مصالحة المصالح00
سوسن البرغوتي::
ليس بخافٍ على أحد، أن المناخات والأجواء العربية غير مستقرة، وأن مؤشر المقاومة والممانعة في هبوط وتراجع، مع صعود مؤشر مزايدات "الحلفاء"، بعد توقع سقوط أنظمة عربية عديدة، وأن ما يُسمى "المفاوضات" مع سلطة أوسلو، وصلت إلى نهايتها الفاشلة، وكل وعود الإدارة الأمريكية، حول تجميد "الاستيطان"، ما هي إلا لتبرير استمرار المفاوضات، من أجل لا شيء، سوى بقاء حال السلطة على ما هو عليه، معلقة بين هوى "السلام"، واحتمال الانهيار في أي لحظة.
من جهة أخرى، فإن حصار القطاع، وضبابية مشهد المستقبل العربي، وتقرّب الغرب لحماس، مع ازدياد الضغوط العربية عليها، أدى إلى مصالحة دون مصارحة الشعب بمحتوى الاتفاق، وخاصة حول القضايا المختلف عليها جوهرياً، وأهمها: اتفاقية أوسلو وتوابعها، المقاومة، المنظمة على واقعها المختطف بقرار رئيسها، وسطو عباس عليها، كوريث "تمثيل كل الشعب الفلسطيني". وعاد عباس رئيس كل الفلسطينيين، وولايته تم تجديدها، بحكم تقاطع المصالح.
لكن الاتفاق الذي أطل علينا، على حين غرّة، منهياً حالة افتراق برنامجين مختلفين، لم يحدد إذا كانت السلطة غادرت مربع التسوية، أو أن حماس انضمت إليها. ونص الاتفاق، لا يخرج عن إطار إعادة ترتيب أوضاع الضفة وغزة المحتلتين رسمياً، بمعنى أنه ليس شاملاً، إلا بذكر بند متعلق بانتخاب المجلس الوطني، ولم يذكر على أي مرجعية، وما هي القاعدة التي ستنطلق منها جميع الفصائل، المنضوية، وغير المنضوية تحت عباءة المنظمة.
ثمة تنويهات إلى رسم إستراتيجية جديدة فلسطينية، وقد يكون أحد بنودها، استبعاد اتفاقية أوسلو، مع التمسك بالسلطة المحلية، واستبدالها بوثيقة الوفاق الوطني، مما يعني ضمناً، أن الأمور لن تبتعد عن إيجاد حلول تسوية مع الكيان الغاصب كدولة، واحترام حماس للاتفاقيات الموقعة مع المنظمة، كما طالبت الإدارة الأمريكية مؤخراً، وما قبلت به حماس سابقاً، وبغياب بند خاص بالمقاومة المسلحة، ولا نعلم، هل سيتم قصرها على حدود الـ67، أم أنها ستُستبدل هي الأخرى بالمقاومة السلمية، والاكتفاء بالتظاهرات الوردية، على طريق دولة فلسطينية مسالمة، منزوعة السلاح، ولا تفسير آخر لها!.
يبدو أن ملف حق العودة، أيضا حُسم أمره، واُعتمد قرار 194 كمرجعية، لعودة المهجرين قسراً إلى وطنهم المحتل، يتعايشون مع الأمر الواقع، ويقرون بوجود الكيان الصهيوني على الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية، فهل بعد ذلك يتطلب من حماس إعلاناً رسمياً بالاعتراف بـ "إسرائيل" كما أكدت الإدارة الأمريكية، على ضرورته؟!.
القدس (الشرقية) قابلة للتفاوض، واعتبارها مدينة لكل الديانات السماوية وحتى الوضعية، فما الخطأ في ذلك، وما الفرق بين من يعبد المال ومن يعبد النار ويقدس قتل (الأغيار)، ومن يعبد الله، له دينه ولهم دين!.
على أي حال، لنبقى في مسار المصالحة، بعد أن عفا الله عما سبق، فلا جنرالات الأمريكان تدرب الأجهزة الأمنية، ولا المقاومون في الضفة اُعتقلوا ومنهم من اغتيل أو سُلم للعدو، ولا المساجد اُقتحمت ولا الجمعيات الخيرية أُغلقت وسببت أذى لأسر الشهداء والأسرى، والتنسيق الأمني صار من التاريخ الغابر، والحواجز والجدار حماية لحدود الدولة الموعودة!..
الشراكة السياسية، عادت بروح تقديم تنازلات من الطرفين، مع أن الرابح في معادلة "الحب الإجباري" هو تحسين صورة عباس وسلطته، فالرجل ورهطه أبرياء من بيع 80% من أرض فلسطين، ومن كل ما نُسب لهم من مشاركتهم في حصار القطاع، وكل ما تم كشفه سابقاً، كان مجرد كابوس، والآن استفاقوا على واقع الضغوطات من كل حدب وصوب، وعادوا لزرع الأمل ببناء دولة عصرية متطورة اقتصادياً، معتمدة على المنح الأوربية وغيرها من التسولات النفطية العربية. إضافة إلى أن الوفاق يراهن على الغرب هذه المرة، كون الإدارة الأمريكية أخلّت بالتزاماتها حيال ما يُسمى عملية السلام، والكثير من الدراسات تتدفق منذ فترة من الضفة وغزة بوجوب إدخال الاتحاد الأوربي في العملية السياسية، وبداية التعاون قد يجد طريقه في صفقة إطلاق سراح الأسرى في سجون (الجار) الظالم وغير العادل، وكذلك في رفع الحصار عن القطاع.
ثمة أمر آخر استدعى ضرورة الخروج من الجمود والحراك (الإيجابي)، وهو الخوف من وصول موجة الثورة ضد أنظمة عربية إلى فلسطين المحتلة، فتسقط حكومة غزة وسلطة رام الله، وسداً للذرائع وتلبية لطلبات الجمهور، أخيراً، انتهى الانقسام، وعادت المياه إلى مجاريها، لمنح فرصة للتهدئة على الساحة الفلسطينية وسط محيط هائج، وربما التلويح بحراك شعبي سلمي ضد (الدولة) الصهيونية الظالمة والمستبدة والعنصرية.
هذا ليس كل شيء، فالمصالح تمتد أذرعها إلى إبراز أهمية مصر الجديدة الثورية، وإعادة دورها القيادي للأمة، مع أن واقع الحال ما زال النظام السائد، هو نظام مبارك، ومن ضمنه المجلس الأعلى العسكري، الذي يحاول تحسين صورته بالاتفاق الفلسطيني- الفلسطيني، بحضوره حفل الاتفاق، والأوضاع الداخلية، ما زالت تراوح بين الثورة المضادة، والمطالب الشعبية الثورية مصرة على هدم نظام التطبيع.
إلا إنه وفي الوقت نفسه، استطاعت حماس أن تنتهز فرصة ميل الحكومة المؤقتة بمصر إلى رفع الحصار مقابل المصالحة، وهذا واضح من خلال تصريحات العربي، بأن الحصار سيُرفع بعد أيام، أي بالتحديد بعد التوقيع، ولكن بشكل عام، هذه النقطة تُحسب لصالح الشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع، ولموقع حماس كشريك في سلطة بيد الاحتلال حلها، وبيده إطالة عمرها، وبالحالين حماس حاضرة بالمشهد السياسي.
عباس بدوره قايض المصالحة للضغط على "إسرائيل" وحليفتها الإستراتيجية، ولم يعد المزيد مما يخسره، فالاتفاق مقامرة، مرة تخيب وربما هذه المرة تصيب، خاصة أن ملف دولته في سبتمبر وُجه بفيتو مسبقاً، ولا حل لديه إلا الضغط على قيادات الكيان الصهيوني بداعم غربي، فإما استحقاق سبتمبر وإما حماس، والتلاقي معها تحت سقف أوسلو.
احتمالات كثيرة مشرعة، منها الإيجابي ومنها المرئي السلبي، ويقال أن زواج المصالح، سرعان ما يفشل بزوال الأسباب، والمشهد يصف نفسه بتعادل الكفتين حتى إشعار آخر. فالقواسم المشتركة، بدولة الـ67 (المسالمة)، ويبدو أن زيارة حاكم قطر لواشنطن وجدت أذناً صاغية لحماس، لإنهاء الاحتلال في غزة والضفة، والقضاء على الكيان الصهيوني، لم يعد مطروحاً.
إلا أن تلويح بيريز بأن الاتفاق (خطأ قاتل سيحول دون إقامة دولة فلسطينية وسيخرب فرص "السلام" والاستقرار في المنطقة) وأنه خط أحمر، كفيل بإنهاء العقد سريعاً، لتعود السلطة منصاعة إلى المفاوضات بإغراءات وامتيازات، أو بتهديد مباشر بحلها.
أما حماس فستفقد الكثير من داعميها ومصداقيتها، على الأقل على الصعيد الشعبي العربي، وإن كسبت الرأي الغربي، إلا أنه ليس رئيساً، وليس صاحب الحق أولاً وأخيراً، ومعروف بقبوله الشعبي والرسمي لـ (دولة إسرائيل)...
حماس جَنت على منجزاتها بالتلاقي على خط سياسي خاطئ ومدمر للقضية الفلسطينية، والرهانات الجديدة، ستورطها بمستنقع التسوية، وستزداد الهوّة بين الشعب والسلطة الطبعة الثانية، المقبولة أوربياً.
لا شيء سيتغير، إلا بولادة برنامج، لا هو مقاوم ولا هو مساوم أرعن، والخلط بين البرنامجين، سيسفر عن المزيد من تعميق الشرخ الوطني، فإن كان الاحتقان ظاهراً لدى الشعب، فإنه يتراكم لرفض القطبين وهجرهما، وللأسف وضعهما بسلة واحدة، والطرفان يتصيدان خطأ الآخر لإثبات صحة مسلكه.
قد اُتهم أني أغرد خارج السرب، ولكن إن لم يكن التلاقي على أسس وقاعدة التحرير، ستصبح بنادق المقاومة منبوذة إلى حين، فما أفسدته أوسلو لن تصلحه الشراكة المؤقتة، ومعنى ذلك أن آفة اخترقت صفوف المقاومة، وحماس تبلع الطعم، رغم بعض المكتسبات وإعادتها إلى مربع الانتخابات التشريعية الأخيرة مرة أخرى، وكأن شيئا لم يكن.
وقد قيل في موسوعة الحكمة: من علمك هذا، والجواب: رأس الذئب "الأوسلوي" المطاح، ولدغ العقارب مرات ومرات!...
يبقى أن نسأل ونتساءل، ما دور أهل المهاجر والملاجئ وفلسطينيي الداخل المحتل عام 1948؟، هل في ممارسة "حق" الانتخاب والتصفيق الحار ومباركة الإستراتيجية الجديدة، على أساس أنها تمثل كل الشعب الفلسطيني، وعلى الجميع الالتزام بها؟.
حسناً، ليفعلوا ما يشاؤوا بحدود الأحزاب والحركات، وإدارة شؤون الوطن المحتل، أما على مستوى القضية، فهذا الفصل ما قبل الأخير من تصفية القضية الفلسطينية، ودق جرس الإنذار تنبيه لأولي الألباب، أما من أفقدته بصيرته وبوصلته مقولة "السلام العادل"، مع واقع احتلال إلغائي إحلالي، ومشروع استعماري لم يعد خافياً على أحد، فقد رُفع عنه القلم.