الــــغــــرفــــــــة
أصيل الشابي
السيارة تعبر بسرعة معكّرة سكون الليل متجاوزة قلب المدينة المضيء، المحلاّت مغلقة، والشوارع خالية والمغازة العامة التي اشترى له منها في آخر مرّة شورت سباحة تتراقص أمامه، آه كاد يصطدم بها من فرط السرعة، لم يكن الوقت مؤاتيا للتأمل .. اللعنة على التأملات المتوحشة .. كادت تفترسه.
أصبحت السيّارة أكثر اتزانا، ليس لأنه خفّض في السرعة، وإنّما لأنه جعلها تسير في وسط الطريق .. على الخط الأبيض الفاصل بين اليمين واليسار. المقهى حيث رآه آخر مرّة يتأرجح على يمينه ببلوره الأسود ومظلّته الضخمة التي يجلس تحتها الناس، مازال يتذكّر الشورت الأبيض والأسود الذي تلقّاه ضاحكا وهو يقول : ما هذا ؟ فأجابه : لنذهب معا إلى البحر، ثمّ ركبا السيّارة في دقائق وطارا إلى البحر، كان إلى جانبه يتحدّث ويبتسم رغم سرعته الجنونيّة، ما كان الموت ليخيفه مطلقا، لذلك اعتقد أنّه الرجل الأكثر شبها به.
وقفت السيارة أمام البناية، ترجّل بخفّة، ثمّ اندفع إلى النافذة، نظر إليه من البلور، كان ممددا على أريكة يقرا شيئا ما، على جانبيه كتب وسجائر وجريدة ولفافات ورق، ما كان عليه أن يدخن، ولا أن يكثر من القراءة التي لا داعي لها آنذاك، فكر في النقر على البلور، ولكنه سرعان ما تراجع عن الفكرة، أراد أن يقول له : هيا نسبح، تسَََََربت الكلمات فعلا من جسده، وها هو يضع الكتاب على الطاولة الصغيرة المحاذية له، ويتناول، للأسف، سيجارة ليست طبعا الأولى ولا الثانية، بعد أن أشعلها مشى بقامته الطويلة المنحنية قليلا و الملفوفة بلباس رياضي، وغاب .. غاب لحظات، ثم عاد إلى الحركة أمام عينيه بنفس الطريقة التي تتحرّك بها الأشياء في المساحة المرئية أمام كل واحد منّا.
كانت النافذة التي يراقب منها مقابلة للنافذة المقابلة تماما، وكان جاره ـ إن صحّ هذا اللقب ـ يضيء الصالة ويبعد الستارة من المسرح الصغير الذي يدخّن فوقه رجل يعرفه منذ مدّة ركب معه السيّارة، حينما كانت تسير بسرعة جنونيّة، ولم يحرّك ساكنا كأنّ حياته موضوعة خارج المخاوف، ثمّ عرف بالصدفة أنّ ذلك الشّخص هو جاره المقابل له الذي لا يبالي مطلقا بفخاخ العيون الكامنة في الظلام، فيزيح الستارة، ويعرض نفسه متجاوزا فكرة عروض الظل التي تقف لا مبالاة الآخرين عند حدودها البسيطة.
كان حاضرا بينهم في الحيّ المؤلّف من الطوابق المتلاصقة، أمام أربع نوافذ مواجهة بطريقة ما لنافذته على الأقل بطريقة استعراضية بسيطة، ربّما بطريقة سمكة سابحة في حوض شفّاف تغوص فيه العيون بيسر، كان الطقس حارا جدّا، ومع ذلك، ظلّ غير مبال بالحرارة التي لا تطاق، يقرأ بعض الكتب، حوله جرائد ومنفضة سجائر، لذلك زاد في سرعة السيّارة زيادة جنونية .. ليطرق بابه قبل بداية العرض في تلك الليلة، ويمدّه له الشورت المخطّط قائلا : لنذهب معا إلى البحر ! تخيّل ابتسامته لذلك العرض البسيط أكثر من كونه غريبا، فهو يحبّ العروض البسيطة، قال : سيكون ذلك فرصة ليشاهد ردّ فعل صاحب العروض، ولكن ما حصل هو أنّه قبل الهديّة بعد أن تأمّلها بلا مبالاة تقريبا، وشكر الوجه الذي رآه يداعب الموت بسيّارته كلّ ليلة، وانتهى اللّقاء انتهاء الومضة الإشهارية بين عرض وآخر.
عاد إلى نافذته كان في مواجهته يقرأ ويدخّن وهو ممدّد على أريكته، على جانبيه كتب وسجائر وجريدة ولفافات ورق، وكان هو معلّقا في الصمت، جسده يتصبّب عرقا من اثر الحرارة، وحينما غاب ذاك الذي في المقابل، كان يتصوّر مفاجأة صغيرة مع خروجه بعد ذلك.
قال له أحدهم، بينما كانت عيناه تبحثان عنه في المقهى، إنّه يكتب كثيرا هناك بالضبط تحت الشجرة الخضراء الطويلة المبهرجة في أعلاها بالأصفر، فاعتقد أنّه ربّما كان شاعرا من هؤلاء الشّعراء الكثيرين، الذين تعجّ بهم البلاد، الذين يدخّنون بجنون، ويغلقون على أنفسهم بأنفسهم في صناديق بلّوريّة من صنعهم .. ليتمكّن الناس من إبصارهم غارقين في حالاتهم المريبة، متلبّسين بتبجّحهم الفاضح .. وهكذا أصبح بحثه منصبا على الشاعر الذي يغلق على نفسه في الأماكن المفتوحة، هذا الذي يعرض نفسه بلا خوف، ويقبل هدية من رجل غريب يلاحقه ويترصّده لأيّام، على أمل أن يفتح باب بيته نازلا أو صاعدا، أو أن يعثر عليه تحت المظلّة الضخمة.
لم يعثر عليه في أي مكان، وهنا اعترف بالحقيقة التي طالما أنكرها، فليدرك، الآن، أنّه لم يره يوما لا تحت المظلّة ولا فوقها، ولم يجلسه إلى جانبه في السيارة، ولم يسمع عنه كلمة واحدة، ليعترف الآن أنه لم يسلّم له هديّة، ولم يسلّم له هديّة ؟ وأنّ كلّ ما هنالك أنّه فكّر باصطحابه إلى البحر هربا من الحرّ، ولكنّه لم يكلمّه مطلقا .. هكذا أفضل فالرجل الذي تراه ولا تراه، وتكلّمه ولا تكلّمه، وتبحث عنه فلا تجده، الرجل الذي لا يبالي بك، فيعلّقك في الفراغ، ويغضبك، ويجعلك تشعر بالتفاهة ينبغي نسيانه، رغم أنّه لا ينسى، وينبغي إنكار معرفته، رغم أنه لا ينكر.
لم يتفطّن كيف استطاع، بالضبط، أن يجلب انتباهه إلى أن أصبح يخصّص وقتا مهمّا لمراقبته، هل خصّص له وقتا ذا بال ؟ ليتطوّر الأمر بعد ذلك إلى نوع من الإدمان، فلقد وجد نفسه، فجأة، متعصّبا لرؤيته. يريد أن يراه عنوة برغبة صائد لن يعيقه عائق عن صيده، ولكن قبل ذلك لا بدّ أنّه فكّر، وإن بسرعة، في إنضاج تلك العلاقة المسمّاة صداقة.
كان يمكنه نسيان حكاية الغرفة المقابلة، وعوض أن يبدّد وقته، كان عليه أن يحمل حقيبة الظهر المجهّزة بكل ضروري، ويقصد البحر الممتدّ، الفسيح، المتهلّل، كما فعل أحيانا وكما يفعل غيره، إذ حينما ينجذب إلى الماء المتلاطم يعود لرأسه الصفاء وتصبح عمليّة التنفّس يسيرة، ممتعة، نوعا من الرياضة التي يلعب فيها داخل الجسد بالهواء، تماما مثل المزامير العازفة أو قصبات المغنّين. السفن البعيدة البعيدة، المتهادية تداعب خياله، الأصفر والأزرق يضيئان عقله يا للمتعة.
في حقيبة الظهر كلّ ما يلزم .. شورت السباحة، جهاز ترنزستور، لعبة الحلقات الممتعة التي يأخذها بين يديه ويشرع قي نفخها بالهواء، فتتحرّك الحلقات إلى فوق، ويقوم هو وقتها بإسقاطها على التوالي في وسط عمود رفيع معدّ لذلك، آه يا لتعاسة المحرومين! السفن تتراقص، تنزلق، تتمايل، الشاطئ كرنفال عجيب، الذين يعرضون أنفسهم كثيرون. أراد أن يأتي به هناك حيث يعرض كل واحد نفسه، ليعرض هو أيضا نفسه، فالإنسان كائن يعرض نفسه في الأصل أو كما يقال يعرض أفعاله مثل شجرة تعرض أغصانها المثقلة بالثمار والخضرة.
مدّ جسده على الرمال الناعمة في حفرة طويلة متذكّرا السمكة في صندوق الزجاج، وأخذ يدفن أعضاءه عضوا عضوا، بعضهم هناك في نقطة بعيدة ومرتفعة يصطاد أسماكا لا ترى، فقط رأسه بقي دالا على ما حوله، سابحا بين البحر والرمال الثقيلة وثلاث سفن لها صوت أسطوري مخيف.
كان الرجل الذي غلبت عليه التأمّلات إلى الحدّ الذي توهّم فيه نفسه محجوبة في مكان سفليّ في منطقة رمليّة على طريق تجاريّة عامرة، قد انشغل قليلا بتلك التحوّلات العجيبة، المنهمرة فوق رأسه. كلّ شيء يتحرّك من حوله ويصطدم بمجال النظر الخاصّ به، ثمّ أخذت الأشياء المتشظّية تقتحم جسده الموسوس، كانت الغرفة قد نزعت قناع البحر والعناصر، فرك عظام وجهه عظمة عظمة، أخذت العناصر تنخفض وتنخفض مخترقة حاجز البلّور والظلمة، ها هو يعود أخيرا ليواصل القراءة في نفس الغرفة المعدّة للجلوس، ثمّ بدأت التأمّلات تغفو بعد أن كانت السيّارة قد سارت بسرعة جنونيّة، كيف فاته النظر في العدّاد الملتهب ؟ ثمّ ها هي التأمّلات تفقد حيويّتها، وتلهث، وتتحوّل إلى ذرّات من الغيبوبة الحلوى الذائبة في دم المتطفّل المتأمّل، بينما صديقه قابع آنذاك، في منطقته الضعيفة، الساكنة يركّب مشاهد عرضه البسيط بنفس اللامبالاة وفي نفس الغرفة وعلى نفس المسرح، بلا مفاجآت .. بلا مفاجآت تستحقّ الذّكر.
( القدس العربي)