غالب الغول يرد على مقالة الدكتور صلاح الدوش على الرابط الآتي

http://adabjournal.uofk.edu/Salah%20Al%20Doush.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الأستاذ خشان الذي نقل إلينا الموضوع العروضي للدكتور صلاح الدوش ,كلية التربية جامعة الخرطوم . والذي قال عنه إنه أكثر من غيره مجالاً للتأمل والتعليق , وكان ذلك من الصواب حقاً , بالرغم من أن أبحاثي في العروض والنبر الشعري كانت أكثر عمقاً وأكثر تفصيلاً بالشكل النظري وبعض التطبيقات العملية , مع تقارب وجهات النظر بشكل ملموس , بين غالب الغول والدكتور صلاح الدوش في كثير من الفقرات الهامة , بما نقله عن الدكتور كمال أبو ذيب , الذي قدم إلينا, محاولات لخلق بديل لعروض الخليل , أو من حيث استنتاجه للنبر ومواقعه بشكل عشوائي لا يستند إلى حقيقة علمية عروضية أو موسيقية واضحة . وكنت قد تناولت محاولة كمال بالنقد في كتابي (( النظرية الحديثة للنبر الشعري )) عام 1997 م وقدمت كثيراً من المحاضرات والأبحاث حولها .
والآن استعرض بعض ما استوقفني من عبارات تستحق الرد , وتستحق الثناء أيضاً على الدكتور صلاح بما تفضل به من أقوال السابقين حول الإيقاع والموسيقى والوحدات الإيقاعية المتمثلة بالتفاعيل , لانتقل بعدها إلى ما استوقفني أيضاً من ملاحظات كان من الواجب إظهارها بالشرح والتوضيح .




نعم لقد تعرض الباحثون إلى العروض بالهجوم للتخلص من قيوده سواء أكانت قيود التفاعيل أو قيود الشعر العمودي بشكل عام والذي وصفوه بالشعر الممل والمعقد بكثرة ألقاب تفاعيله وزحافاته وعلله , دون أن يسمحوا لأنفسهم الغور فيما رمى إليه الخليل من هذه المصطلحات أو هذه التفاعيل التي تعتبر الوحدات الإيقاعية للشعر والموسيقى , ليصلوا إلى بحر واحد تتلون فيه القوافي وتتحد فيه البحور وتتعدد فيه الإيقاعات , وكانت محاولاتهم يائسة ليظل العروض كما هو بتفاعيله وموسيقاه , وإيقاعه .
يقول الدكتور صلاح :

(((((( أن الذائقة الموسيقية للشعر العربي قد ألزمت فاعلية الإبداع والنقد أن تتجذّر حول العناصر الموسيقية التراثية التي كشف عنها علما العروض والقافية متمثلة في التفعيلة العروضية وما يعتريها من زحافات وعلل،))))))
من هنا بدأ ا الدكتور صلاح حديثه الجميل حول ( العناصر الموسيقية (التراثية ) في العروض والقافية والمتمثلة بالتفاعيل وزحافاتها .
كلام جميل , ربط فيه الدكتور صلاح الموسيقا وعناصرها في العروض التي تتسق مع التفاعيل وزحافاتها .
ومن هنا علينا أن نتسائل :
ما هي العناصر الموسيقية ؟ , ألم يكن النبر الشعري الذي هو أساس الإيقاع وأحد مكونات الموسيقا الشعرية ؟ وأين يتحدد مكان النبر لكي يخلق لنا الرتابة الإيقاعية التي ينتظرها المتلقي ويحس بها قبل حدوثها ؟
ثم : هل الزحافات ومقاديرها الزمنية وعدد حروفها , مكافئة للتفاعيل السالمة من الزحاف باللفظ والإيقاع ؟ أي أن :
هل فاعلن خماسية الحروف وثلاثية الوزن الموسيقي , تكافىء فعلن المخبونة والتي هي رباعية الحروف وقد تلفظ على أنها ثنائية الوزن أو كأنها تفعيلة خببية ؟
وهل العناصر الموسيقية التراثية اختلفت مع مرور الزمن عن العناصر الموسيقية الحديثة ؟
سيأتي الجواب لاحقاً , في سياق الردود على الفقرات التي تفضل بها الدكتور صلاح .
ويقول الدكتور صلاح :

(((ولكن على الرغم من ذلك لا نجد للدرس العروضي مكانة في المجال النقدي سواء على مستوى التحليل التطبيقي أو التصنيف العلمي؛حيث يصنف العروض ضمن التخصص النحوي و اللغوي وليس النقد الأدبي..)))

نعم , صحيح ما يقوله الدكتور صلاح , ولكن ما سبب هذا ؟ ألم يعرف العروضيون بأن الشعر والغناء والموسيقى والرقص لها جميعاً عوامل مشتركة, والإيقاع أحد هذه العوامل المشتركة ؟
فما هو الإيقاع الشعري الموسيقي حسب نظرتهم . أهو الفوضى الفلسفية أم النظام والانتظام . وإذا رغبت أن تعرف شيئاً عن الإيقاع فعليك أخذ لمحات قليلة عنه في هذا الرابط .

http://www.rabitat-alwaha.net/moltaq...d.php?p=615144

وهل انفصال الشعر عن الموسيقى كان سبباً رئيساً لضياع مجال النقد . وهذا هو الصواب .
حيث أن كثيراً من الموسيقيين لا يتقنون تفاصيل العروض ونقده , وكثيراً من العروضيين يجهلون الفن الموسيقي , بينما ارتبط الشعر بالغناء والموسيقى منذ نشأته إلى ما هو عليه اليوم , ولم يكن العروض نحواً أو صرفاً محضاً , بل هو يجمع تحت جناحية بلاغة الكلمة وسلاسة اللفظ وجوهر المعنى وجرس الموسيقى , وإيقاع القصيدة , ولا أقول إيقاع الكلمة , لأن الكلمة اللغوية منفردة لا تحمل الإيقاع الموسيقى إلا إذا تكررت وتكررت لتبلغ قلب وشعور المتلقي , ولولا معرفة الخليل بالوحدات الإيقاعية وتفاعلها مع التفاعيل لما أحدث علم العروض .

ويذكر الدكتور ما يقوله الآخرون حول مفهوم الصورة الموسيقية فيقول :

(((البناء الموسيقي .... من الإيقاعات المعتمدة على النغمات ، والانسجام والتناظر ، التي تتجاوب مع النفوس ، متلقية ومنتجة ، وذلك من خلال عنصري التركيب والتكرار .))))
لكي نفهم العبارة السابقة فهماً كافياً علينا أن نعرف حدود الإيقاع وماهيته , ثم علينا أن نفرق بين المفهوم العام للموسيقى وبين المفهوم العام للإيقاع الموسيقي .
ولتوضيح العبارة السابقة أقول :
البناء الموسيقي قد يكون إيقاعي أو غير إيقاعى , فبعض زقزقة العصافير غير إيقاعية , وهديل الحمام إيقاعي , لأن النغمات المتجانسة عندما تتكرر فإنها تخلق الإيقاع , وإذا النغمات لم تتجانس بمقاديرها الزمنية كوحدات إيقاعية ثابتة , متعادلة الأوزان , فلا تعتبر موسيقى إيقاعية . وقد ذكر لنا الدكتور البيت الآتي لامرىء القيس :

(((الماء منهمر ، والشدّ منحدر والقصب مضطّمر، والمتن ملحوب )))

وهنا أقول :
ألم تلاحظ الانسجام التام بين (مستفعلن فعلن) الذي يقابلها اللفظ ( الماء منهمر )) وبين كافة الأجزاء الأخرى ؟ في بحر البسيط ؟
نعم : هذا هو الإيقاع بالتطبيق العملي , مع ملاحظة أن فعلن المخبونة , قد نقص من وحداتها الزمنية شيئاً طفيفاً , يمكن أن يعوض بمد ( الفاء ) من فعلن قليلاً من الزمن لتلحق بوزن ( فاعلن ), وهذا الزمن المضاف إليها لا يدركها المتلقي بتاتاً لأن الفتحة أخت الألف . وما وجد الزحاف إلا تيسيراً للشاعر لكي يختار الكلمة المناسبة في مكانها المناسب ليكون ذلك بمثابة رخصة له في استعمال الكلمات التي تتفق مع الزحافات التي أوجدها الخليل , ( فإن فعلن المخبونة ) تختلف عن ( فعلن الأحذ ) في ضرب الكامل , فلكل من اللقبين معناهما ووظيفتهما الإيقاعية . أي أن ضرب البسيط ( فعلن ) المخبونة تختلف لفظاً وإيقاعاً وزمناً عن ضرب الأحذ ( فعلن ) في الكامل .
وهذا الشرح هو إجابة لأول سؤال طرحته سابقاً .


ويقول الدكتور صلاح :

((((( فان الصورة الموسيقية في النقد الحديث تشمل جميع ما ذكر عن المكونات اللغوية الصوتية والتي هي أدخل في مفهوم الإيقاع وكذلك العناصر الموسيقية التي يمثلها الوزن العروضي من مقاطع وتفاعيل، وما يلحقها من تغييرات أثناء عملية النظم ، ولا يستقيم الفصل بين هذه المكونات ؛ إذ لكل منها أثره في تشكيل التجربة الشعرية وصياغة دلالات النص . فيكون ((الإيقاع والوزن )) معا هما العنصران اللذان يشكلان موسيقي الشعر العربي كما ارتضتها الذائقة العربية حتى يومنا.)))))

نلاحظ في الفقرة السابقة أن بعض الكلمات قد تربك الدارس , فما هي الصورة الموسيقية ؟ هل هي نفسها الصورة الإيقاعية , ؟ فإن قصد الموسيقى وتجاهل الإيقاع , فإن المكونات اللغوية الصوتية اللغوية كلها موسيقى ولا تهتم بالإيقاع , لأن اللغة تحتاج إلى نبر لغوي ولا تحتاج إلى نبر شعري , والنبر أحد مكونات الإيقاع الشعري الموسيقي , ليكون المدلول اللغوي أوضح وأنفع , ثم ليكون المدلول الإيقاعي الشعري أوضح وأنفع .
ثم ما هي العناصر الموسيقية التي يمثلها الوزن العروضي , وهل الوزن العروضي يختلف عن الوزن الإيقاعي الموسيقي ؟
والجواب , لا يوجد اختلاف البتة بين الوزنين فكلاهما ينبعث من الرتابة الإيقاعية , ما عدا أن الصوت البشري الشعري الإيقاعي له معنى , يتساوق مع الإيقاع الموسيقي الذي يتسق مع وزن الكلمات الشعرية , وإن أجمل تفسير للإيقاع ما ذكره ( مندور بقوله )

" أنه عبارة عن تكرار ظاهرة صوتية ما على ((مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة))
ويؤكد حازم القرطاجني ذلك بقوله :

((أن تكون المقادير المقفاة تتساوى في أزمنة متساوية لاتفاقها في عدد الحركات والسكنات والترتيب)) ".

ثم يؤكد الدكتور صلاح قائلاً :

((وهذا التعريف للوزن الشعري يقربنا – بحسب ارتباطه بالزمن - من مفهوم الإيقاع والذي هو مرتبط بالزمن في الشعر وكذلك في الموسيقا النظرية ))
وهذا تأكيد واضح بأن زمن التفاعيل ينبغي لها أن تكون على مقدار ثابت لخلق الإيقاع الثابت .
وهذا أيضاً ما يؤكده محمود حنفي والجاحظ بقولهما :
(( تتكون من عنصرين جوهريين: الصوت والزمن وهما اللحن و الإيقاع ". وخاصية الزمن في الوزن الشعري مع ارتباطها بالإيقاع تجعلنا نحكم بأن الوزن جزء لا يتجزأ من تجربة الشاعر الأمر الذي يمكننا كذلك من القول بأن الصورة الموسيقية هي نتاج التمازج والتفاعل التام بين الإيقاع والوزن وهذا ما أكده الجاحظ من قبل حين رأى أن الشعر العربي يمتاز بشيْ معجز فيه هو الوزن وتأسيسا علي هذه الأهمية للوزن يري أن الشعر لا يقبل الترجمة حيث يقول: [12] " فمتى حول تقطع نظمه ، وبطل وزنه ، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب ")))




.. فالجاحظ هنا يضفي علي الوزن أهمية تجعل منه جزءا من تجربة الشاعر له أثره في الإعجاز الشعري و فيما يسقطه الشعر في النفس من تعجيب . فيغدو العروض بهذه الأوزان الشعرية عنصرا من عناصر تشكيل الصورة الموسيقية للشعر العربي.
ب-أثر العروض في تشكيل الصورة الموسيقية للشعر العربي :
ليس من شك أن للوزن الشعري أثر جد عظيم في تكوين الصورة الموسيقية للقصيدة سواء أكانت من القصائد التقليدية أم قصائد التفعيلة .
وأما قول الدكتور صلاح . والذي نال إعجاب الأستاذ خشان حين لونها بالخط الأحمر , قائلاً :

((فالإيقاع أو موسيقا الأصوات والتي تقوم بمعزل عن الوزن الشعري لا تكفي في هذا الجانب رغم أنها تشكل تلك الحركة الداخلية التي لها عظيم الأثر في إعطاء العمل الشعري جوا إيحائيا وحيويا عظيما يعكس القدرة في التعبير والتلقي للشحن الانفعالية في تناغم تام مع سائر مكونات التجربة الشعرية . إلا أننا يجب أن نقدر أن هذه الموسيقي الداخلية لا يمكن لها أن تلعب هذا الدور دون أن تلتحم بتأثير الوزن أو التفعيلات المتفرعة عنه والتي ترفع من وتيرة الإحساس بالانتظام والتجاوب النغمي ))،

نلاحظ في العبارة السابقة تناقضاً واضحاً في مفهوم الإيقاع مع الوزن , هل الإيقاع منعزل عن الوزن ؟ أم أن الإيقاع هو الوزن بعينه .
وكان الدكتور ينفي في أول الفقرة , ثم يأتي بالصواب في أخرها , فهو القائل :
فالإيقاع أو الموسيقى والتي تقوم بمعزل عن الوزن .
وهنا ليس كل الموسيقى إيقاعية , بل كل الإيقاع موسيقا .
وهو ينفي أن يكون الإيقاع متحداً مع الوزن .
ثم يقول :
إننا يجب أن نقدر أن هذه الموسيقى الداخلية لا يمكن لها أن تلعب هذا الدور دون أن تلتحم بتأثير الوزن .
أي أن الموسيقى لها تأثير على الوزن . وهو يقصد الإيقاع .
ثم يقول :
الموسيقى ( ترفع من وتيرة الإحساس بالانتظام .. )
فما هو الانتظام ؟ أليس هو تتابع التفاعيل بما تحمله من إيقاع شعري موسيقي ؟
ويؤكد الدكتور بارتباط الشعر بالإيقاع من أقوال السالفين بقوله :

((((فيقول الجاحظ"وكتاب العروض من كتاب الموسيقا". ويذكر ياقوت الحموي عن الخليل أن:" معرفته بالموسيقا أحدثت له علم العروض"[21]. وكان الذوق العربي معيارا لدى الخليل أعمله في تأسيس نظريته في العروض العربي وفق منهجه الاستقرائي لهذا الشعر. ولذلك " فمن طبيعة الدرس العروضي أن يكون باحثا عن الموسقا وبأي شكل تستسيغها الأذن ويتقبلها الذوق الإيقاعي، وهذا ما حدث للدراسات العروضية في بداياتها عند الخليل، والأخفش الأوسط، وحماد الجوهري،والكسائي، وغيرهم، فكانت دراساتهم بحق تثري الدرس العروضي، وتتعمق في مواطنه وأغواره، فجاءت تأسيسا فإضافة فاستدراكا"[22]. " )))))
ومما لا شك فيه بأن الخليل لم يترك فراغاً في العروض ليستكمله الباحثون من بعده , فالإيقاع يحمل النبر , والموسيقى تحمل كل نغمات الشعر , ويؤكد الدكتور صلاح هذا القول بقوله :




(((فعمل الخليل وصفي كلي متكامل في حدود الشعر الذي وصلت إليه يده، يحاول أن يحيط بالطاقة الشعرية العربية المتفجرة في الإيقاع وتحليل مكونات هذا الإيقاع بأسلوب تطبيقي" ))))
ثم يقول الدكتور صلاح ناقداً أصحاب النظريات المستحدثة :

((((،وهي نظرة" قد ظلمت الدرس العروضي بالتوقيف حينا،أو طرحه جانبا حينا آخر، مع أن الدرس العروضي كانت سمته الاستقراء ثم الاستنتاج فالقاعدة؛ فهو في بدايته كان يبحث عن شخصيته بملاحقة النص الشعري كله، غير أنه حينما استقرّ ظلت الدراسات اللاحقة تدور في فلكه، ولم تحاول أن تصنع ما صنع هو في بدايته. فجاء نقاد محدثون اطرحوا الدرس العروضي جانبا، وأخذوا يبحثون عن بوادر لرؤى في أذهانهم، فكان ذلك والدراسة العروضية على طرفي نقيض"[24] .)))))

وكم هو نافع ومفيد فهم العبارة الآتية من أقوال ابن سينا عندما قال :

(((" المحاكاة – أو التخييل – هي العنصر الذي يميز الشعر عن النثر " .)))
ماذا يقصد بالمحاكاة , وماذا يقصد بالتخييل :
المحاكاة أن يتفق الإيقاع مع القول حرفاً بحرف , ووزناً بوزن .
والتخييل , هو أن يتخيل الشاعر المقدار الوزني للكلمة فيضع الكلمة الشعرية بمقدار الوزن والزمن الذي يتخيله الشاعر , وهذا ما يؤكده حازم القرطاجي بقوله :

(((الشعر كلام مخيل موزون مختص في كلام العرب بزيادة التقفية ")))
ويفسرها الدكتور صلاح بقوله:
(( فيجعل تخييل الأوزان من جملة التخيل الشعري بل يعقد لتخييل الوزن فصلا كاملا في كتابه ويقيم علي ضوء من ذلك مفاهيم نقدية سبق بها معاصريه )))
والفقرة الآتية تدلنا على صحة ما قاله الدكتور صلاح وما قاله المستشرقون أنفسهم :

(((ويبدو أن ما وراء ذلك من أسباب ما يمكن أن نرجعه إلى الطبيعة الصوتية للموسيقي والإيقاع في الشعر العربي من شدة ونبر وطول ومخارج الخ .... حيث تعجز الدراسات الغربية عن دقة تقديرها وتقييمها ومن ثم معالجتها ووصفها ، وقد اعترف بذلك المستشرقون أنفسهم[48] .
ويؤكد الدكتور صلاح أقوال ابن سينا في الفقرة الآتية :

((((وهذه حقيقة أثبتها ابن سينا من قبل عندما قال[70] : " والأمور التي تجعل القول مخيلا منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهي الوزن، ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول، ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول، ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم))))
أي أن للقول أزمنة لا يتجاوزها المنشد , بل يلتزم بها من أول القصيدة إلى آخرها , لأنها وحدات إيقاعية محددة بأزمانها التي تتعادل مع أزمان لفظ التفاعيل , التي لها حدود مرسومة لا تنفلت منها .

وهذا يعني أن النبر والإيقاع والموسيقى والنقد العروضي ليس من أفكار الغرب , بل هو نقد عربي نابع من لغة عربية .

ثم يقول الدكتور صلاح ناقداً أقوال المحدثين :

(((ولعل هذا ما يفسر لنا من ناحية ثانية – اهتمام بعض نقاد الشعر العربي الحديث بالموسيقي الداخلية للقصيدة أكثر من اهتمامهم بمفهوم الصورة الموسيقية العامة التي تشمل موسيقي الأوزان ، كما يفسر لنا تركيزهم داخل إطار الموسيقي الداخلية علي الجانب التعبيري للألفاظ وجرس الأصوات أكثر من اهتمامهم بالعلاقات التركيبية داخل إطار الوحدات الإيقاعية العروضية أعني التفاعيل وما يكتنفها من تشكلات بفعل الزحاف والعلة . ))))

وهنا نرى الدكتور صلاح يستعمل مصطلح ( الوحدات الإيقاعية العروضية , الذي يتماشى مع مصطلح موسيقى الأوزان, أي الأوزان الإيقاعية التي لا تنفصل عن الوزن الشعري , كما يرى ويؤكد الدكتور صلاح بأن مفهوم النبر الشعري عند محمد النويهي وكمال يعتبر جهد له قيمته فيقول :


((((والدكتور محمد النويهي، والدكتور،كمال أبوديب، فدرسوا ظاهرة النبر في الشعر العربي. ويعد ذلك – من وجهة نظر الباحث- جهدا عظيما في وصف جانب من الإيقاع الشعري و إيجاد أسس وقوانين لموسيقي الشعر، تصلح لتشكل أساسا جيدا لنقد الشعر العربي وتحليله. ))))
ولو عرف الدكتور واطلع على أبحاث غالب الغول لذكر الجهد الواضح في مفهوم النبر في كتبه الصادرة ومنها كتابه ( النظرية الحديثة في النبر الشعري) و(القواعد الحديثة في تطوير علم الشعر عام 2000) و(العارض لأوزان الأشعار عام 2005) . والذي يختلف في أبحاثه عن النبر عن مفهومه لدى ما ذكرهم من الباحثين .
ولقد اعتنى الدكتور صلاح في بحثه هذا بمفهوم النبر كما مر سابقاً ولم ينكره في الشعر كأحد فاعلياته في الإيقاع , وهو يدرك أيضاً أهمية الإيقاع الشعري في بناء الوزن لتشكيل البنية الشعرية العروضية , ويلخص ذلك بالقول الآتي :

(((الصوائتVowels والصوامت Consonantsمن ناحية . والنبر من ناحية ثانية .
الصوائت- هي الصوائت القصيرة (الحركات الثلاث)، والصوائت الطويلة ( حروف المد)، وهناك شبه الصائت. وهي ذات قيمة عظيمة في تشكيل الموسيقى الشعرية وتكوين الدلالة، عندما تتحد بغيرها من مكونات البنية الشعرية العروضية ؛ فإنها تلعب في الإيقاع الشعري دورا مهما؛ حيث" تعتبر الأساس لعنصر اللحن Melody في موسيقا الشعر"[54]، وتكمن أهميتها في أن " امتدادها الزمني أطول من امتداد الحروف الصامتة وذلك لما يتأتى فيها من مد الصوت، وأنه يمكن فيها من ذلك مالا يمكن في غيرها .. فهي التي تكون من الأصوات الإنسانية أنغاما ممتدة ومتواصلة ويمكن التقاطها بينما لا تزيد الصوامت عن كونها ضوضاء" [55]. كما أن التأثير الذي يمكن أن يتوافر فيها بفعل صفة المد نجده يوظف في التشكيل الزمني للإيقاع وما يترتب عليه من دلالات ، حينما تتكرر بشكل لافت في داخل الأبيات فتقدم لنا ما يمكن أن نصفه إحساسا بالامتداد والهدوء. مكونة ما يعرف بظاهرة التجانس " Assonance".))))))

وكم أعجبني قول الدكتور صلاح عندما يربط العروض بعلم الموسيقى في تأسيسه وارتباطه أيضاً بعلم الإيقاع في المعالجة .
فقال :


((((وأٍننا قد أشرنا من قبل إلى طبيعة المنهج العروضي عند الخليل ومعاصريه الذي ارتبط بعلم الموسيقا في تأسيسه، كما ارتبط بالإيقاع الشعري في المعالجة [56] )))

فما هي المعالجة الإيقاعية للشعر العربي , وبخاصة عندما تكلم عن الزحاف في عبارة سابقة ؟
إن أبحاثي منذ عام 1997 قد تناولت المعالجة الإيقاعية , أي معالجة النقص الذي يطرأ على التفاعيل ومعالجتها إيقاعياً للتماشي مع نغم الكلام وإيقاعه والبحر الذي يريده الشاعر , أي أن زحاف التفاعيل لا يمكن أن تتزن مع التفاعيل السالمة من الزحاف . ولقد كررتها مراراً أن التفعيلة مستفعلن في بحر الرجز أو أينما كانت , لا تتزن مع زحافها في التفعيلة ( متعلن ) لأن الأولى سباعية الأحرف ورباعية الوزن والثانية خماسية الأحرف ووزنها لا يعرف إلا عند موقعها في الشطر الشعري .
أي أن 7 لا تساوي 5
وأن الوزن الرباعي لا يساوي الوزن الثلاثي
وأشكر الأستاذ صلاح على هذه الفكرة النيرة التي وجدت في أم الكتب الصادرة لي .


وكم يؤسفني عندما لم يدرك الدكتور صلاح أبحاثي في النبر , بالرغم من أنه يحس به في نفسه وله أثر أيضاً فيقول :

((((أما النبر فليس من السهل تحديد الأثر الذي يؤديه في تشكيل موسيقى الشعر العربي، ومن ثم استخلاص قوانين وأسس عمله، على الرغم ما نجد في أنفسنا من أثر له فيما بين أيدينا من نصوص ، وقد اتضح لنا من قبل ، أن كل الذين قدموا فيه دراسات جادة من أمثال شكري محمد عياد ومحمد النويهي وكمال خير بك، وكمال أبو ديب وغيرهم لم يصلوا إلى تحديد مواضعه في الشعر تحديدا دقيقا حيث انتهي بهم الرأي في نهاية المطاف إلى القول بأن الشعر العربي شعر كمي وأن دور النبر فيه ضئيل، كما أن العلاقة بين الكم والنبر فيه بحاجة إلى دراسات عميقة . )))))
نعم صدقت يا دكتور صلاح بأن الكم والنبر يحتاج إلى دراسات عميقة ولقد قمنا بمثل هذه الدراسة ووضعنا النبر على كل تفعيلة خليلية , ولقد قال ( أ د عبد الحميد حمام ) , في مقدمته لكتابي النظرية الحديثة في النبر الشعري ما يلي :
((( أتاني السيد غالب الغول مستفسراً عن بعض المعلومات الموسيقية وهي المرة الأولى التي جمعتنا فلمست منه حماسة للبحث في وزن الشعر , كما رأيت منه معرفة واطلاعاً على جل ما صدر بشأن العروض من كتب وأبحاث , لقد حاول غالب الغول أن يبين نواقص النظريات الجديدة في وزن الشعر وركز على محاولة كمال أبو ديب خصوصاً الذي حاول إصلاح نظام الخليل وبين غالب الغول نقائص هذه المحاولة اعتماداً على نظام الخليل نفسه . كما استطاع الباحث أن يطبق نظريته / النبر الشعري / الموسيقية على الطريقة الخليلية في الوزن الشعري وبهذا بسط للعروضيين مفهوم النبر وحدد مواقعه على المقاطع اللفظية قصيرة كانت أم ممدودة , ويصدق غالب الغول حين يقول ( بأن الشاعر لا يحتاج إلى قوالب لصب التفعيلات , بل هو بحاجة لاختيار الإيقاع المناسب له وبالتالي يخرج كلمات قصيدته بعفوية )
وإن محاولة الباحث لإعادة جميع التفعيلات إلى تفعيلة واحدة أساسية , تعتبر خطوة جيدة في سبيل حل مشكلة النبر على الطريقة الخليلية وهو اتجاه نشجعه لأنه يتناسق مع المنهج الموسيقي في البحث عن أوزان الشعر العربية .)))

ولقد وقع الدكتور صلاح في مصيدة الزحافات وفاعليتها وعلاجها , بالرغم من مروره عليها سابقاً مؤيداً فاعليتها في انتظام الإيقاع بما أسماه ( المعالجة الإيقاعية ) . لكنه الآن يتراجع ليقول:

(((فمن المعلوم أن للزحافات أثر في الإيقاع الشعري بزيادة سرعة الوزن أو إبطائه فكان الشاعر إذا أكثر من الزحافات التي تسكن المتحركات هدأ الإيقاع وإذا استخدم الزحافات التي تحذف السواكن فتزيد نسبة عدد المتحركات إلى عدد السواكن، أصبح الوزن سريعا ،ولا تكون السرعة أو الهدوء إلا صدى لما تعتمل به النفس وتجري به التجربة.)))

لا أوافقك أيها الدكتور بهذه الفقرة , بل إن الأمر بعكس ما تقول تماماً , بأن الزحافات إن لفظت على حالها دون علاج زمني فهي مدمرة للإيقاع , ولقد تناولت قبل قليل تفعيلة ( مستفعلن ) وزحافها ( متعلن ) فلا يتساويان البتة , وأما قولك بأن الحركات أسرع من الأسباب , فهذا قول عجيب , ولو كان هذا القول صائباً لما قلنا عن ( متعلن ) في الرجز بالتفعيلة ( المخبولة ) لأنها ثقيلة اللفظ , عسرة الإيقاع . ولما قلنا في مفاعلن الكامل بالتفعيلة الموقوصة كالذي يسقط عن دابته فتندق عنقه , وهذا تشبيه لثقلها وزناً .
وكتاب الكافي للتبريزي يؤكد على أن الأسباب أسرع من الأوتاد ,
وسمي السريع سريعاً لكثرة أسابه وسرعتها في اللفظ .
ولا يعقل أبداً أن شطر البسيط الآتي يكافىء شطره الثاني وكلاهما من بحر واحد وهو الرجز :

متعلن متعلن متعلن @@@ مستفعلن مستفعلن مستفعلن

ولا يتكافىء الشطران إلا بعد المعالجة الإيقاعية للشطر الأول .
ثم لا يجوز في النظرية الإيقاعية أن أحد الشطرين أسرع من الآخر لفظاً وزمناً بل ينبغي لهما التكافؤ بالوزن والكم الزمني , كما لا يجوز المزج بين التفاعيل أو بين الإيقاعات في البحر الشعري الواحد , وتتميز القصائد بإيقاعاتها , حيث لكل قصيدة بحرها المستقل ولا تداخل بين البحور أو بين الإيقاعات للقصيدة الواحدة , فبحر الكامل بطيء في إيقاعه بفضل بعض أسبابه الثقيلة , والرجز سريع في إيقاعه لعدم وجود الأسباب الثقيلة , والسريع سريع في إيقاعه ويختلف عن الرجز بضروب أبياته التي تحمل إيقاع التفعيلة مفعولاتُ وزحافاتها وعللها .

أشكر الدكتور صلاح الدوش مع أجمل التحايا

غالب أحمد الغول