميها بعض كتابنا اليوم "السينيكية" "السينيزم" المشتقة من كلمة كونوس Kunos وتعني الكلب. والكلبي بالمعنى الفلسفي القديم – كما هو معروف – هو الذي يتحدى المبادىء السائدة ويعارض جذرياً الأعراف الاجتماعية، ويدَّعي الرغبة بالعيش طبقاً لقواعد الطبيعة.
ومن أشهر هؤلاء ديوجين، أما مفهوم "الكلبية" المعاصر فهو موضوع آخر.
أعتقد أن صدقي إسماعيل أستاذ الفلسفة اختار لجريدته ذلك الأسم "الفلسفي" انطلاقاً من قناعته بأن السخرية هي أكثر جدية مما يظنون.
يجب أن نفهم تسمية "جريدة" بالمعنى المجازي لأنها لم تطبع إلا مرة واحدة طوال سنوات صدروها العشرين، وهي ورقة من أربع صفحات ذات مربعات يكتبها "صاحبها" بخط يده، ويتداولها عدد قليل من أصدقائه، بعضهم يستعيرها ويعيرها، وفرادة هذه الجريدة أن أخبارها وتحقيقاتها وتعليقاتها كانت تصاغ "شعراً" موزوناً فأعطت للشعر نكهة الصحافة وابتكرت للصحافة أسلوباً خاصاً وهذا لا يمنع وجود نصوص شعرية "حقيقية" في الكلب بالمعنى الذي يُريح كل من يحب وضع "تعريف" لما لا يخضع لأي تعريف. أما كيف نحيط بجريدة كانت تعالج بأسلوبها الشعري الخاص أحداث البلاد وشئون العالم فهو أمر بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتأمل.
بدأ صدقي إسماعيل كتابة هذا النوع من "الشعر" الذي ينم عن صحفي أصيل مختبىء تحت مظهر أستاذ الفلسفة منذ نهاية مرحلة دراسته الثانوية ودخوله الجامعة، وبين يدي أوراق بخطه مؤرخة في سنة 1940 و 1941 أيام كان في دمشق يشارك مجموعة من رفاقه نزح معظمهم من "اللواء السليب" منزلاً في "زقاق الصخر" على ما أظن، والجريدة الأولى التي "أصدروها" كانت مكتوبة على دفتر مدرسي اختاروا لها اسم "المنشار".
ومع أن المحررين كانوا من "أهل البيت" إلا أن صدقي كان على ما يبدو "رئيس التحرير" ولما أصبح مُدرساً للفلسفة في دمشق كان مكانه المفضل مقهى حي الجسر الأبيض الواقع على سفح قاسيون، وكانت طاولته تطل على فرع يزيد أحد فروع بردى حيث يقضي أمسيات يدخن "الأركيلة" ويكتب الجريدة التي أسماها مؤقتاً "الجسر" إكراماً للحي.
كانت "الكلب" تصدر ولا تصدر على غير انتظام، فهي "محتجبة" في الوقت نفسه ولكنها غير "متحجبة" وهذا "التناقض أو المفارقة كانت تغري المطلعين عليها وتجذبهم إلى قراءتها والمرات القليلة التي جاء ذكر "الكلب" على صفحات الصحف تكاد تنحصر في ثلاث، أولها التحقيق الذي نشرته مجلة الأسبوع العربي اللبنانية العام 1963 وكتبه زهير مارديني.
ثم نشرت مجلة الثقافة الأسبوعية الدمشقية سلسلة مقالات بين أبريل ومايو 1974 بقلم كاتب هذه السطور أما المرة الثالثة وكانت مفاجأة حيث نشرت الهلال القاهرية مقالة دون توقيع عنوانها "الكلب أطرف مجلة فكاهية عربية" وذلك في جمادي الآخرة 1397 ويونيه حزيران 1977، استعان كاتب تلك المقالة بالعدد الوحيد المطبوع من الكلب يعود تاريخه إلى شهر تموز يوليو 1969، والذي صدرت منه مائة نسخة أراد صدقي ارسالها إلى الجزائر ولست أدري لماذا ولا إلى من، والعدد كله بقلمه باستثناء "ريبورتاج" عن الصيف والسباحة لكاتب هذه السطور.
الجميل في مقالة الهلال رغم بعض الأخطاء التي شابتها، أنها نشرت صورة "زنكوغرافية" لاسم الجريدة المشكل من العظام. وهو تصميم يعود الفضل فيه إلى شقيق صاحب الجريدة الرسام المرحوم نعيم إسماعيل "لصدقي شقيق آخر كان رساماً معروفاً هو أدهم" والمؤسف أن أفراد هذه العائلة الفنانين جميعاً فقدناهم في شبابهم.
تأتي الصحافة السورية المحلية بين الحين والحين على ذكر تلك الجريدة الفريدة في مقالات مقتضبة يكتبها محررون لم يعرفوا صدقي إسماعيل أو لم يطلعوا على تفاصيل تجربته في ميدان الصحافة الساخرة، ويؤدي هؤلاء الشباب دوراً مشكوراً كان ينبغي على رفاق صدقي القيام به، إلا أن "وقارهم" ربما لم يسمح لهم.
أذكر حواراً دار بُعيد رحيل صدقي إسماعيل، دار بيني وبين شاعر من رفاقه حول ظاهرة "الكلب" وكان رأي صديقنا الشاعر أن مثل هذا "الشعر" الساخر لن يكتب له البقاء لأنه "ابن ساعته" وغير جدي، وعندما يتاح نشره تكون مناسبة قوله قد فات موعدها مما يحرمه من التأثير بالقارىء.
الجانب الوحيد – السليم – في هذا الرأي هو الفقرة الأخيرة، لأن تأخير النشر مسيء فعلاً لا لجريدة "الكلب" فقط، ولو اعترف العرب بحرية الصحافة الساخرة لما كنا شاهدنا أكداس الدواوين التي تملأ الرفوف والواجهات – على الأقل – خوفاً من أنياب "الكلب" وأمثالها.
كان صدقي يسخر حتى من السخرية. ذكرت هذه الملاحظة وأنا أقرأ حديثاً للكاتب والمخرج المسرحي اللبناني سامي الخياط عن استحالة الغاء السخرية، والمجتمع الذي يخلو منها هو مجتمع مريض وحزين ومكبوت، وأضاف: أن المسرح السياسي الساخر بالمعنى الحقيقي غير موجود اليوم، وما يقدم من مسرحيات ساخرة لا يخيف السلطة، وانتشار السخرية عشوائياً ووفرة المنابر تعني أن الحريات بخير، والأمر غير دقيق ويحمل أهدافاً للتضليل وإلهاء الناس عن المهم الأساسي المفترض توظيف السخرية للكشف عنه.
ذكرني هذا الرأي بما كان صدقي قد كتبه في عدد يوليو 1969 من "الكلب" عن "مسرح الشوك" وهي ظاهرة أريد لها اقناع الناس بوجود الانتقاد في تلك الزمان، فكتب صدقي تعليقاً في زاوية "المسرح" في الجريدة ساخراً من كاشفاً فجاجتها وسطحيتها:
مسـرح الشوك شوكهُ يضحـك الناس هذا من أغرب الأشياءأصبحوا يشبعونَ إن أكلوا اليوم "هواء" ويسـكرون بماءترى هل إنحسرت موجة "الشعر الساخر" أو الصحافة "الشعرية" بعد صدقي إسماعيل و "احتجاب جريدة الكلب"؟ هذا موضوع آخر يستحق التمحيص.
سمعت قائلاً يقول إن الجريدة ستعود إلى الصدور عندما تنتشر انترنت في فيافي أرض العرب وهي تبحث لنفسها عن موقع على الشبكة سيكون مفتاح الدخول إليه ''HTTPwwwأ¥'' هاو هاو هاو.