الخلط بين النزعتين السياسيتين “الإمبراطورية”، و”العالمية”، هو مربط الفرس في ترسيخ عداء الإسلام السياسي للمشروع القومي العربي (!!) بقلم أسامة عكنان
ArabNyheter | 2014/06/15لا يوجد تعليقات
القومية تجسِّد حالة تواجد مجتمعي، أما الدين فيجسد حالة تواجد فكري، لذلك فلا صحة لرفض الأولى لأجل الثانية، ولا لمعاداة الثانية حفاظا على الأولى (!!)عندما نحملُ فكرةً عالمية، أي عندما نحمل فكرة تتعلق بتفسير الوجود – كل الوجود – كما هو حال وواقع الدين السماوي، أو الفلسفتين الليبرالية والدياليكتيكية، ليس بالضرورة أن يكون معنى ذلك أننا ندعو إلى دولة عالمية، أو أن تلك الفكرة العالمية لا يمكن تجسيدها بمعناها الصحيح والمتكامل إلا من خلال خلق دولة عالمية. فالفكرة شيء، والدولة التي تتولى تجسيد تلك الفكرة شيء آخر مختلف. فلا عالمية الفكرة يجب أن تنسحبَ إلى المشروع السياسي الذي يجسِّدُها ليغدوَ مشروعا واحدا وعالمي الامتدادات في الزمان والمكان. ولا محدودية المشروع السياسي المستند إلى فكرة عالميةٍ، ولا خصوصيته الزمانية والمكانية، تنفي عن فكرته التي استند إليها عالميتها، وتحيلها إلى فكرة محدودة الزمان والمكان. يا من تحمل فكرة عالمية، وتفسر بموجبها الوجود الممتد في الزمان والمكان، لا تخشى على عالمية فكرتك وامتداداتها، عندما تجد نفسك تتعامل سياسيا مع واقع موضوعي محدود زمانا ومكانا. ففكرتك العالمية ستبقى كذلك إن كانت كذلك، حتى لو جسَّدتها في دولة تتعاطى مع "شبر من الأرض"، و"مع عائلة واحدة من البشر"، في "عقد من الزمن". فالدُّول تُجَسِّدُها مشاريع سياسية يتفاعل فيها نسقان من أنساق الواقع الموضوعي، يتطور كلٌّ منهما في سياقاته التاريخية الخاصة به من جهة، مُؤثرا في النسق الآخر ومتأثرا به في الوقت ذاته من جهة أخرى، دون أن يكون هو نفسه وذاته ذلك النسق الآخر، ودون أن يكون مضطرا من ثمَّ إلى أن يذوب فيه ويختفي، أو أنه لا يقوم إلا باختفائه وذوبانه فيه. وهذان النسقان اللذان بتطورهما في سياقاتهما الخاصة أولا، وبتفاعلهما معا خلال سيرورة تلك العملية التطورية ثانيا، يؤسسان الدول بوصفها مشاريع سياسية، ويطورانها.. إلخ، هما: النسق الأول: "شكل التواجد المجتمعي"، لجهة: "العائلة"، "العشيرة"، "القبيلة"، التجمع البشري متعدِّد القبائل والعشائر والعائلات، سواء كان تجمعا بدويا أو حضريا أو زراعيا"، "الشعب"، "الأمة العالمية".. إلخ (!!)النسق الثاني: شكل تنظيم وإدارة حالة التواجد المجتمعي"، لجهة تجسيد قيمتي "الحرية" و"العدالة"، داخليا في علاقة مكونات الحالة المجتمعية بشكل تواجدها المتجسد، بعضهم بالبعض الآخر، أفرادا ومؤسسات، وخارجيا في علاقة ذلك التجمع البشري بالتجمعات البشرية الأخرى، أيا كانت أشكال تواجدها المجتمعي (!!)إن الدولة بوصفها تجسيدا لمشروع سياسي ناتج عن تفاعل هذين النسقين عبر "التاريخ"، لا يمكننا فهمها بدون فهم الدور الذي يلعبه التاريخ في خلق هذين النسقين، وفي تطويرهما، وفي تمرير عناصر التفاعل فيما بينهما تأثُّرا وتأثيرا.إن الفكرة التي تدعي أنها فكرة عالمية وتطرح نفسَها من ثمَّ على أنها كذلك، تكون مجرد فكرة مُدَّعية لما ليس في بُنْيِتها وجوهرها وطبيعتها، إن لم تنطوِ على تجاوبٍ تنظيمي وإداري – أي سياسي – موضوعي مع كلِّ أشكال التواجد المجتمعي للكيانات البشرية كما يجسدها التاريخ وكما تجسدها الجغرافية، وهما يتفاعلان ويتطوران مُطَوِّرين أشكال التواجد المجتمعي تلك، مادامت كلُّ تلك الأشكال هي في الفضاءات التاريخية والجغرافية جزء لا يتجزأ من بُنية العالم الذي تدعي تلك الفكرة أنها تفسره، لتكتسب من تفسيرها له عبر تفسير جميع مكوناته وجزئياته وسيروراته، عالميتها تلك.فإذا كانت "العائلة"، ثم إذا كانت "العشيرة"، وبعدهما "القبيلة"، وكافة التجمعات "البدوية" و"الحضرية" و"الزراعية"، ثم إذا كان "الشعب"، وبعد ذلك "الأمة العالمية"، على سبيل المثال هي أنماط موضوعية – شهدها التاريخ البشري وما يزال يشهدها أو يسعى إليها ويتحرك باتجاهها – من أشكال التواجد المجتمعي، فإن فكرة ما كي تكون عالمية على وجه الحقيقة وليس على وجه الادعاء مفرَّغ المضمون، يجب أن تكون قادرة على تجسيد قيمتي "الحرية" و"العدالة" بمعنييهما "الداخلي" و"الخارجي" اللذين أشرنا إليهما سابقا، في كلِّ تلك الأشكال من التواجد المجتمعي داخليا، وفيما بينها خارجيا، على أساس الاعتراف بموضوعيتها وواقعيتها – أي على أساس الاعتراف بموضوعية وواقعية تلك الأشكال المجتمعية – وليس على أساس التَّنَكُّر لأحدها ورفضه ومعاداته، لصالح وحساب شكل آخر منها، لأنها تثبت بهذا الاجتزاء – الذي أفرزه التنكر والذي أفرزته المعاداة – أنها ليست قادرة على تغطية واقع موضوعي معين التغطيةَ التي تؤشِّر على أنها تفسر الوجود والعالم بكلياته وبتفاصيله وبسيروراته الكاملة.فكما أن التجربة المخبرية التي كانت تقول لنا في القرن التاسع عشر: "إن هناك علاقة من التناسب الثابتة التي لا تتغير بين كلٍّ من حجوم الغازات ودرجات حرارتها وقوة الضغط الذي تتعرض له، وهي أن حرارة نفس الحجوم من الغازات الواقعة تحت ضغط 76 درجة زئبق، تكون متساوية"، دون أخذ أيِّ عناصر أخرى في الاعتبار عند احتساب ثابت تلك العلاقة، كما ينص على ذلك قانون "بويل للغازات"، أثبتت أنها تجربة مخبرية قاصرة وغير مُلِمَّة بمكونات الواقع الموضوعي الأخرى التي تتدخل في تحديد ذلك الثابت وفي تغييره صعودا أو هبوطا، مغيرة بذلك التدخل الحرارة نفسها رغم وجود الثابتين الآخرين، ليتوصل "رينو" في تجربة مخبرية أخرى أكثر شمولا وتكاملا وانطواء على عناصر موضوعية أخرى، إلى أن هناك مكونات أخرى يجب أن تؤخذ في الاعتبار، لضمان مثل تلك النتيجة، كالتأكُّد من نِسَبِ بعض الملوثات والغازات المحددة المتداخلة مع الغازات الرئيسة محل التجربة.. إلخ..نقول.. كما أن التجربة المخبرية القاصرة عن تغطية كافة مكونات الواقع الموضوعي المادي الطبيعي، ثبت أن ليس من حقها ادعاء شموليتها وتعميم نتائجها، فكذلك الفكرة الفلسفية القاصرة عن التعاطي مع كافة مكونات الواقع الموضوعي المجتمعي التاريخي، ليس من حقها ادعاء عالميتها وتعميم نظرياتها.الفكرة العالمية، إنما هي عالمية بسبب أنها تمتلك مخزونا من القدرة الذاتية على توليد آليات التعاطي الإيجابي والبناَّء والفاعل مع فكرة الدولة كمشروع سياسي، من خلال إيجابية وفاعلية التعاطي مع سياقات تطور الأنساق المجتمعية المُكَوِّنَة والمُؤَسِّسَة للمشروع السياسي – الدولة – والمتطلِّبَة له في سيروراتِها التاريخية كافة، أي في كافة أشكال التواجد المجتمعي التي تتطلب إدارة وتنظيما، أي مشروعا سياسيا. وليست عالمية الفكرة قائمة في واقعة أنها تدعو إلى دولة عالمية تذيب كل البُنى المجتمعية القائمة والموجودة قسرا وقهرا وعنوة في طاحونتها وماكينتها، أو في أن حملَتَها وأنصارَها عملوا تاريخيا على تجسيد "الدولة العالمية" عنوةً، حتى عندما كانت أشكال التواجد المجتمعي غير مؤهلة، ولا هي مستعدة لاحتضان مشروع سياسي عالمي أو دولة عالمية، فضلوا وأضلوا، وحرفوا البوصلة وانحرفوا عنها.ولأن الدين السماوي الذي تجلى لنا عبر ثلاث محطات قمنا نحن معشر البشر بتجزئتها تَعَسُّفا، ولأن تلك المحطات الثلاث إذا وُضِعَت في سياقاتِها التاريخية الموضوعية، تؤشِّر لنا على الخطة الإلهية في إدارة كونه وفق نواميسه وسننه وقوانينه الني أودعها فيه منذ لحظة الخلق الأولى، فمن غير المعقول أن نختزلَ ذلك الدين، وتلك الخطة، في صِيَغٍ ومعادلات تعادي التاريخ ومكونات المجتمع في جانبهما القائم على السنن والنواميس والقوانين الإلهية ذاتِها، وإلا فإننا ندعي لهما – أي لتلك الخطة ولذلك الدين – عالميةً نقوم في حقها – أي في حق تلك العالمية – بأكبر عملية تزييف وتزوير، ونرتكب في حقها أيضا أبشع جريمة اختزال، تتمثل في دفعها باتجاه التحرك خارج إطار تلك القوانين والسنن والنواميس، التي لا عالمية لفكرة تقفز عليها وتتجاوزها ولا تتحرك في قلب مُخرجاتها، تماما مثلما كان الأمر مع التجارب المخبرية التي تفقد حقها في الشمول والتعميم إذا هي أهملت بعض عناصر الواقع المادي الطبيعي الذي تدعي أنها تعالجه وتتعاطى معه.ولأن شكل التواجد المجتمعي "عائلة"، "عشيرة"، "قبيلة"، "تجمع بدوي أو حضري أو زراعي"، "شعب"، "أمة عالمية".. إلخ، هو نسق مجتمعي يتشكل في سياق تاريخي تحكمه النواميس والسنن والقوانين، شأنه في تَشَكُّلِه وتكوُّنِه شأنَ كلِّ الظواهر الطبيعية والتاريخية التي تتشكَّل على هذا النحو، فليس من مكونات "العالمية" في أيِّ فكرة أو فلسفة أو دين.. إلخ، تحديد موقف أيديولوجي قائم على التقييم قبولا أو رفضا من أيٍّ من مستويات تواجد ذلك النسق المجتمعي في أيِّ مرحلة تاريخية. أي أن "العائلة"، و"العشيرة"، و"القبيلة"، و"التجمع البشري البدوي أو الحضري أو الزراعي"، و"الشعب"، و"الأمة العالمية".. إلخ، ولأنها – حتما – سيرورات لا تنشأ بقرار، ولا بفكرة يتم تبنيها في لحظة فارقة، ولا بكبسة زر أيديولوجية، ولا باعتناق دين أو فلسفة، أو بالتخلي عن أخرى، بل بمسيرة مديدة من التطور التفاعلي بين النسقين المشار إليهما في مطلع هذا المقال، فإن أي فكرة، دينا كانت أو فلسفة، يجب عليها وما كان عليها إلا أن تتعامل معها – أي مع تلك البُنى المجتمعية – بطرح آليات تتناسب مع احتياجات تنظيمها وإداراتها وكما هي، من حيث شكل التواجد المجتمعي، استنادا إلى آليات تجسيد قيمتي "الحرية" و"العدالة" داخليا وخارجيا كما مر معنا، بما يساعدها على استمرار التطور التفاعلي الإيجابي المنتج والتقدمي.النزعة الإمبراطورية هي نزعة سياسية توسعية معادية بطبيعتها لمتطلبات الواقع الموضوعي الاجتماعي التاريخي، فهي تقفز على متطلبات التطور التاريخي الناتج نتاجا مُحَتّما عن نواميس الوجود وسننه وقوانينه، وهو التطور التاريخي الذي يؤكد على أن الأفراد يشكلون العائلة التي يتنازل كلُّ فرد من أفرادها عن جزء من حريته ومصالحه لأجلها باعتبارها الكيان الأرقى من كيانه الخاص، والأولى بتحميله بعض مسؤولياته مقابل ذلك التنازل، وعلى أن العائلات تتطور لتشكلَ العشيرة التي تتنازل كل عائلة من العائلات التي تكونها عن شيء ما مثلما فعل الأفراد لأجل العائلة، وعلى أن العشائر تتطور فتشكل القبيلة ليحدث التنازل هنا أيضا عن شيء ما من قبل العشائر لأجل هذا الكيان المجتمعي الأكبر، وعلى أن القبائل تتطور إلى أن تشكل مجموعات بدوية أو حضرية أو زراعية، تربطها أنواع من العلاقات فرضتها علاقات البداوة أو الارتباطات الحضرية أو علاقات الزراعة، ليحدثَ الأمر نفسه، ولتتطور هذه المجموعات بدورها إلى مجموعات أكثر اتساعا وتحرُّرا من روابط الدم والعرق والنسب في تكوين أنماط العلاقات فيما بينها، إلى أن تصبَّ هذه المسيرة الطويلة من تطوُّر أشكال التواجد المجتمعي في بُنيةٍ أكثر رقيا هي "الشعب"، الذي سيتطور برفقة كافة الشعوب الأخرى إلى أن يتم تشكيل "الأمة العالمية" الواحدة في نهاية المطاف.. إلخ.نعم، إن النزعة الإمبراطورية هي نزعة سياسية توسعية معادية لمنطق التطور التاريخي في جانبه المتعلق بأشكال التنظيم والإدارة المجتمعية التي تناسب شكل التواجد المجتمعي القائم في مكان ما وفي زمان ما، لأجل دعمه – أي لأجل دعم ذلك الشكل من أشكال التواجد – في الاتجاه القادر على تجسيد قيمتي "الحرية" و"العدالة" داخليا وخارجيا، وفي اتجاه خلق الآليات الملائمة من التفاعل مع باقي الكيانات المجتمعية القائمة هنا وهناك، للدفع باتجاه مستوى أكثر رقيا وتطورا وتقدمية من أشكال التواجد تلك. ولهذه الأسباب كانت الإمبراطوريات عبر التاريخ هي الحواضن السياسية لإدارة الظلم والاستبداد والاستعباد وتلجيم التطور المعرفي اللازم والمفترض فيما لو تمت التطورات السياسية على نحوٍ يتناسب مع أشكال التواجد المجتمعي القائمة.الإمبراطوريات إذن هي طفرة تاريخية سياسية مسخ قامت على أكتاف مجموعات طموحة من أتباع الديانات والأفكار والمنتمين إلى أعراق معينة أَلَّهَت نفسَها أو مجدت أصولها العرقية أو أفكارها التي تحملها.. إلخ، لتطوي تحت هيمنتها أكبر قدر ممكن ومتاح من أشكال البُنى المجتمعية القائمة في أوسع مساحة جغرافية متاحة. إنها في المحصلة التعبير الرجعي التراجعي المعادي للتقدمية المفترضة في الشكل السياسي الملائم لأشكال التواجد المجتمعي في زمان ومكان معينين.إن البشرية بطبيعتها وبحكم النواميس والسنن والقوانين تسير في سيرورتها التطورية نحو أنضج وأرقى حالة من أشكال التواجد المجتمعي، وهي الأمة الإنسانية العالمية الواحدة التي لا نستطيع التنبؤ بشكل الإدارة والتنظيم اللازمين لها، عندما تصبح هي في ذاتها مطلبا إنسانيا حتَّمَتْه التطورات في أنساقِ أشكال التواجد المجتمعي على مستوى هذا الكوكب. ولكن هذه الحالة من التواجد المجتمعي لا ينتجها مشروع سياسي معين لا يتناسب معها، كما حاولت كل الإمبراطوريات أن تفعل على مدار التاريخ كله، بدءا بالإمبراطوريات القديمة، "فارسية"، "رومانية"، "يونانية"، "فرعونية"، "بابلية"، "آشورية"، "سومرية"، "عربية إسلامية".. إلخ، مرورا بإمبراطوريات الاستعمار الأوربي عشية انتهاء العصور الوسيطة، "هولندية"، "برتغالية"، "بلجيكية"، "فرنسية"، "بريطانية"، "إيطالية".. إلخ، وانتهاء بعصر الإمبراطورية الاستعمارية الإمبريالية الأميركية الراهنة..نقول.. إن "الأمة العالمية" لا ينتجها مشروع سياسي إمبراطوري لا يتناسب معها، وإنما هي تحتاج إلى مشروع سياسي يتطلبها وتتطلبه، مشروعٌ موجود في قلب احتياجاتها التي أنتجها التطور التاريخي الذي أوصل الإنسانية إلى استشعار الحاجة إليها، وتكون هي تعبير عن مكوناته كمشروع سياسي يعيد إنتاج قيمتي "الحرية" و"العدالة" في سياقيهما الداخلي والخارجي على نحوِ ما تتطلبه هذه "الأمة العالمية".الخلاصة إذن، هي أن الدولة بصفتها مشروعا سياسيا يجب – في كل مرحلة من مراحل التاريخ – أن تتجاوب مع متطلبات أشكال البُنى المجتمعية القائمة، والتي هي تعبيرات عن حتميات تطورية ومُخرجات سُنَنِيَّة وناموسية وقانونية لا معنى لمعاداتها سوى معاداة طبيعة الوجود، فهي لا تنطوي في ذاتها على معاني الحلال والحرام، والجائز وغير الجائز، والصح والخطأ.. إلخ. إن المشروع السياسي لفئة ما، تحمل فكرة ما، وتتحرك في واقع موضوعي ما، يجب أن يكون مشروعا سياسيا متجاوبا مع الاحتياجات الحقيقية التي ينبثق عنها الواقع التطوري التاريخي في البيئة الجغرافية والمجتمعية محل الفعل السياسي المُسْتهدف، لا أن تُفرضَ عليها – أي على تلك البيئة – أنماطٌ من البُنى السياسية أكبر من قدرتها على التقبُّل، أو معرقلة لمسيرة تطورها في الاتجاه الصحيح، مجتمعيا، وفكريا، ومعرفيا، وعلميا.. إلخ.إن عالمية الفكرة، دينا كانت تلك الفكرة أو فلسفة، تأتي من هذه النقطة المفصلية التي تمثل مربط الفرس الحقيقي في المسألة كلها. أيْ هي تأتي من قدرتها على أن تولِّدَ مُخْرَجاتِها التنظيمية والإدارية – أي مشروعها السياسي – على نحوٍ يتجاوب في كلِّ مرحلة من مراحل التاريخ التطوري للبُنى المجتمعية، وفي كلِّ جغرافيا بشرية، مع ما تتطلبه تلك البُنى في ذلك التاريخ وفي تلك الجغرافيا من مشاريع سياسيىة تكفل لها التوازن وتحقيق الحرية والعدالة، وتدفعها من ثمَّ نحو التطور إلى آفاقٍ أرحب، سواء فيهما كقيمتين إنسانيتين، أو في شكل التواجد المجتمعي الأكثر تقدمية من شكلها الراهن.إن الحقائق التاريخية، والقراءات الموضوعية للوحي في مسيرته الطويلة التي رافقت سيرورة الوعي الإنساني، تؤكدان على أن "الله" من خلال "النبوة" التي كان يجسِّدُها وحيُه، إذا كان يعمل في نسق "الفكرة" ذاتِها على تخفيف حدَّة النزعة الأسطورية في المعرفة الإنسانية، وعلى مساعدة العقل والعلم الإنسانيين على الالتزام تدريجيا بمتطلباتهما الموضوعية، إلى أن يتم التحرُّر كليا من الأسطورة ومخرجاتها في المعرفة، عبر إحالة المعرفة كلها إلى العقل والتجربة والاستغناء عما سواهما، عبر الاستغناء حتى عن الوحي نفسه كمصدر معرفي نسقي مفارق لم تكن له من مهمة سوى ملء منطقة فراغ راحت تتناقص وتتقلص إلى أن اختفت تماما، أو أنها ستختفي إن لم تكن قد اختفت بعد..نقول.. إن تلك الحقائق والقراءات إذا كانت تؤكد هذا المعنى في مجال "الفكرة"، فإنها هي ذاتها – أي تلك الحقائق والقراءات مرة أخرى – تؤكد على أن "الله" في نسق "الإدارة والتنظيم"، أي في نسق "المشروع السياسي"، كان يعمل على عرض الصيغة التي يمكنها التجاوب مع الواقع التاريخي القائم في "أشكال التواجد المجتمعي"، أو مع ذلك الواقع الذي أصبح قيد استكمال تشكله، فيتطلب ذلك المشروع السياسي تحديدا لضمان تجاوبه مع احتياجاته.عشية ظهور الحلقة الأخيرة من حلقات الوحي مُتَجّسِّدَة في آخر محطة من محطات الدين المُجَلِّي للخطة الإلهية ببعثة آخر الأنبياء والمرسلين "محمد بن عبد الله" عليه السلام، كانت الإمبراطوريات المتجاوزة للبُنى المجتمعية السائدة والقائمة، أو لتلك التي كانت قيد استكمال عمليات تشكُّلِها، موجودةً تُعَطِّل كلّ ما يُفترض أن يكون قائما وموجودا من مُخْرَجاتٍ لقيمتي "الحرية" و"العدالة" القادرة على إدارة وتنظيم مجتمعات كانت قد ارتقت ووصلت غالبيتها إلى مستوى "الشعوب"، التي كانت تحرص كل الإمبراطوريات المهيمنة آنذاك – مثل الرومان، والفرس، والبيزنطيون، وإمبراطوريات آسيا الوسطى، والهند.. إلخ – على تغييب بعدها "الشعوبي" هذا، بتذويبها وإهدارها داخل الحواضن الإمبراطورية المدمرة تلك، معرقلة كلَّ أفق لتطورها الطبيعي المُنْتِج والفاعل والإيجابي.لقد كانت المرحلة التي بُعِث في قلبها "محمد بن عبد الله" عليه السلام، مرحلة تتشكل فيها الشعوب بمعناها القومي، وتتكامل فيها القبائل لتتماهى مع تلك الظاهرة الشعوبية التي أصبحت كبريات القبائل، سواء كانت عربية أو غير عربية تتطلع إليها باعتبارها – أي الشعوب – شكل التواجد المجتمعي الأرقى والأكثر تعبيرا عن نمط العلاقات المجتمعية المجسِّد لمصالحها، بالشكل الذي كانت تلك المصالح قد بدأت تعبِّر عن نفسها في تلك المرحلة من خلاله. وبالتالي فقد كان من الطبيعي، بل من المنطقي أن يكون المشروع السياسي الذي تجسِّده الدولة التي خطَّط لإقامتها قائد تلك الثورة العالمية الكبرى "محمد بن عبد الله" رسول الله إلى العالم، مشروعا يتجاوب مع الإطار المجتمعي الذي تشكَّل أو الذي كان قيدَ التشكُّل إقليميا وعالميا. ولهذا السبب كان مشروعه السياسي مشروعا عمل على إسقاط الإمبراطوريات المعادية لطموحات الشعوب القومية التي تشكلت أو التي كانت تتشكل، من خلال إقامة الأمة القومية العربية النموذج، بتحريرها من مستعمريها ومحتليها والمهيمنين عليها ومعرقلي وحدتها ونهضتها.. إلخ، ومن ثمَّ إدارتها بمُخرجات قيمتي الحرية والعدالة كما تتطلبهما المرحلة، وليس من خلال مواجهتها – أي ليس من خلال مواجهة تلك الإمبراطوريات – بالعنف والحروب، لاستبدالها بإمبراطورية عربية رسالتها الإسلام، بسبب تعارض هذا المنهج ابتداء مع عالمية الإسلام التي تقضي بقدرته على توليد النظم وأنماط الإدارة القادرة على التجاوب مع واقعةِ أنَّ المرحلة هي مرحلة "قوميات شعوبية"، لا بقدرته على إسقاط إمبراطوريات بالمواجهة المسلحة، لاستبدالها بإمبراطورية عربية إسلامية بديلة، تقوم بالأمر نفسه، وتمارس الاحتلال والاستعمار والهيمنة نفسِها، ولكن تحت لافتات دينية وعرقية جديدة هي: "العرب" و"الإسلام"، بدل "الرومان" و"المسيحية"، أو بدل "فارس" و"المجوسية"، أو بدل "الهند" و"الهندوسية".. إلخ. فإذا كانت شعوب الأرض آنذاك تئن تحت وطاة الإمبراطوريات التي هيمنت عليها، فحالت بينها وبين الخروج من عنق زجاجة الظلم والاستبداد والطبقية والاستعباد والتخلف، بسبب أن المرحلة كانت تنفتح عن متطلب سياسي جديد يتمثل في ضرورة "الدولة القومية"، وليس "الدولة الإمبراطورية"، فهل يعقل أن يأتي الإسلام بعالمية فكرته التي لا تتجسَّدُ عالميتُها ابتداءً إلا من خلال قدرتها على التجاوب السياسي إدارة وتنظيما، مع شكل التواجد المجتمعي قبائلا وشعوبا، بالدرجة الأولى وفي المقام الأول، ليتحدى حامل هذه الرسالة وزعيم هذا المشروع الواقعَ نفسَه، وليخرجَ عن الناموس الكوني وعن سنن الطبيعة والوجود، ويعيدَ إنتاج "النظام الإمبراطوري العالمي" الذي كان يُعتبر سبب الأزمة العالمية التي تطلبت تدخل السماء بنبي ورسول بهذا الحجم وبهذا الدور وبهذه العظمة والعبقرية (؟!)بكل تأكيد لن يكون هذا معقولا ولا مقبولا. ولهذا السبب لا يمكن للمشروع السياسي للرسول محمد بن عبد الله في ضوء طبيعة المرحلة ومُخرجاتها التاريخية ومتطلباتها المجتمعية الموضوعية، إلا أن يكون مشروعا سياسيا قوميا عربيا، يهدف إلى إنشاء الدولة القومية العربية النموذج للعالم أجمع، لتكون نموذجيتها هي حاضنة نضالات الشعوب الأخرى لتتحرَّرَ مثل ما تحرَّر العرب من هيمنة الإمبراطوريات التي كانت تحكمهم وتحتلهم وتعرقل نهضتهم ورفعتهم وتقدمهم، وليبدأ العالم يتغير نحو الحالة الشعوبية القومية التي تعد المقدمة الأساس التي لا مفر منها لتحقيق كل من "التقدم الحضاري"، و"الأمة العالمية الواحدة"، ليكون ذلك هو التجسيد الحقيقي لمعنى الآية الكريمة التي تُعتبر دُرَّةَ التاج السياسي للرسالة الإسلامية، والتي ألقى بها العرب والمسلمون مع شديد الأسف إلى حاوية التاريخ بلا أيِّ فهم أو تقدير لمعناها ولدلالتها ولمُخرجاتها الحركية والسياسية على أرض الواقع، إنها آية سورة الحجرات: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم" (!!)… يتبع في المقال القادم، ما نثبت به وبالدليل التاريخي أن المشروع السياسي للرسول "محمد" عليه السلام، كان مشروعا "قوميا عربيا" ولم يكن مشروعا لإنشاء دولة عالمية، رغم عالمية رسالته من ناحية الفكرة المفسِّرَة للوجود، فلا تعارض بين هذه وتلك كما بينا في هذا المقال، بل إن عالمية الفكرة كما اتضح لنا، كانت تقتضي قومية المشروع السياسي المُجَسِّد لها، لأن العالمية لا تعني صهر العالم في بوتقة سياسية واحدة لا يحتملها مستواه التطوري المجتمعي، بل هي تعني القدرة على توليد الآليات التنظيمية والإدارية، أي السياسية، المتجاوبة مع متطلبات كلِّ مرحلة من مراحل التواجد الإنساني في كل زمان ومكان. ولما كانت مرحلة بعثة الرسول محمد عليه السلام، هي مرحلة تنفتح عن تشكُّل الشعوب بمعناها القومي، فما كان لمشروعه السياسي إلا أن يكون مشروعا قوميا شعوبيا في حاضنة فكرته العالمية، لتكون نموذجا يُحتذى لدى كلِّ شعوب الأرض (!!)