السخرية كسمة اسلوبية
السبت ١٤ أيار (مايو) ٢٠١٦، بقلم حسين سرمك حسن
ومن السمات الأسلوبية الأخرى لدى الوردي هو حس الفكاهة والروح الساخرة. قبل الوردي لم يكتب متخصص في العلوم الإنسانية بطريقة تشيع فيها روح الفكاهة والتعليقات الساخرة. قبل الوردي كان أسلوب " العالم " المتخصّص صارما وتعبيراته جدّية وحازمة. كان من غير الممكن أن يتوافر الباحث العلمي على سمة أسلوبية فكهة وثابتة. وأؤكد على صفة " الثابتة ". فلكي يكون تصرف أو انفعال أو طريقة كلام مثلا سمة ينبغي أن يتوفر فيها الثبات. والوردي منذ أول كتيب له (شخصية الفرد العراقي) وحتى آخر مؤلف ضخم وهو الجزء السابع من موسوعته (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) كان يزاوج بين الجد والفكاهة في وقفات محسوبة لا تأتي عفو الخاطر بل بصورة مخطط لها، الأمر الذي يثبت من جديد " قصدية " الوردي التثويرية. وناهيك عن الوقفات المحسوبة فإن إسلوب الخطاب الورديّ بأكمله هو أسلوب فيه لمسة عملية صارخة. ومن نماذج التعبيرات الساخرة للوردي:
(أقدّم بين يدي القاريء العربي بحثا صريحا لا نفاق فيه حول طبيعة الإنسان. وهو بحث كنت قد أعددت بعض فصوله، منذ فترة غير قصيرة، لإلقائه من دار الإذاعة العراقية، فرفضته جلاوزة الإذاعة (1)، لسبب لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم – وعاظ ص 5 " ثم يضع هامشا أسفل الصفحة يقول فيه :
(1)حق على المذيع آنذاك أن ينادي: (هنا بلد الجلاوزة... هنا بغداد).
(قد يلقي الأستاذ محاضرة على طلّابه فيجد بعضهم لا يفهمون ما يقول. إنهم منغمسون في أحلامهم اللذيذة، حيث يلتقون فيها بالحبيبة الحسناء يقبّلونها، وبالعدو يصفعونه ويشتمونه. وحين يسألهم الأستاذ عمّا فهموا من محاضرته، يجيبونه بأنهم فهموا شيئا كثيرا وهم كاذبون. وربما كانوا أثناء المحاضرة يحلمون بضرب الأستاذ بدلا من الإصغاء إليه) (401).
(لنفرض أن الدكتور يملك دارا للإيجار، ثم جاءه رجلان يستأجران داره، أحدهما غنيّ مُترف يدفع أجرا عاليا، والآخر فقير لا يملك غير الدعاء. فهل يؤجر الدكتور داره للفقير ويطرد عنه الغني الكريم ؟ ويمكن أن نقول مثل هذا عن الشاعر القديم، فهو لا يستطيع أن يرفض الجائزة المغرية التي يقدمها السلطان، ويذهب إلى مهرجان شعبي ليس فيه سوى عبارة " أحسنت وأجدت ". نعم، إنه قد يفعل ذلك حين يجد باب السلطان مسدودا في وجهه، وعند ذلك يرفع عقيرته قائلا بإن الله يحب المساكين! ولو أن السلطان كان قد فتح بابه له وأغدق عليه الجائزة، لنسي الله ونسي المساكين معه وانثال على النعمة الجديدة ينهل منها نهلا) (402).
(يحاول بعض المتحذلقين من رجال الدين إدعاء التجديد فيما يكتبون ويخطبون، وتراهم يحفظون بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة يتلقفونها من المجلات والجرائد المحلية، ثم يكرّرونها في كلامهم إذ يحسبون أنهم بهذا قد صاروا " مجدّدين ". ويحلوا لبعضهم أن يُقال عنه إنه جمع بين القديم والحديث، ثم يرفع أنفه مغرورا بهذا العلم العجيب الذي وعاه في صدره. ومثله في هذا كمثل ذلك القروي الساذج الذي أراد أن " يتمدن "، في كلامه، فضيّع المشيتين مع الأسف الشديد" (403).
(فالإنسان، قبل كل شيء، يريد أن يعيش حتى لو مات الناس كلهم دونه. إنه يقول في سرّه: (إذا متّ عطشانا فلا نزل القطر). ولكنه يتظاهر أحيانا بعكس هذا تفاخرا ورياء. وطالما وجدنا المترفين والمغرورين يدّعون التضحية في سبيل المصلحة العامة. وهذا كذب منهم واختلاق. فهم لو كانوا فقراء كادحين قد أحاط بهم أطفالهم يتباكون من الجوع لأدركوا عند ذلك مبلغ بعدهم عن الحقيقة. تروي الأساطير الدينية أن امرأة كانت تحمل طفلها عندما جاءها الطوفان في أيام نوح عليه السلام. وقد حاولت هي أول الأمر أن تحمي طفلها من الغرق فرفعته فوق رأسها، حتى إذا وصل الماء إلى أنفها، وضعت طفلها تحت قدميها وارتفعت عليه، هذه هي طبيعة الإنسان في كل زمان ومكان) (404).
((كان في العهد البائد شخص يعد من الأساتذة الكبار. وكانت الدولة كلها مُعجبة بعبقريته، توكل إليه المهام الجسام. فمحطة الإذاعة تكاد تذوب هياما به وتقديرا لأحاديثه الرائعة، ووزارة المعارف الجليلة " تموت " عليه. أما جو الكليات والمعاهد العالية فقد ساده الهدوء إصغاء لما يخرج من بطن الأستاذ من أفكار جديدة. وقد أتيح لي أن أدرس هذا الرجل الجبّار فلم أجد فيه من مزية سوى أنه اعتاد أن يخرج الكلام من أنفه، وقد كان له لحسن الحظ أنف كبير) (405).
لقد اخترت هذه النماذج وفق لعبة افتح فيها أي كتاب من كتب الوردي بطريقة عشوائية، لأن المسحة الطاغية على مؤلفات الوردي كلّها هي السخرية التي تصل – وبفعل مرارات الواقع العراقي الماحقة – إلى حدود السخرية السوداء الجارحة:
(قال النبي محمد: " كاد الفقر أن يكون كفرا ". ومن الواضح أن مفهوم الكفر في حديث النبي لا يختلف اختلافا جوهريا عن مفهوم الجريمة في عُرف علم الاجتماع الحديث. فكلاهما خروج عن المألوف على وجه من الوجوه، فالفقير الذي يموت جوعا لا نتوقع منه أن يترنّم بقصائد أبي العتاهية في مدح الزهد، أو ينشد نشيد الوطن الذي يقول:
( إلى الحرب إلى الحرب هلمّوا يا بني العرب ).
حدّثني أبي عن صديق له، وكان نجّارا، أن يوما من أيام الكساد مرّ عليه فتركه لا يملك ما يشتري به خبزا لزوجته وأطفاله. فهو قد ظلّ جالسا في حانوته حتى وقت متأخر منتظرا أن يأتيه شيء من الرزق حينذاك. فطال انتظاره إلى أن ملّ. وهو كان يكره أن يذهب إلى البيت إذ كانت له طفلة صغيرة اعتادت أن تنتظره في رأس الزقاق قبيل موعد الأكل من كل يوم لتستبشر بما يأتي به من طعام. يقول الراوي: فذهب النجار إلى بيته على كل حال وهو لا يحمل لأهله شيئا من الطعام، فاجتمع حوله أطفاله يسألونه ويعولون، فالتفت عند ذلك نحو السماء صارخا: ربّي.. حتى " حرملة " لم يفعل مثل فعلتك – والمقصود بحرملة، الشمر الذي قتل رضيع الحسين الذي كان يتلظى عطشاً ) (406)
منقول عن ديوان العرب