يُعرف ديكارت على أنه «أبو الفلسفة الحديثة»، وذلك لأن البرنامج الفلسفي الذي وضعه لنفسه والمنهج الذي اتبعه في تحقيق هذا البرنامج قد شكل قطيعة مع فلسفات العصور الوسطى، وأحدث تأثيراً بالغاً في الفلاسفة المحدثين اللاحقين. والغريب أن ديكارت فى عمله الفلسفي الأساسي وهو «تأملات في الفلسفة الأولى» لا يبدو منه أن هدفه فلسفي تماماً، ذلك لأن العنوان الفرعي للكتاب هو «وفيه تتم البرهنة على وجود الله والتمييز بين العقل والجسد». هذا العنوان الفرعي لا يجعل من كتاب التأملات كتاباً فلسفياً بل كتاباً لاهوتياً يثبت صحة الإيمان والعقيدة، الإيمان بإله واحد وبعقيدة البعث والخلود بما أنه يثبت إمكان انفصال الروح عن الجسم وبقائها بدونه. بهذا الشكل يكون كتاب «التأملات» تبريراً للإيمان عن طريق العقل، وبذلك لن يكون مختلفاً عن أي من فلسفات العصور الوسطى التي اتبعت نفس الطريق، بل سيكون مشابهاً لأعمال علماء الكلام المسلمين في الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية. والأكثر من ذلك أن ديكارت يهدي كتاب «التأملات» هذا لمدرسة اللاهوت بجامعة السربون. لكن يجب على المرء أن يستوعب جيداً دوافع ديكارت في فلسفته وفي إهدائه الكتاب إلى علماء اللاهوت. لقد كان هدف ديكارت الأساسي الوصول بالعقل إلى الاستقلال في الأمور الميتافيزيقية، وهذا الاستقلال خليق بأن يجعل العقل والتفكير العقلاني مستقلاً عن سلطة الكنيسة. كانت الكنيسة في ذلك الوقت لا تزال تحتكر الإيمان والموضوعات الميتافيزيقية، ومن ثم أراد ديكارت أن يثبت إمكان توصل العقل انطلاقاً من مبادئه الخاصة إلى الإيمان والعقيدة دون الاعتماد على سلطة مسبقة من كتب مقدسة أو رجال دين. وهذا الهدف كان كفيلاً بأن يثير ضده ثورة رجال الدين، ومن ثم كي يحمي ديكارت نفسه أهدى كتابه لهؤلاء أنفسهم منعاً لاحتمال مقابلتهم لكتابه بالرفض.
لم يكن ديكارت يرفض وجود الله أو خلود النفس، بل على العكس، إذ أثبتهما بمنهجه العقلى في «التأملات». وما كان يرفضه ضمناً هو إمكان الوصول إليهما بطرق أخرى غير العقل والبرهان. فحسب منهج ديكارت، فإن أحد أهم قواعده تنص على أنه لن يسلم بأي شئ ما لم يكن واضحاً متميزاً ويتمتع بصحة عقلية عن طريقة البرهان العقلي. ومعنى هذا أن ديكارت يعتقد ضمناً أن سلطة الكتاب المقدس لا تكفي لتقبل الإيمان والعقيدة، إذ هما في حاجة إلى برهان عقلي، وبالتالي تكون الفلسفة أعلى وأهم في إثباتهما. ومن أجل هذا المضمون الثورى لفلسفة ديكارت فقد حرص على إهداء «التأملات» إلى رجال الدين تقرباً منهم واتقاءً لاحتمال معارضته ومواجهة فلسفته.
وعلى الرغم من أن ديكارت يهدف في «التأملات» إلى إثبات وجود الله وخلود النفس، إلا أن ذلك لم يشكل كل أهدافه، إذ كانت أوسع من ذلك بكثير. اعتقد ديكارت منذ تأليفه لكتاب «مقال عن المنهج» أن المعرفة الحقة لا يمكن تأسيسها إلا بالأفكار الواضحة المتمايزة، ولا يمكن الوصول إلى الوضوح والتمايز إلا إذا تخلى المفكر عن كل الأفكار المسبقة، ذلك لأن كل ما يرثه الإنسان من أفكار عن طريق أسلافه أو محيطه الاجتماعي
لا يتوافر فيه الوضوح والتمايز، بل غالباً ما يكون غامضاً بسبب عدم خضوعه لمحاكمة العقل. ولذلك يبدأ ديكارت تأسيسه للمعرفة الحقة بشك منهجي يستطيع به فحص الأفكار المسبقة والوقوف على بداية أولى واضحة بذاتها ويقينية عقلياً تكون ثابتة للمعرفة. وهكذا يمارس ديكارت في التأمل الأول شكاً منهجياً، وهو منهجي لأنه لا ينتمي إلى رفض كل المعارف أو التوصل إلى استحالة وجود أساس ثابت لليقين بل إلى التوصل إلى يقين أول يؤسس عليه الصدق في المعرفة. والملاحظ أن اليقين الأول الذي يتوصل إليه ديكارت بعد الشك هو وجود الذات المفكرة
أو الأنا أفكر، وذلك انطلاقاً من الشك نفسه. إذ يذهب إلى أنه ما دام يشك فهو يفكر، وطالما يفكر فهو موجود: «أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود». فعلى الرغم من أن هدف كتاب «التأملات» هو إثبات وجود الله وخلود النفس، إلا أن الهدف الحقيقي لديكارت الوصول إلى يقين أول يسبقهما معاً، وهذا اليقين هو إثبات وجود الذات أو الأنا أفكر، وعن طريقها يتم إثبات وجود الله، من منطلق أن هذا الأنا أفكر لم يكن موجوداً دائماً، وبالتالى فهناك سبب لوجوده، وسبب الوجود يتمثل في الخلق من العدم، وهكذا فإن وجود الأنا حادث ومخلوق وفي حاجة إلى خالق وهو الإله. كما أن في الفكر الإنساني فكرة واضحة متمايزة عن الكمال، وبما أن الإنسان ليس كاملاً فلا يمكن أن يكون هو مصدر فكرة الكمال، وبالتالي يجب أن يكون هناك كائن كامل هو مصدر هذه الفكرة لدى الإنسان وهو الإله. وهكذا يتوصل ديكارت إلى إثبات وجود الله عن طريق وجود الأنا. وهذا هو الجانب الثورى في فلسفة ديكارت، إذ يجعل الأنا هي الأساس والنقطة الأولى التي يبدأ بها لإثبات وجود الله. ومعنى هذا أن وجود الأنا هو اليقين الأول الذي يتمتع بأقصى درجات الصدق والمعقولية، ثم يكون وجود الله تالياً وتابعاً له. وهنا اختلفت فلسفة ديكارت عن فلسفات العصور الوسطى التي كانت تبدأ من وجود العالم منطلقة منه إلى إثبات وجود خالق لهذا العالم، وهو ما يسمى بالدليل الكوزمولوجي. لكن شك ديكارت في وجود العالم ولم يعتقد في إمكان إثبات وجود الله عن طريقه لأن وجود العالم لا يتمتع باليقين والوضوح الذي تتمتع به الأنا أفكر أو الكوجيتو. وعندما وضع ديكارت وجود الأنا باعتباره اليقين الأول الذي يؤسس عليه وجود الإله ذاته كان محدثاً لثورة في الفكر الأوربي، إذ كان بذلك مفتتحاً لعصر يعطى الأولوية للإنسان وللذات الإنسانية ويعلي من شأن الفردية، تلك الأفكار التي لم يكن لها حضور في لاهوت العصور الوسطى والتي غابت فيها الذاتية الإنسانية في أنساق لاهوتية.
حياته وأعماله:
ولد رينيه ديكارت في 31 مارس سنة 1596 في مدينة لاهي بفرنسا، لكن أسرته كانت ترجع في أصلها إلى هولندا. ينتمي ديكارت إلى أسرة من صغار النبلاء، حيث عمل أبوه مستشاراً في برلمان إقليم بريتانيا الفرنسي. وكان جده لأبيه طبيباً، وجده لأمه حاكماً لإقليم بواتيه. وفي سنة 1604 التحق ديكارت بمدرسة لافلشي ، وهي تنتمي إلى طائفة دينية تسمى باليسوعية، وقد تلقى ديكارت فيها تعليماً فلسفياً راقياً يعد من أرقى الأنواع في أوربا وبدأ فيها ديكارت في تعلم الأدب، ثم الفلسفة وأخيراً الرياضيات والفيزياء. وتخرج ديكارت من الكلية سنة 1612 حاملاً شهادة الليسانس في القانون الديني والمدني من جامعة بواتيه سنة 1616.
وعلى عادة النبلاء في ذلك العصر، نصحه أبوه بالالتحاق بالجيش الهولندي، إذ كان هذا الجيش أفضل جيوش أوروبا نظاماً وخبرة، وكان يشكل مدرسة حربية لكل من أراد أن يتعلم فن الحرب. وبالفعل رحل ديكارت إلى هولندا سنة 1618 وتعرف هناك على طبيب هولندي يدعى اسحق بيكمان، وكان متبحراً في العلوم، وشجعه على دراسة الفيزياء والرياضيات وعلى الربط بينهما، وكانا يمارسان معاً طريقة جديدة في البحث تطبق الرياضيات على الميتافيزيقا، وترد الميتافيزيقا إلى الرياضيات، وقد كان لهذه الطريقة أبلغ الأثر في تطور ديكارت الفكري وفي تشكيل فلسفته، إذ أن منهجه ومذهبه الفلسفي لن يختلف كثيراً عن طريقة البحث هذه.
غادر ديكارت هولندا سنة 1619 وذهب إلى ألمانيا، وهناك اكتشف الهندسة التحليلية التي اشتهر بها ووضع يده على قواعد منهجه الفلسفي. وفي سنة 1620 بدأ في السفر متنقلاً بين العديد من المدن الأوربية لمدة تسع سنين، وفيها باع أملاكه التي ورثها عن أمه، وعرض عليه أبوه أن يشتري له وظيفة حاكم عسكري فرفض ديكارت وآثر أن يعيش حياة العزلة. وفي سنة 1628 غادر فرنسا إلى هولندا حيث قضى فيها فترة كبيرة من حياته. والذي جعله يفضل هولندا أنها كانت آنذاك من أقوى وأغنى الدول الأوروبية وأكثرها ازدهاراً في العلوم والفنون. وفي سنة 1629 بدأ ديكارت في كتابة رسالته «العالم » وفيها يبحث في الطبيعة على أساس النتائج التي توصل إليها كوبرنيقوس وكبلر وجاليليو في النظام الشمسى ودوران الأرض حول الشمس، لكن حدث أن أدانت محكمة التفتيش في روما العالم الإيطالي جاليليو سنة 1633، خوفاً من أن تؤدي آراء جاليليو الجديدة إلى سقوط الاعتقاد القديم بأن الأرض ثابتة في الكون والنجوم والكواكب تدور حولها وعندئذ خشى ديكارت أن يكون مصيره نفس مصير جاليليو، فلم يكمل الرسالة وكاد أن يحرق أوراقها وعزم على
ألا يكتب أي شئ على الإطلاق.
لكن سرعان ما أدرك ديكارت أنه لا يمكن أن يتوقف عن الكتابة نهائياً وهو الفيلسوف الذي بدأ صيته ينتشر وعندما أحس أن الناس يتشوقون لمعرفة فلسفته عكف على الكتابة مرة أخرى، وأخرج ثلاث رسائل تدور كلها حول الموضوعات الرياضية والطبيعية وهي عن انكسار الأشعة والأنواء الجوية والهندسة، وقدم لها بمقال صغير وهو «المقال عن المنهج» سنة 1636 وبلغ حد خوف ديكارت أن طبع الكتاب دون أن يكتب اسمه على الغلاف. وقرر ديكارت أن يضع مذهباً للفلسفة ويطبقه على الميتافيزيقا فأخرج سنة 1641 كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» الذي أهداه إلى الأميرة إليزابيث البلاتينية التي راسلها كثيراً وأخذ يشرح لها فلسفته ويناقشها في أمور الأخلاق والسياسة. وعندما ذاعت شهرته وضع له ملك فرنسا راتباً سنوياً يقدر بثلاثة آلاف جنيه سنة 1647 لكنه لم يتلق منه شيئاً إذ آثر حياة العزلة. وفي سنة 1648تعرف على ملكة السويد التي ناقشته طويلاً في فلسفته عبر سلسلة من الرسائل، وأصرت على دعوته للسويد ليكون عوناً لها في إدارة الحكم وشئون البلاد كمستشار، وعندما قبل الدعوة سافر إلى استوكهلم عاصمة السويد سنة 1649. وكانت الملكة تتردد عليه طويلاً لمناقشته في فلسفته، لكن الطقس البارد للسويد لم يكن مناسباً لصحته، فأصيب بالتهاب رئوي، فرفض نصائح الأطباء وآثر أن يعالج نفسه بنفسه، وعندما اشتد عليه المرض توفى في 11 فبراير سنة 1650.
أولاً - قواعد المنهج الديكارتي:
إن دارس فلسفة ديكارت ليندهش عندما يعلم أن تخصص ديكارت الأساسي لم يكن الفلسفة بل الرياضيات والجبر والبصريات. فالمطلع على مجمل أعماله يلاحظ أنها تشكل عدة مجلدات تعد ست مجلدات من القطع الكبير في بعض الطبعات، تنصب أساساً على الموضوعات الرياضية والهندسية ولا تحتل أعماله الفلسفية التي اشتهر بها سوى جزء ضئيل
لا يكاد يصل إلى نصف مجلد. لقد كان ديكارت رياضياً في الأساس، ولم يكن فيلسوفاً إلا في أوقات فراغه من دراساته الرياضية. لكن هذا الجزء الفلسفي الصغير نسبياً من مؤلفاته هو السبب في شهرته كفيلسوف وهو الذي صنع منه مؤسس الفلسفة الحديثة. ومعنى هذا أن الجزء الفلسفي من أعماله يعد ملحقاً على أعماله الرياضية الأساسية، أو هامش فلسفي على متن رياضي هندسي. ويرجع السبب في ذلك إلى أن ديكارت الذي شهد درجة النجاح المذهل الذي حققته الرياضيات في عصره من دقة المنهج ويقين النتائج التام أراد للفلسفة أن تصل إلى نفس الدقة المنهجية واليقين المطلق الذي وصلته الرياضيات في عصره وعلى يديه هو شخصياً. ويتمثل تأثر ديكارت بالمنهج الرياضي في فلسفته في سعيه نحو الوصول إلى نقطة أولى يقينية واضحة بذاتها يؤسس عليها فلسفته كلها، وهي وجود الأنا أفكر. فهذا الأنا أفكر كان بالنسبة له المبدأ الأول الشبيه بمبادئ الرياضيات التي تؤسس لكل المبرهنات الرياضية التالية عليها. كما يسير ديكارت بالطريقة الاستنباطية السائدة في الرياضيات في مذهبه الفلسفي حيث يستنبط وجود الإله والعالم وخلود النفس من وجود الأنا أفكر.
والحقيقة أن محاولة الوصول إلى اليقين في الموضوعات العلمية والفيزيائية سهل يسير باتباع الطريقة الرياضية، لكنه ليس كذلك بالنسبة للموضوعات الميتافيزيقية. فلا يمكن التعامل مباشرة مع موضوعات مثل وجود الإله وخلود النفس بالطريقة الرياضية. وقد كان ديكارت صادقاً في ذلك مع نفسه، إذ أنه لم يبدأ دراسة هذه الموضوعات مباشرة، بل وضعها كلها موضع الشك وتوقف عن الحكم عليها منذ البداية. يقول ديكارت في التأمل الأول: «وإذا لم يكن في مقدوري الوصول إلى معرفة أي حقيقة، فليكن أن أفعل ما هو في مقدوري على الأقل، أي التوقف عن كل حكم، وأتجنب أن أعطي أي مصداقية لأي شئ باطل».
وعندما فكر ديكارت في وضع منهج في الفلسفة أقامه على أساس أسلوب التفكير الرياضي والهندسي. وهذا هو المعنى الحقيقي لقواعد المنهج الأربعة التي وضعها في كتابه «مقال عن المنهج». تنص القاعدة الأولى على «ألا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، و السبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك» وتسمى هذ القاعدة بقاعدة اليقين، لأنها تدخل إلى يقين بديهي بسيط لا يتطرق إليه شك. ويتضح ارتباط هذه القاعدة بالهندسة الرياضية من الأمثال التي يضربها ديكارت عليها، فاليقين عنده هو القول بأن المثلث هو الشكل المكون من ثلاث أضلاع، وأن المساويان لشئ ثالث متساويان ... ولا يهدف ديكارت من هذه القاعدة تأسيس الرياضيات أو الهندسة على أسس يقينية، ذلك لأنهما مؤسسان على اليقين بالفعل، بل يهدف استعارة هذا اليقين الرياضي والهندسي لتطبيقه على موضوعات الفلسفة. وعندما نطبق هذه القاعدة على الفلسفة تبدأ باعتبارها شكاً منهجياً، ذلك لأنها تنص على «ألا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أكن على يقين أنه كذلك»، فنص القاعدة يبدأ بالسلب، أي بألا يقبل شيئاً، وهذا هو الشك الذي هو الخطوة الأولى في المنهج الفلسفي عند ديكارت. ومعنى هذا أن قواعد المنهج عامة وكلية، وعندما تتم مناسبتها كموضوعات الفلسفة لوضع منهج خاص بالفلسفة تنقسم القاعدة الأولى إلى خطوتين، الخطوة الأولى هي الشك في كل شئ شكاً منهجياً للوصول منها إلى يقين أول. فبعد أن يشك ديكارت في وجود العالم، ينطلق من هذا الشك نفسه ليتوصل إلى أول يقين وهو أن الشك يتضمن التفكير، والشخص الذي يفكر يجب أن يكون موجوداً: أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود.
وتنص القاعدة الثانية على «أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي سأختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على ذلك» وتسمى هذه القاعدة بقاعدة التحليل. وتقول القاعدة الثالثة: «أن أُسِّير أفكاري بنظام، بادئاً بأبسط الأمور وأسهلها معرفة، كي أتدرج قليلاً قليلاً حتى أصل إلى معرف أكثرا ترتيباً، بل وأن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها الآخر بالطبع» وتسمى هذه القاعدة الثالثة بقاعدة التركيب. أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي تنص على «أن أجري في كل الأحوال الإحصاءات والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أننى
لم أغفل شيئاً»، وتسمى هذه القاعدة بالاستقراء التام.
نرى بذلك كيف أن قواعد المنهج الأربعة من يقين وتحليل وتركيب ومراجعة أو استقراء هي نفسها طريقة التفكير المتبعة في الرياضيات والهندسة، وهو يحاول تطبيقها على موضوعات الفلسفة لأنه أراد الوصول في الفلسفة إلى نفس درجة الوضوح واليقين الذي وصلت إليه الرياضيات والهندسة. ورغماً عن كل ذلك فإن التساؤل الذي يطرح نفسه الآن هو: هل محاولة ديكارت تطبيق طريقة التفكير الرياضي والهندسي مبررة ومشروعة في الفلسفة؟ وهل يمكن استعارة منهج علم ما لتطبيقه على علم آخر يختلف عنه في المادة والموضوعات والقضايا؟ إن الرياضيات والفلسفة شيئان على طرفي النقيض، فما هو مبرر ديكارت لتطبيقه منهج الرياضيات على الفلسفة؟
الحقيقة أن ديكارت لا يطبق المنهج الرياضي نفسه على الفلسفة بل يطبق طريقة التفكير في الرياضيات، فإذا كان يستعير المنهج الرياضي فهو لاتبع طريقة البدء بالبديهيات والمسلمات والفروض ولانطلق منها إلى مبرهنات ثم قضايا تلزم عنها ضرورةً، ولو كان قد فعل ذلك لرأينا مؤلفاته الفلسفية تأخذ شكل الاستنباط والبرهان الرياضي. لكن لا تظهر طريقة الاستنباط الرياضي في فلسفة ديكارت، وكل ما يستعيره من الرياضيات هو طريقة التفكير المتبعة فيها وحسب. والملاحظ أن طريقة البرهان الرياضي الهندسي والتي لم يتبعها ديكارت قد اتبعها من بعده سبينوزا بجذافيرها كما سوف نرى في الفصل التالي الخاص بفلسفة سبينوزا. وبذلك يكون سبينوزا قد سار خطوة أبعد من ديكارت، ذلك لأن ديكارت اتبع مجرد طريقة التفكير في الرياضيات والتي تتمثل في القواعد الأربعة: اليقين أو الوضوح، والتحليل والتركيب والاستقراء التام، وما رفضه ديكارت وهو تطبيق المنهج الهندسي من تعريفات ومصادرات ثم مبرهنات وقضايا مستنبطة منها قد تبناه سبينوزا نجد بحذافيره كما سوف نرى. وهكذا يكون سبينوزا أكثر جرأة وثورية من ديكارت الذي وقف عند حدود التفكير الرياضي فقط ولم يصل إلى درجة تطبيق المنهج الرياضي الهندسي نفسه في الفلسفة.
ثانياً - الميتافيزيقا:
1 - نظرة عامة على كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى»:
ينقسم كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» إلى ستة تأملات. في التأمل الأول يطبق ديكارت نظرته المنهجية الأولى وهي الشك، ويتناول فيه الأشياء التي يجب أن توضع موضع الشك، ومبرراته لهذا الشك، ويصل إلى الشك في كل شئ. وفي التأمل الثاني يصل إلى أول يقين واضح بذاته يقدم نفسه بعد خطوة الشك وهو وجود الفكر أو العقل الإنساني، ويميزه عن الجسد ويذهب إلى أن معرفته أيسر وأوضح من معرفة الجسد. وبعد أن يثبت ديكارت وجود الفكر ينتقل في التأمل الثالث إلى إثبات وجود الإله. ويقدم ثلاثة براهين على وجوده. وفي التأمل الرابع يميز بين الصدق والكذب
أو الوضوح وعدم الوضوح، وفيه يشرح بمزيد من التفصيل بعض موضوعات التأمل الأول والثاني حول العلاقة بين النفس والجسد وحول الإله. وفي التأمل الخامس يتناول ماهية الأشياء المادية، ويقر بأن ماهيتها الامتداد، وأن ماهية الإله الروح والفكر، وتظهر في هذا التأمل ثنائية ديكارت الشهيرة بين الفكر والامتداد وأنهما جوهرين متمايزين. وفي التأمل السادس يتناول وجود الأشياء المادية ويثبت أنها زائلة، ويميز بين النفس والجسد، ويثبت أن الجسد فاني والنفس خالدة. والحقيقة أن هذه التأملات الستة متداخلة، فالشك المنهجي الذي يتناوله في التأمل الأول يعاود الظهور في كل تأمل تالي، إذ يستخدمه في التمييز بين النفس والجسد والجوهر الفكري والجوهر الممتد، على أساس شكه في كمال الجسد وفي الوجود الحقيقي للأشياء الممتدة. وإثبات وجود الله الذي يظهر في التأمل الثالث يعاود الظهور في التأمل الخامس عندما يشرح ويفسر طبيعة الإله الروحية والفكرية. وثنائياته الشهيرة بين الفكر والامتداد والنفس والجسد تتكرر عبر كل التأملات. ومن ثم نستطيع تناول فلسفة ديكارت في كتاب التأملات بإقامة ترتيب وتنسيق بين كل هذه الموضوعات الجذرية على التأملات الستة، فنبدأ بالخطوة الأولى وهي الشك المنهجي، ثم نتناول تمييزه بين النفس والجسد والفكر والامتداد موضحين بذلك اليقين الأول وهو إثبات وجود الذات المفكرة ثم نتناول كل ما قاله عن الإله وإثبات وجوده وطبيعته.
2 - الشك المنهجي:
وهو منهجي لأن ديكارت لا يستخدمه إلا كوسيلة للوصول إلى يقين أول واضح بذاته، ولا يأخذ الشك موقفاً نهائيا له. يقول ديكارت: «يجب النظر إلى كل ما يمكن أن يوضع موضع الشك على أنه زائف».
ولا يقصد ديكارت بذلك الحكم بزيف كل شئ، أو بزيف كل ما يوضع محل الشك، بل يقصد أنه لن يقبل بأي شئ على أنه حقيقى ما لم يخضع لامتحان الشك، الذي يستطيع به الوصول إلى شئ يقيني عن طريق برهان عقلي. وهو يذهب إلى أننا سوف نتمكن من التأكد من صحة ويقين أشياء كثيرة ومنها العلوم بعد أن نمارس خطوة الشك، وليس ذلك إلا لأننا تمكنا من تأسيسها على أسس من اليقين والوضوح العقلي. ولذلك فهو عندما يضع موضع الشك كل العلوم بما فيها الرياضية والهندسية فليس ذلك
إلا بغرض تأسيسها على أسس يقينية واضحة. والحقيقة أنه يقوم بذلك بالفعل ابتداء من التأمل الرابع، حيث يثبت يقين العلم الطبيعي من منطلق أنه في العقل فكرة واضحة ومتمايزة ويقينية عن الامتداد الذي هو جوهر العالم الطبيعي.
لكن يضع ديكارت أشياءً أخرى كثيرة محل الشك وتسقط في هذا الاختبار وبالتالي يستبعدها تماماً لأنها لم تصل إلى درجة اليقين والوضوح والتمايز الذي يبتغيه. ومن هذه الأشياء كل ما تعلمناه سواء من الحواس
أو من خلالها، أي أنه يرفض كل ما تأتى به الحواس من إدراكات ويرفض الإدراك الحسي نفسه كأداة معرفية وهذا يتضمن كل شئ نعرفه عن العالم الخارجي وكذلك عن أنفسنا باعتبارنا أجساداً. وهو يرفض شهادة الحواس لأنها دائماً ما تخطئ، ودائماً ما تكون الحواس عرضة للأوهام أو الاعتقادات الخاطئة، ويذهب ديكارت في ذلك إلى أنه «من الحكمة ألا نثق في الذى خدعنا ولو لمرة واحدة». فإذا ثبت أن الحواس لم تكن محل ثقة في أحيان فكيف لنا أن نثق بها في كل الأحيان؟ وهناك سبب آخر يقدمه ديكارت لعدم الثقة في الحواس، وهو أنه لو لم نكتشف أننا ننخدع بالحواس ونسلم بهذا فما أدرانا أننا لا نحلم؟ ذلك لأن المرء في الحلم يشاهد أشياء كأنه يراها على الحقيقة في حين أنها ليست كذلك، وبالتالي فمن الممكن أن يكون كل ما نراه ونحس به حلم كبير والحالم غالباً ما لا يعلم أنه يحلم وبالتالي فمن الممكن أن نكون في حلم ونحن لا نعلم ذلك.
ثم يأتي ديكارت بعد ذلك إلى تناول حقائق الحساب والهندسة ويذهب إلى أننا يجب أن ننحيها جانباً على الرغم مما هو فيها من وضوح وتمايز، حتى أنه الحقيقة القائلة أن اثنين زائد ثلاثة تساوي خمسة وأن المربع هو ما له أربع أضلاع ليست محمية من الشك، فمن الممكن أن يكون هناك شيطان ماكر هو الذي أوحى لي بهذه الأشياء وأوهمني أنها حقائق وهي ليست كذلك، وينتهي ديكارت إلى القول بأنه «ليس هناك أي شئ كنت أعتقده في السابق أنه حقيقي لا يمكن أن أضعه موضع الشك.. وذلك بناء على أسباب قوية ومعتبرة». والحقيقة أن ديكارت الذي شك في حقائق الحساب والهندسة في التأمل الأول على أساس افتراض الشيطان الماكر لن يعود إلى إثباتهما إلا في التأمل الرابع عندما يثبت أن الإله الرحيم العادل لن يتركه يخضع لسلطة هذا الشيطان ولن يجعله ينخدع ويثق في أشياء باطلة وذلك بعد أن يثبت وجود الإله في التأمل الثالث.
3 - اليقين الأول - إثبات وجود الذات:
وهذا هو موضوع التأمل الثاني، وفيه يبدأ ديكارت من النقطة التي انتهى عندها في التأمل الأول، قائلاً: «سأستمر بتنحية كل ما فيه قليل من الشك.. حتى أصل إلى شئ يقيني». ما هو هذا الشئ اليقيني الذي يتوصل إليه ديكارت بعد الشك؟ يذهب ديكارت إلى أنه حتى ولو كان افتراض وجود شيطان ماكر صحيحاً، وحتى لو كان هذا الشيطان الماكر يخدعه بأن يصور له وجود عالم لا وجود له، فإن هذا الشيطان الماكر
لا يمكن أن يخدعه في وجوده ذاته، فلا يمكن أن يصور له أنه موجود في حين أنه ليس موجوداً. وبذلك يتوصل ديكارت إلى أول يقين وهو وجود الذات، ويقول أنه يشعر بوجوده وبهويته وبالتالي فهو موجود. ويستخدم ديكارت حجة شبيهة في «مبادئ الفلسفة» إذ يقول: «لا يمكننا الشك في وجودها أثناء عملية الشك»، ذلك لأن الكائن الذي يشك يجب أن يكون موجوداً في البداية، «ذلك لأن من التناقض الاعتقاد في أن الذي يفكر
لا يوجد أثناء التفكير»، فالتفكير في حد ذاته دليل على وجود الذات التي تفكر، «هذا الاستنتاج القائل (أنا أفكر، إذن أنا موجود هو أول شئ يقيني على الإطلاق».
والحقيقة أن ديكارت ينطلق إلى تأكيد هذه النتيجة على أساس العلاقة التقليدية بين الجوهر والأحوال، أو الموضوع والمحمول، فحسب هذه العلاقة التقليدية لا يمكن أن تكون هناك أحوال دون جوهر تحمل عليه،
ولا يمكن أن يكون هناك محمول، بالمعنى المنطقي بدون موضوع، ولا يمكن أن يكون هناك فعل دون قائم بهذا الفعل. والتفكير فعل يجب أن يكون له فاعل أو محل يحدث فيه أو شئ يقوم به وهو الذات المفكرة. وهكذا نرى أن الثورة الفلسفية التي أتى بها ديكارت تكمن خلفها بعض الاتجاهات التقليدية القديمة في الفلسفة. هذا بالإضافة إلى أن الانطلاق من الفكر إلى الوجود، أي من واقعة حضور شئ ما في الفكر إلى القطع بوجوده الواقعي، مثلما سيفعل ديكارت مع فكرة الإله الكامل، هو أيضاً اعتقاد فلسفي تقليدي موغل في القدم يصل إلى فلاسفة ما قبل سقراط وعلى رأسهم بارمنيدس.
ويتساءل ديكارت بعد ذلك عن طبيعة وجود هذه الذات التي اكتشف وجودها اليقيني والواضح، ويذهب إلى أنه يدرك نفسه باعتباره جسماً، أي ممتلكاً لإحساسات معينة ورغبات ومشاعر. وعلى الرغم من أنه يمكن الشك في الأشياء الحسية، إذ يمكن أن تكون مجرد أوهام، إلا أنه
لا يمكن الشك في أن المرء حاصل على وعي بالإحساسات، وهذا الوعي في حد ذاته موجود وحاضر ولا يمكن أن يكون وهماً. ويتوصل ديكارت من ذلك إلى أن الوعي بالجسد نفسه يأتي من الفكر، ذلك لأن الإحساس والرغبة والمشاعر كلها عناصر فكرية يدركها المرء بفهمه وعقله، وينتهي ديكارت إلى القول بأن الذات توجد باعتبارها شيئاً مفكراً، أي فكر خالص يعد هو نفسه أساس الوعي بالحالات الجسدية. لكن يقف ديكارت طويلاً على مفهوم آخر مرتبط بالجسد، وبكل الأشياء الجسمية، ويتساءل: هل أمتلك وعياً بذاتي بفضل امتلاكي لجسد ممتد، أي ذي أبعاد تشغل حيزاً من الفراغ؟ ويجيب بالنفي، ذلك لأن إدراك الشئ الممتد، بما فيه الجسم الإنساني لا يعتمد على الحواس بل على الفكر. ويضرب مثالاً على ذلك بقطعة من الشمع. فهذه القطعة لها شكل معين ولون وملمس، وعندما تتعرض للحرارة تذوب ويتغير شكلها وملمسها ولونها، وليس معنى هذا أنها اختفت أو كفت عن الوجود بل يظل الفكر يعرف أنها باقية. كيف عرف الفكر أنها باقية على الرغم من تغيرها؟ يعرف ذلك من كونها
لا تزال شيئاً ممتداً. ومعنى هذا أنه لا الشكل أو اللون أو الملمس قادر على إبقاء هوية شئ ثابتة في الفكر، والامتداد وحده هو القادر على ذلك. هذا الامتداد ليس شيئاً تتلقاه الحواس مثل اللون والملمس والرائحة بل هو شئ يدرك بالفكر وحده. ومعنى هذا أن الفكر لا يدرك ماهية المادة من الإحساسات التي يتلقاها منها بل من فكرة الامتداد التي يدركها الفكر مباشرة على أنها ماهية كل ما هو جسمي بما فيه الجسم الإنساني.
4 - التمييز بين الفكر والامتداد، وبين النفس والجسم:
على أساس نظريته في الأفكار الواضحة والمتمايزة، يذهب ديكارت إلى أن ما يدركه العقل بوضوح وتمايز يتمتع بحقيقة وواقعاً موضوعياً يفوق ما يدركه العقل غامضاً ومختلطاً. وعندما يبحث في أفكاره عن المادة والأجسام المادية يدرك أن أفكاره عنها ليست واضحة، ذلك لأن مصدر هذه الأفكار الحواس والإدراك الحسي وهي غالباً ما تخطئ في المعرفة وتتعرض للزيف والأوهام. ونظراً لأن ديكارت يشك في قدرة الإدراك الحسي على إمداده بمعرفة واضحة يقينية فهو أيضاً يشك في إمكان الحصول على أفكار واضحة عن موضوعات هذا الإدراك الحسي مثل المادة والجسد. فموضوعات الإدراك الحسي دائماً ما تكون مختلفة بطبيعتها، فهي دائمة التغير والتحول، مثل مثال قطعة الشمع الذي يستخدمه والذي شرحناه فيما سبق. وينتهي ديكارت إلى القول بأن معرفة الفكر أيسر وأوضح من معرفة المادة، ومعرفة النفس أيسر وأوضح من معرفة الجسد، ذلك لأنه من اليسير على الإنسان ملاحظة ما يدور في عقله من عمليات فكرية، فالفكر هو النشاط الأساسي للإنسان، وما الجسد سوى ملحق بالعقل والفكر، كما أن الجسد نفسه يعرف بوضوح ويقين عن طريق الفكر ذاته، أما إذا استعملنا الجسد لمعرفة الجسد فسوف نخطئ ونقع في الأوهام، مثل استخدامنا للإدراك الحسي لمعرفة أجسادنا. كل ما نعرفه عن الجسد هو آثاره العقلية، أي ما يثار في العقل من إحساسات وانفعالات. وبالتالي فالعقل هو الذي يعرف الجسد، ومن هنا فإنه له الأولوية على الجسد.
ويؤسس ديكارت تمييزه بين النفس والجسد على أساس نظريته القائلة أن ما يدركه العقل متمايزاً أو منفصلاً عن الآخر يوجد على الحقيقة متمايزاً ومنفصلاً. وهو يستطيع أن يفكر في النفس في استقلال عن الجسد، وبالتالي فهما في الحقيقة منفصلان. كما يذهب ديكارت إلى أن في الوجود جوهرين منفصلين ومتمايزين هما الفكر والامتداد، والفكر هو جوهر النفس، والامتداد جوهر الجسد، وعلى هذا الأساس يكونا منفصلين نظراً لانفصال وتمايز جوهري الفكر والامتداد. لكن الإنسان في النهاية يمثل اتحاداً بين النفس والجسد، وفي نفس الوقت فهذا الاتحاد تظهر فيه النفس والجسد متمايزان ومنفصلان، والدليل على ذلك ما يدركه الإنسان بوضوح عن انفصالهما. ولا يميل ديكارت إلى الرأي القائل أن الاتحاد بين النفس والجسد يصنع موجوداً جديداً هو الإنسان نفسه، بل يصر على أن هذا الاتحاد ما هو إلا تلازم جوهرين من طبيعتين مختلفتين تماماً. ويثبت ديكارت رأيه هذا على أساس معادلة حسابية بسيطة وهي 1 + 1 = 2 فالنفس زائدة الجسد يساويان اثنين نفساً وجسداً. ولا يصرح ديكارت بهذه المعادلة الحسابية بل هي متضمنة في تحليلاته. كان يمكن لديكارت أن يلجأ إلى معادلة حسابية أخرى وهي 1 × 1 = 1، بمعنى أنه كان يمكنه النظر إلى اتحاد النفس والجسد على أنهما عملية ضرب لا عملية إضافة. لو قام ديكارت بهذه المعادلة لأدرك أن اتحاد النفس بالجسد سوف يصنع موجوداً مختلفاً عنهما، لا هو بنفس فقط ولا هو بجسد فقط، بل هو كائن جديد ليس في العالم مثله وهو الكائن الإنساني، وكان يمكنه أيضاً أن ينظر إلى اتحاد النفس والجسد على أنه شبيه بامتزاج العناصر الكيميائية لصنع عنصر جديد لكنه لم يستطع أن يجري تلك المعادلة أو هذا التشبيه لأنه يعتقد منذ البداية بتمايز واختلاف الفكر والامتداد وأنهما لا يمكن أن يمتزجا لصنع وجود جديد هو الوجود الإنساني. ومن أجل ذلك اعتقد ديكارت أن اتحاد هذين الجوهرين المختلفين أشد ا لاختلاف في الكائن الإنساني ليس
إلا فعلاً للإرادة الإلهية ونتيجة لقرار إلهي بأن يوجد الإنسان الذي هو فكر ونفس في الأساس في جسد معين في هذا العالم.
وعلى عكس كثير من الفلاسفة المحدثين، فإن ديكارت لا ينتهي باختزال الجسم إلى العقل، أو العقل إلى الجسم، بل يؤكد على أن لدينا عقلاً وجسماً في نفس الوقت، وأن الاثنين مختلفان عن بعضهما تماماً، لكنهما في نفس الوقت في اتحاد تام. ويذهب ديكارت إلى أن هذا الاتحاد ليس تشاركاً بين متساويين، ذلك لأنه كما يصر على حقيقة الجسم ولا يختزله إلى العقل، فإنه كذلك يقطع بأن الجسم هو مجرد شئ امتلكه، في حين أن العقل
أو النفس هو شئ أكونه، أي هو ما يشكل هويته الحقيقية، بمعنى أنني عقل
أو نفس في الأساس وبالدرجة الأولى، ولهذا العقل أو لهذه النفس جسد تمتلكه. والحقيقة أن ديكارت يقع في تناقض خطير في نظريته حول ثنائية العقل والجسد، فحسب منطق تفكيره الذي يعتمد على النظرية التقليدية في العلاقة بين الجوهر والأحوال، والموضوع والمحمول، والتي يقول بحسبها أن التفكير نشاط أو فعل في حاجة إلى فاعل أو جوهر يقوم به وهو النفس(، فإن رأيه هذا غير مبرر ومتناقض، ذلك لأنه من الممكن القول بأن التفكير فعل ذهني لفاعل أو حامل مادي هو الجسم، وأن العقل أو النفس ذاتها
ما هي إلا صفة أو حال للجسم. كل ما فعله ديكارت أنه ألحق النشاط الفكري بجوهر مفكر هو النفس، في حين أنه كان من الممكن أن يلحقه بالجسم دون أي تناقض، فمن المفترض أن يكون الجوهر والقوام مادي ويكون الحال أو الفعل فكري أو روحي، والحقيقة أن سبينوزا سوف يفضل هذا الخيار، وهو إلحاق الفكر بالجسم وليس العكس كما ذهب ديكارت.
ويبني ديكارت افتراضه بأولوية النفس على الجسم على افتراض أن الشئ المفكر يجب أن يكون حائزاً على جوهر مفكر وهو العقل أو النفس، وأن الشئ الممتد يجب أن يرجع إلى جوهر مادي، فالفكر في حاجة إلى عقل كي يقوم به، والامتداد في حاجة إلى جسم مادي كي يقوم به، وهذه هي الثنائية الديكارتية الشهيرة في أعلى صورها. لم يكن ديكارت ليتصور إمكان وجود نشاط فكري في جوهر مادي أو وجود صفة الامتداد في جوهر روحي أو عقلي خالص، وقد كانت هذه الاعتقادات المسبقة هي الميدان الأفلاطوني الذي استمر متخفياً في فلسفة ديكارت، ومن هنا لا تكون فلسفته ثورية تماماً كما اعتقد الكثيرون بل تقليدية للغاية، حتى وإن كانت التصورات الفلسفية التقليدية غير واضحة في مذهبه للوهلة الأولى. وكدليل على أن في فلسفة ديكارت عناصر فلسفية تقليدية أن معظم الفلسفات الحديثة التالية له سوف تنقد هذه العناصر التقليدية وترفضها، وأهمها فلسفة سبينوزا التي سوف تنظر إلى الفكر الامتداد على أنهما صفتين لجوهر واحد، وإلى النفس والجسم على أنهما شئ واحد ولا يمكن تصور أحدهما بدون الآخر، وجون لوك الذي سوف يرفض أولوية الفكر على الامتداد وينقد نظرية ديكارت في الأفكار الفطرية، وديفيد هيوم وإمانويل كانط اللذان سوف يرفضان استنتاج الوجود من الفكر وحده. لكن هذا الاستنتاج هو الذي تمسك به ديكارت في كل مؤلفاته وأصر عليه، وأقام عليه تمييزه بين الفكر والامتداد، والنفس والجسم، من منطلق أن
ما يمكن التفكير فيه بمعزل عن الآخر هو في حقيقته متمايز ومختلف عن الآخر، والفكر يمكن التفكير فيه بمعزل عن الامتداد، ويمكن التفكير في النفس بمعزل عن الجسم، وبالتالي فهما متمايزان على الحقيقة، ويقول في ذلك «يكفي أن أكون قادراً على إدراك شئ ما بمعزل عن الآخر كي أكون على يقين أن الواحد منهما مختلف عن الآخر». إن ديكارت بذلك يعتقد أنه إذا كان من الممكن التفكير في جوهرين منفصلين ومتمايزين هما الفكر والامتداد، فإن هذا يكفي لاعتبارهما منفصلين في الواقع. هذا الأسلوب في التفكير الذي يتوصل إلى الوجود الحقيقي من خلال الفكر وحده هو ما ثارعليه لوك وهيوم وكانط. ومعنى هذا أن اللقب الذي حازه ديكارت «أبو الفلسفة الحديثة» في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، ذلك لأن معظم الفلاسفة المحدثين قد بنوا فلسفاتهم عن طريق معارضته ونقد أفكاره الأساسية لا عن طريق السير وراءها أو توسيعها أو تطويرها، ناهيك عن الفلاسفة المعاصرين الذين أعطوا الأولوية للجسم والامتداد على النفس والفكر. لقد انبنت الفلسفات الحديثة والمعاصرة على أساس اختلافها مع ديكارت لا اتفاقها معه، ومثلت ابتعاداً مستمراً عنه لا اتباعاً له.
لقد كان استخلاص الوجود من الفكر، والاعتقاد في وجود جوهرين متمايزين هما الفكر والامتداد، وأن الذات الإنسانية توجد على أنها فكر وأن الجسم ما هو إلا زائد أو ملحقاً بالعقل، كل هذه الأشياء كانت مسلمات في فلسفة ديكارت ورثها من فلسفة العصور الوسطى دون وعي منه ودون أن يضعها موضع الفحص، ولم يشك فيها أبداً أو يطبق عليها منهجه الشكي، ذلك لأنها كانت ضمنية أقامها واستخدمها في فلسفته دون وعي منه. إن ديكارت الذي بدأ تأمله الأول بالشك المنهجي وبرفض الاعتقادات والآراء السابقة لم يرفض في الحقيقة كل تلك المسلمات السائدة في فلسفات العصور الوسطى، إذ ظهرت لديه بقوة ووضوح. ومعنى هذا أن الشك المنهجي الذي دعا إليه في البداية لم يطبقه بما فيه الكفاية وكما يجب، بل ترك مسلمات واعتقادات التراث الفلسفي السابق عليه تتسرب إلى تفكيره دون وعي منه. وهذا يعني أن ديكارت لم ينجح في تطبيق منهجه الشكي بدقة، والحقيقة أن هذا المنهج لا يتحقق في فلسفة ديكارت بقدر ما يتحقق في فلسفات اللاحقين له وأبرزهم لوك وهيوم وكانط. إذا كان ديكارت قد طبق منهجه الشكي كما يجب أن يطبق لراجع كثيراً من مسلماته المسبقة ولأنهار مذهبه تماماً، وهذا
ما حدث لدى الفلاسفة اللاحقين الذين هدموا مذهب ديكارت عن طريق تطبيق لمنهجه نفسه بصورة أكثر وضوحاً وجرأة.
لكن إذا كان ديكارت قد فصل بين النفس والجسم هذا الانفصال التام والنهائي فكيف نظر إلى إشكالية اتصالهما واتحادهما فى الفرد الإنساني؟ إن هذا الفصل يجعل من تفسير اتصالهما في الإنسان مشكلة عويصة واجهت ديكارت وحاول أن يبحث لها عن حلول. وقد قدم ديكارت عدداً من الحلول لهذه المشكلة، مشكلة اتصال النفس بالجسم، و ذهب إلى أن الجسم ما هو إلا آلة تحركها النفس. فالجسم شئ مادي مثله مثل باقي الأشياء المادية الموجودة في العالم، وقوانينه الحاكمة له هي نفس القوانين الحاكمة لكل الأجسام المادية، لكنه في نفس الوقت جسم خاص لنفس معينة. هذه الآلة التي هي الجسم الإنساني لا تستطيع أن تعمل بدون النفس، وتتوقف عن العمل إذا فارقتها النفس. وهكذا نرى كيف أن ديكارت يعود إلى نفس الأفكار التي ظهرت في العصور الوسطى حول فناء الجسم وبقاء النفس بعد الموت. ويذهب ديكارت إلى أنه على الرغم من تمايز النفس والجسم، إلا أن الوجود الإنساني في العالم يتمثل في اتحاد النفس بالجسم، ذلك لأن الله أراد من الإنسان في هذا العالم أن يكون نفساً وجسماً في نفس الوقت. فليس في اتحاد النفس والجسم أي صدفة أو عرض، ذلك لأن هذه هي إرادة الله التي صنعت هذا الاتحاد.
ولم يؤدي هذا الحل إلى حل إشكالية اتصال النفس بالجسم، ذلك لأن الثنائية التي وضعها ديكارت بينهما كانت قوية، وعادت مشكلة اتصالهما إلى الإلحاح عليه. فكيف يمكن للنفس التي هي فكر خالص
أن تتحد في الجسم الذي هو مادي خالص؟ وكيف تحرك النفس
الجسم وتحدث فيه أفعالاً وحالات، وكيف تؤدي الأحداث الجسمية إلى حدوث أفكار في العقل؟ وكل هذه المشكلات أتى ديكارت بافتراض لحلها وهو قوله بوجود شئ في الجسم يمثل اتحاد النفس بالجسم ويتصف بالصفة العقلية والصفة الجسمية في نفس الوقت، وهو الغدة الصنوبرية التي تقع وراء المخ. فعن طريق هذه الغدة يرسل العقل إشارات عصبية إلى الجسم كي يتحرك ويفعل، وعن طريقها أيضاً يستقبل العقل أحداث وإحساسات الجسم لنقلها إلى العقل. وعلى الرغم من هذا الحل الجديد الذي يبدو عليه البراعة والذكاء إلا أنه لم يحل إشكالية اتصال النفس بالجسم، ذلك لأن ديكارت كان قد وصف الجسم بأنه آلة، والآلة لا تحركها إلا آلة مثلها، والغدة الصنوبرية ليست آلة بل هي جزء من الجسم، وكأن ديكارت يقول بأن جزءاً من الجسم يحرك الجسم كله، ويظل دور النفس غائباً، لأن هذه الغدة ليست جزءاً من النفس بل هي وظيفة من وظائف الجسم. وهكذا لم يستطع ديكارت حل إشكالية الاتصال وظلت ثنائية النفس والجسم لديه قائمة على الرغم مما يبدو عليه افتراض الغدة الصنوبرية من تجديد، وعلى الرغم من أن هذا الافتراض سوف يلقي أصداء لدى علم النفس التجريبي الحديث الذي سوف يحل نفس المشكلة بتبني الافتراض الديكارتي. لكننا عندما نمعن النظر في استخدام علم النفس التجريبي الحديث لافتراض الغدة الصنوبرية نكتشف أنها لديه ليست مستخدمة لحل إشكالية اتصال النفس بالجسم بل كانت جزءاً من نظريته السلوكية – العصبية في تفسير العلاقة بين العمليات العصبية والبيولوجية والذهنية، والتي لا تنظر إلى وجود شئ مستقل في الإنسان يسمى النفس، بل الكائن الإنساني لديها عبارة عن جهاز سيكوفيزيقي، أي عصبي بيولوجي، أي أنها ترد النفس إلى الجسم، وهذا هو عكس ما أراده ديكارت تماماً. ومعنى هذا أن افتراض ديكارت للغدة الصنوبرية سوف يجعل تفسيره لاتصال النفس بالجسم ينطلق من أساس ينظر إلى الكائن الإنساني من وجهة النظر السلوكية على أنه جهاز سيكوفيزيقي، عصبي وبيولوجي في نفس الوقت، أي ينظر إليه في النهاية على أنه جسم يتملك وظائف نفسية، عكس ديكارت تماماً الذي نظر للإنسان على أنه نفس تمتلك جسماً.
5 - الإله - وجوده وطبيعته:
أ - مبررات ديكارت لإثبات وجود الإله:
ينتقل ديكارت في التأمل الثالث إلى تناول وجود الإله وطبيعته، ويثبت وجوده بدليلين، وفي التأمل الخامس يستخدم دليلاً ثالثاً. لكن
ما الذي جعل ديكارت ينتقل من إثبات وجود الذات المفكرة إلى البحث عن يقين آخر وهو الإله ويشرع في إثبات وجوده؟ يرجع السبب في ذلك إلى أنه استمر في ممارسة شكه، ذلك لأنه رأى أن مجرد إثبات وجود الذات
لا يكفي كي يصل إلى يقين مطلق حول باقي أفكاره وحول العالم، حتى أنه لا يزال يشك في التأمل الثالث في الحقائق الحسابية والرياضية ويفترض أن هناك من يخدعه حولها وأن هذا المخادع هو الذي جعله يعتقد في صدقها في حين أنها ليست كذلك. ويتناول ديكارت يقينه الأول الذي وصل إليه وهو وجود الذات ويذهب إلى أن هذا الوجود لا يكفي في حد ذاته لإثبات حقائق العالم المختلفة، حتى أنه يفترض أن الذات تحصل على يقينها من خلال نور فطري في النفس الإنسانية لا يرجع إلى العالم الخارجي. لكنه يعود ليشك في هذا النور الفطري ذاته لأنه لا يذكر عنه سوى ما تلقاه من حقائق في العالم الخارجي، وبذلك يكون النور الفطري مجرد عامل مساعد يظل معتمدأً على ما تتلقاه الذات من العالم الخارجي. وهذا الاعتماد للنور الفطري على أشياء العالم لا يجعله عند ديكارت يقيناً مستقلاً بالذات، بل يمكن أن يكون هو نفسه عرضة للشك، لأن النور الفطري يقتصر دوره على ما تتلقاه الذات من العالم، وبذلك فهو ليس فاعلاً بل منفعلاً، ليس إيجابياً بل سلبي. والنور الفطري ليس سوى تأكيد الذات على حقائق العالم بناء على وضوح وتميز أفكارنا عنه. هذا الوضوح والتمييز في حد ذاته عرضة للشك لأنه يمكن أن ينتهي في النهاية إلى مجرد خداع أو إلى شيطان ديكارت الذي لا يكف عن افتراض وجوده دائماً في مؤلفاته. وفي مواجهة عدم كفاية اليقين الأول وهو وجود الذات، وبسبب أن هذه الذات يمكن أن تكون منخدعة، يشرع ديكارت في البحث عن أساس ثان لليقين يستطيع به تأسيس يقينه بحقائق العالم. وعندما يبحث في فكره عن أفكار يدركها في وضوح وتميز يجد أنه يستطيع التفكير في إله كامل. فبعد أن ينحي العالم كله ويستبعده من تفكيره هو والأفكار المتعلقة به وما يؤكده من نور فطري الذى هو في حد ذاته محل للشك، يتناول الفكرة الثانية التي تطغي على تفكيره بعد فكرة الذات المفكرة مباشرة وهي فكرة الإله. ويجعل ديكارت فكرة الإله هي الفكرة الوحيدة القادرة على تخليصه من شكه، لأنه بدون هذا الإله لن يستطيع أن يكون على يقين من أي شئ، ولن يستطيع أن يتخلص من فكرة الشيطان الماكر الذي يخدعه دائماً، ويقول في ذلك: «يجب أن أبحث فيما إذا كان هناك إله بمجرد ما أن تأتي الفرصة لذلك، وإذا اكتشف أن هناك إله، يجب علىَّ أيضاً أن أبحث فيما إذا كان مخادعاً»، ذلك لأن الإله إذا كان مخادعاً فلن يكون هو الإله الحقيقي بل سيصبح الشيطان الماكر بعينه، «ذلك لأنه بدون معرفة بهاتين الحقيقتين، أي وجود الإله وأنه ليس مخادعاً، فلا يمكن أن أصبح على يقين من أي شئ»، عدا كونه وجوداً مفكراً وحسب.
ب - أدلة وجود الإله:
الملاحظ أن ديكارت يتوصل إلى وجود الذات المفكرة لا بأدلة وبراهين عقلية مثل التي يستخدمها في إثبات وجود الله، بل بالحدس والبصيرة. ذلك لأن السلسلة التي ينتقل فيها من الشك إلى اليقين بوجوده باعتباره كائناً مفكراً، والتي يقول فيها: «أنا أشك إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود» ليست ببرهان عقلي بل هي في حقيقتها برهان حدسي، يقوم على البصيرة والنور الفطري. وعندما يأتي ديكارت لتناول فكرة الإله كفكرة في الذهن وحسب، وكي يوضح أنه ليس مجرد فكرة وأنه يتمتع بوجود حقيقي يشرع في تقديم أدلة عقلية وبراهين منطقية على وجوده. ومعنى هذا أن ديكارت يقدم أدلة وبراهين على ما توصل إليه عن طريق حدس باطني وبصيرة داخلية، ذلك لأنه يبحث في ذاته عن فكرة أخرى غير فكرة الذات المفكرة ويجد فكرة الإله، وهذا هو طريق الحدس، الذي يثبته بعد ذلك عقلياً في صورة أدلة. ومن هنا فإن منهج ديكارت ليس عقلانياً تماماً، أي لا يسير كله حسب ترتيب منطقي انطلاقاً من مبدأ أول، بل هو ينطوي كذلك على الحدس والبصيرة، وما الأدلة العقلية على وجود الله سوى طريق مساعد لهذا الحدس الأصلي كي يكون على يقين من أن هذا الإله يوجد بالفعل. منهج ديكارت إذن لا يقوم على البرهان العقلي وحده بل يتضمن حدساً وبرهاناً في نفس الوقت. والدليل على أن فكرة الإله عنده هي حدس في الأساس وفي المقام الأول النص الذي سبق وأن استشهدنا به حيث يقول فيه ديكارت أنه يجب عليه افتراض وجود إله كي يتأكد ويكون على يقين من وجوده هو نفسه ومن حقيقة العالم من حوله. إن كثيراً ممن يعرض لفلسفة ديكارت ينتقل مباشرة من إثباته لوجود الذات المفكرة إلى أدلته على وجود الإله، متناسياً الكيفية التي ظهرت بها فكرة الإله لديه. فهو لم يتوصل إلى هذه الفكرة بأدلة عقلية بل بحدس باطني وبصيرة داخلية، وهذه هي النقطة التي لم يركز عليها أغلب من تناولوا فلسفته من مؤرخي الفلسفة. فكرة الإله ذاتها يعرفها ديكارت بحدس وبصيرة داخلية، أماوجوده فيعرفه أو يثبته بأدلة وبراهين عقلية. وكونه يعرف فكرة الإله بحدس باطني يجعل فلسفته مشابه لفلسفة القديس أوغسطين التي تعتمد على نفس الوسيلة وهي الحدس والبصيرة الداخلية لاكتشاف فكرة الإله داخل النفس. ومرة أخرى نرى كيف أن فلسفة ديكارت ليست جديدة تماماً بل تنطوي على عناصر تقليدية سبق ظهورها في فلسفات العصور الوسطى. إن ديكارت الذى عُرف على أنه مؤسس المذهب العقلاني هو فى نفس الوقت مؤسس للمذهب الحدسي. لكن يبدو أن مؤرخي الفلسفة يقدمون لنا ديكارت العقلاني وحسب، وهي الصورة التي أرادوا أن يقدموها لنا عنه، ولم يركزوا على ديكارت صاحب منهج الحدس الباطني الواضح في التأمل الثالث، وبذلك فهم يقدمون لنا العناصر العقلية في فلسفته فقط متناسين الطابع الحدسي لفلسفته، ذلك الطابع الذي سوف يعاد إحيائه على يد برجسون وهوسرل من المعاصرين.
الدليل الأول:
ويمكن أن نطلق عليه دليل الكمال. يميز ديكارت بين نوعين من الوجود: الوجود الموضوعي والجود الفعلي أو الواقعي. الوجود الفعلي هو وجود الأشياء المحسوسة الحاضرة أمامنا في هذا العالم، أما النوع الآخر من الوجود فهو الوجود الذي يتمتع بصفات الكمال. يمكنني أن أفكر في الحصان الطائر مثلاً، على الرغم من أنه غير موجود، ويمكنني أيضاً أن أفكر في المائدة الحاضرة أمامي وأدرك أنها موجودة، وأفكر كذلك في إله كامل. ومن بين هذه الأفكار نرى أن فكرة الحصان الطائر موجودة في ذهني فقط وليس لها وجود فعلي، والمائدة موجودة أمامي وهي بذلك تتصف بالوجود الفعلي إلى جانب كونها فكرة حاضرة في ذهني. وعلى الرغم من أن الإله غير حاضر أمامي إلا أن وجوده موضوعي، ذلك لأن ما يتصف بصفات الكمال يتمتع بوجود أكثر موضوعية من الأشياء الموجودة بالفعل، لأنها في النهاية ناقصة ومصنوعة، وفكرة الخالق أكثر موضوعية من فكرة المخلوق حتى ولو لم يكن هذا الخالق حاضر فعلياً أما الحواس. وفي ذلك يقول ديكارت: «إن إلهاً أعلى – أبدي – لا متناهي – كلي العلم والقدرة وخالق لكل شئ خارجاً عنه حاصل على حقيقة موضوعية في ذاته أكثر من تلك العناصر المتناهية». ويبني ديكارت استدلاله هنا على أساس أن الخالق أكثر حقيقة من المخلوق، والكامل أكثر حقيقة من الناقص، والكلي العلم والقدرة أكثر حقيقة من ناقص العلم والقدرة، واللامتناهي أكثر حقيقة من المتناهي.
ويذهب ديكارت إلى أن كل تلك الصفات التي نعرفها عن الإله يجب أن تكون لها أسباب لوجودها، ولا يكون الإنسان هو مخترعها، ذلك لأن الإنسان ناقص وبذلك لا يمكن أن يكون هو سبب فكرة الكمال. كما أن كل تلك الصفات يجب أن ترجع إلى علة كافية وضرورية وهي الإله نفسه الموجود وجوداً فعلياً. فمن صفات الكمال الوجود، وإذا لم تكن فكرة الكمال ترجع إلى كائن موجود بالفعل فسوف تصبح فكرة ناقصة وهذا تناقض. وبالتالي فالكائن الكامل يجب أن يكون موجوداً، لأنه لو افتقر إلى الوجود لأصبح غر كامل ولكان مجرد فكرة في الذهن. والملاحظ أن ديكارت يؤسس هذا الدليل على مبدأ العلة الكافية. فالأفكار التي في ذهني عن الكمال، مثل كلية العلم والقدرة والأبدية واللاتناهي، يجب أن تكون لها علة كافية لحضورها في ذهني، ولأنني كائن ناقص فلا يمكن أن أكون أنا سبب هذه الأفكار، وبالتالي فالكائن الكامل هو نفسه السبب الكافي لظهور فكرة الكمال في ذهني. والحقيقة أن ديكارت قد وقع في تناقض خطير، ذلك لأنه بدأ التأمل الأول بقوله إنه لا يمكن أن يصل إلى أفكار واضحة يقينية إلا بعد أن يثبت أن هناك إله يضمن له صحة هذه الأفكار، لكنه في التأمل الثالث يستخلص وجود الإله من الفكرة الواضحة اليقينية لديه عن الكمال. ومعنى هذا أنه لم ينفذ ما وعد بتنفيذه ووقع في تناقض ودور منطقي واضح، فكي تكون لديه أفكار واضحة يقينية يجب أن يثبت وجود الإله أولاً، وهو يثبته بأفكار واضحة يقينية في نفس الوقت. ويبدو أن ديكارت كان على وعي بهذا الدور المنطقي، لأنه سوف يذهب في بقية التأملات إلى أن فكرة الإله والأفكار الواضحة اليقينية يثبت أحدهما الآخر، بحيث تكون هذه الأفكار دليلاً على وجود الإله، ويكون وجود الإله ضماناً ليقين الأفكار. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الحل لم يحل لنا إشكالية الدور المنطقي، ذلك لأن إقراره باعتماد فكرة الإله والأفكار الواضحة على بعضهما البعض يجعلنا نعود إلى نفس الدور المنطقي الذي بدأنا منه. فما هي البداية الحقيقية لاستدلالاتنا حسب ديكارت، أهي الإله أم الأفكار الواضحة؟ إن ديكارت يستخدم الاثنين معاً ليدعم بالواحدة منها الأخرى، ولكنه لم يضع لنا بداية حقيقية في صورة مبدأ أول نستخلص منه اليقين الثاني.
الدليل الثاني:
وفيه يثبت ديكارت وجود الإله انطلاقاً من وجوده هو، بمعنى أنه ليس سبباً لوجود نفسه، وبالتالي يجب أن يكون هناك كائن خالق هو الذي أوجده. يقول ديكارت: «واسأل نفسي، من أين أحصل على وجودي؟ ربما من ذاتي أو من والديَّ، أو من أي مصدر آخر أقل كمالاً من الإله؟».
ولا يمكن أن يكون سبب وجوده شئ ناقص أو مفتقر إلى الكمال، وبالتالي فالإله الكامل هو سبب وجوده، وبما أنه موجود فالإله أيضاً موجود. وهو يفترض جدلاً أن يكون والديه هما السبب في وجوده، إذ يمكن أن يكونا سبباً في ميلاده كجسم وحسب، في حين أنه يوجد في الحقيقة باعتباره فكراً منفصلاً ومتمايزاً عن الجسد. فالوالدان يمكن أن يكونا سبباً لوجود هذا الجسم المادي، لكنهما لا يمكن أن يكونا السبب في النفس أو الروح. ويناقش ديكارت احتمال أن يكون السبب في وجوده شئ أكثر كمالاً من الوالدين لكن أقل كمالاً من الإله مثل الطبيعة مثلاً، ويرفض ديكارت هذا الاحتمال، ذلك لأن الأقل كمالاً من الإله لا يمكن أن تكون لديه القدرة على الخلق من العدم.
ويستمر ديكارت في المزيد من توضيح هذا الدليل، ويذهب إلى أنه باعتباره جوهراً مفكراً موجود لكنه لم يكن يوجد دائماً بل إن وجوده حادث، أي حدث بعد أن لم يكن. وعندما يبدأ شئ في الوجود بعد أن لم يكن فمعنى هذا أنه أتى من العدم، أي خُلق. والقدرة على إيجاد شئ من العدم تتطلب قدرة تفوق قدرة إدراك الأشياء. وبما أن الإنسان لا يحصل إلا على قدرة على إدراك الأشياء وفهمها وحسب وليس حائزاً على قدرة إيجادها
أو خلقها من العدم، فهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يكون سبباً في وجوده، وبالتالي فهذا السبب يكون أكثر قدرة من الإنسان. وإذا كان الإنسان قادراً على إيجاد نفسه من العدم فمعنى هذا أنه قادر على الحصول على الكمال، لكن الإنسان ناقص، وبالتالي، فهو لا يمكن أن يكون سبباً في وجود ذاته، ولا يمكن أن يكون سبب الوجود إلا الإله الكامل.
ويقدم ديكارت حجة أخرى في إطار هذا الدليل، ويذهب إلى أن الوجود عبارة عن المرور عبر لحظات الزمن، وهذا المرور عبر الزمن يفترض القدرة على جعل الشئ الموجود في لحظة يستمر في الوجود في كل لحظات الزمن.
وبما أن الإنسان ليس قادراً على إيجاد أي شئ يستمر حاضراً في كل الأزمنة،
فلا يمكن أن يكون هو السبب في استمرار وجوده في الزمن. وبذلك فيجب أن تكون هناك قدرة على استمرار الإيجاد في الزمان، وهذه القدرة غير متوافرة في الإنسان، وبالتالي فالإله هو هذه القدرة التي تجعل وجودي، ووجود الأشياء كلها. مستمرة في الزمان. والملاحظ أن هذه الحجة هي في حقيقتها ليست حجة لإثبات وجود الله وحسب بل حجة على استمرار خلقه واستمرار العناية الإلهية. فديكارت يعتقد في أن الإله لم يخلق الإنسان والعالم في لحظة من الزمان ثم انتهى عمله عند ذلك، بل كان يعتقد في نظرية الخلق المستمر والعناية الإلهية تلك النظرية المستمدة من فلسفات العصور الوسطى.
الدليل الثالث:
ويسمى هذا الدليل بالدليل الأنطولوجي، وذلك لسببين، الأول أنه يستخلص وجود الإله من فكرة الكائن الكامل، والثاني أنه يوحد الفكر والوجود في حالة الإله، ويعتبر أن الإله باعتباره فكرة مساوياً للإله باعتباره وجوداً حقيقياً. ويحتوي هذا الدليل على مسلمة منطقية تذهب إلى أن ما هو ممكن ومقبول منطقياً يمكن وجوده واقعياً، بمعنى أننا إذا كنا نستطيع تصور أن المفهوم أ ينطوي على المفهوم ب، فمعنى هذا أن الشئ المسمى أ ينطوي على الشئ المسمى ب، فالعلاقة المنطقية التي تدرك بيقين وتميز في الفكر يمكن وجودها واقعياً خارج الفكر. ويسير الدليل الثالث بنفس الطريقة، إذ يذهب ديكارت إلى أن لديه فكرة واضحة ومتميزة عن الكائن الكامل، وهذا الكائن لا يمكن أن يفتقر إلى أي صفة بما فيها صفة الوجود. ومن التناقض تصور فكرة الإله باعتباره الكائن الكامل دون تصور وجوده، ذلك لأن الكائن الكامل غير الموجود حقيقة يعد تناقضاً ونقصاً في فكرة الكمال ذاتها، وبالتالي فإن الوجود جزء من مفهوم الإله، إذن الإله موجود.
6 - العالم وأشياؤه:
لم يثبت ديكارت حتى التأمل الخامس سوى وجود الذات والإله، وميز بين النفس والجسد، أما في التأملين الخامس والسادس فينطلق إلى إثبات وجود العالم وحقيقة أشياءه. وأول ما يتناوله ديكارت في هذا الشأن ليس وجود المادة في حد ذاتها أو الأجسام المادية أو العالم في كليته بل حقائق الحساب والهندسة، ويذهب إلى التمييز بين معرفة العالم باعتباره مادة ومكوناً من أشياء مادية، والمعرفة الرياضية، ويقر بأن المعرفة الرياضية تتمتع ببداهة وصدق داخلي، والضمان الوحيد لهذا الصدق الداخلي هو أن الإنسان قادر على الحكم في المسائل الرياضية بيقين، وهذه القدرة على الحكم الصحيح ليست زيفاً أو خداعاً، لأن الإله الذي خلق الإنسان هو الذي وضع فيه القدرة على الحكم الصحيح، ولأنه ليس مخادعاً فهو الذي يضمن وصول الإنسان إلى اليقين في الرياضيات طالما استخدم ملكة الحكم لديه على نحو صحيح. والحقائق الرياضية من حساب وهندسة يتوصل إليها العقل وحده دون الاعتماد على الحواس، ودون أن يلاحظ الأشياء ويستقرأها ويستخلص منها القوانين الرياضية. وحقائق الرياضيات مستقلة عن العالم المادي،
ولا يهم ما إذا كانت هناك أشياء مادية تتحقق فيها القوانين الرياضية
أو لم تكن، فهذه الحقائق موجودة وموضوعة على مستوى الفكر وليست في حاجة إلى العالم المادي كي تتحقق. وهي موجودة قبلياً وما على العقل
إلا اكتشافها، وهو يكتشفها بنفسه بدون الاستعانة بالإدراك الحسي.
ولا ينشغل ديكارت فيما إذا كانت الرياضيات هي التعبير الحقيقى عن جوهر الطبيعة وماهيتها، بعكس ما سيفعل من بعده سبينوزا ونيوتن والعلم الحديث كله، فالطبيعة عنده مادة في الأساس وهى في ذلك مختلفة من حيث طبيعتها وجوهرها عن الرياضيات التي هي فكر خالص، فالرياضيات عنده تتمتع بالصحة واليقين سواء كان هناك عالم أم لا. وكأن ديكارت بذلك يعتقد في وجود عالم قائم بذاته للرياضيات مثل عالم الماهيات والمثل عند أفلاطون. والحقيقة أن في فلسفة ديكارت الكثير من العناصر الأفلاطونية في صور مسلمات ضمنية لم يكن على وعي بها، فالتمييز بين النفس والجسم وبين الفكر والامتداد، أو المعقول والمحسوس، كلها تمييزات ترجع إلى أفلاطون الذي يعد أول من أدخلها في التفكير الفلسفي.
أما عن طبيعة الأشياء المادية فيذهب ديكارت إلى التمييز فيما بين
ما يدركه العقل منها وما تدركه الحواس. فالعقل يدرك الصفات الأولية للأشياء، مثل الامتداد والشكل والعدد، والحواس تدرك الصفات الثانوية مثل اللون والطعم والرائحة والملمس. ويذهب ديكارت إلى أنه طالما يدرك العقل الصفات الأولية في الأشياء بوضوح وتميز فمعنى هذا أن هذه الصفات موجودة بالفعل في المادة وهي ما تشكل ماهيتها، أما الصفات الثانوية فليست في المادة نفسها بل هي ناتجة عن تأثر الحواس بالمادة، ذلك لأن لون الشئ ورائحته وملمسه يمكن أن يتغير مع بقاء هذا الشئ على حاله من حيث الامتداد والعدد. ومعنى هذا أن الصفات الثانوية ليست داخلة باعتبارها جزءاً جوهرياً في المادة، فالمادة في الأساس امتداد وعدد وشكل وحركة. هذه الصفات الأولية يدركها العقل لأنها صفات يستقبلها العقل منها، وبما أن العقل هو الذي يستقبلها فمعنى هذا أنها حقيقية، أما الصفات الثانوية فلا تستقبلها الحواس من المادة بل تتأثر بها وحسب، والاستقبال عند ديكارت يختلف عن التأثر إذ أن الاستقبال لشئ حقيقي موجود بالفعل، في حين أن التأثر يمكن أن يكون عائداً إلى طريقة تركيب وطبيعة حواسنا، وبالتالي فنحن لا نعرف من الأشياء على الحقيقة إلا ما نستقبله منها بوضوح وتميز وهو الامتداد والحركة والعدد، أما ما تتأثر به حواسنا فلسنا على يقين من أنه داخل في طبيعة المادة، بل هو صفات ثانوية فيها يمكن أن تتغير مع بقاء الصفات الأولية للمادة كما هي.
خاتمـــة:
قلنا في بداية هذا الفصل أن ديكارت يُنظر إليه على أنه «أبو الفلسفة الحديثة»، وعلمنا أن هذا الوصف يرجع إلى كونه قد افتتح طريقة جديدة في التفلسف ووضع للفلسفة منهجاً جديداً. ورأينا خلال الفصل كيف أن هذا الوصف فيه الكثير من المبالغة، ذلك لأنه قد وضح من استعراضنا لفلسفته أنها ليست بجديدة تماماً بل ظلت تؤكد على نفس الحقائق المعروفة في الفلسفات السابقة عليها وبالأخص فلسفة العصور الوسطى: وجود الذات المفكرة ووجود الإله والتمييز بين النفس والجسم وإثبات خلود النفس، وبذلك تكون فلسفة ديكارت فلسفة تقليدية لكن بثوب جديد، أي ذات مضامين تقليدية وليست ثورية بالمرة لكن في إطار مجدد وثوري يتمثل في طريقة ديكارت الجديدة في الشك المنهجي وقواعد منهجه الأربعة. كما لا يمكن لديكارت أن يكون «أبو الفلاسفة الحديثة» وكل من أتى بعده يعارضه وينقده ولا يستعير منه سوى منهجه. الحقيقة أننا يجب الآن أن نفهم من عبارة «أبو الفلسفة الحديثة» معنى جديداً، يمكن أن يكون حرفياً. إنه أبو الفلاسفة الحديثة بالمعنى الذي نفهمه من آباء الكنيسة، ذلك لأن تأملات ديكارت ذات طابع ديني واضح للغاية، وهو بهذا المعنى أب بالمعنى الديني الكنسي للفلسفة الحديثة، لأنه صنع لنا فلسفة توفق بين الدين والعقل وتتوصل إلى نفس المعتقدات الدينية عن طريق العقل والبرهان، إنه بذلك يكون الأب في الفلسفة الحديثة، أي مؤسس الدين ومثبت وجود الإله وخلود النفس في الفلسفة الحديثة. وسوف تظل الفلسفات اللاحقة له ثورة مستمرة عليه. أي ثورة على الأب بالمعنى الأبوي والديني الذي صنع من الفلسفة لاهوتاً رفض كل الفلاسفة اللاحقين الانتساب إليها وعملوا على الفصل الدائم بينهما، ما عدا بعض المفكرين الذين ساروا في إتجاهه مثل لايبنتز وباسكال ومالبرانش.
الفلسفة الحديثة في منهج ديكارت