[FONT=Arial]بسم الله الرحمن الرحيم
T]
كتبها: فيصل الملّوحي[/FON
أعاد إليّ اليوم شريط مسجّل وبرنامج للأطفال ذكرى موضوع شغلني منذ أيّام الشباب، تنازع في أمره الخاصّة، وتجادل في فهمه العامّة. فهو موضوع قديم يتجدّد البحث فيه كلّما ظهر أمر يثيره.
الدعاء محيّر للمسلم، يدعو ويدعو، ويلحّ في الدعاء، منتظرا من الله الإجابة، وقد يموت فلا يحسّ لدعائه أثراً في الواقع.
فلماذا أكرّر موضوعاً قُتل بحثا ودراسة، وأثار ضغينة وأحقادا؟
غ±- كلّ ما في الأمرأن الموضوع يحتاج إلى تقريب من أفهام العامّة بالبعد عن ألفاظه العسيرة على الفهم، وعرضه في إيجاز شديد، دون أن يضطرّوا للعودة إلى مراجع مغقّدة ضخمة،رغم أن (التبسيط) والهروب من المصطلحات العلميّة يخرج الموضوع عن الجادّة، وأن ( الإيجاز ) يضيّع كثيرا من حقائق الموضوع، والأخطر من هذا كلّه أن يظنّ قارئه أنه امتلك ناصية الأمر. ولكنّ للضرورة أحكامهاّ!!
غ²-وأريد في موضوع كهذاأن يتيقّن المؤمن من شيء له شأنه،أن هذا الخلاف في مسائل العقيدة لا يظهر إلا عند التعمّق فيه، وأن كثيرا منه خلاف لفظيّ.
غ³ -والأبرز في الموضوع أن ما يحتاج إليه المسلم في هذه الموضوعات لتمام إيمانه لا يحتاج إلى هذه التفصيلات.
أولا: الشريط المسجّل: أراد مسلم أهمّه شأن الداعين أن يلفت انتباههم لعظم فائدة الدعوة التي قد تبدو نتيجتها لعين الناظر، وقد لا تظهر له، والحقيقة أن المؤمن الصادق في لجوئه إلى الله – تعالى – لا بد أن يتلقّى جوابا له على إحدى الصور:
غ± – أن يلبيَ الله – تعالى – دعوته، وينجز له ما رجاه فيراه رأي العين.
غ² –أو أن يردّ الله – تعالى – عنه بلوى، وهنا لا يظهر بوضوح أن دعوته أجيبت.
غ³- أو أن يدّخرها الله – تعالى – ليوم القيامة حسنات. وهنا كذلك لا يظهر بوضوح أن دعوته أجيبت.
أحبّ أخونا أن يجذب إليه المشاهدين، فصوّر الدعوة تنطلق من الداعي إلى السماء العليا، وتعود في الاحتمال الأول إنجازا مجسّداً لما رجاه.
أو تجابه في طريقها بلوى تنحطّ عليه فتصارعها، وتمنعها من إتمام نزولها، وإيقاع الأذى بالداعي.
أو يحتفظ بها الله وديعة عنده للداعي على صورة مكافأة و حسنات ترفع من شأنه يوم القيامة.
بهذا العمل ندعو الله لهذا الرجل أن يجزيَه خير الجزاء لأنه يحاول أن يحبّبهم بأسلوب الدعوة إلى الله – تعالى - و يقرّب الأمر للداعين ، ويثبّت في نفوسهم عظم نتيجتها سواء ظهرت لهم في الدنيا أم لا.
ثانياً: برنامج الأطفال الذي صوّر صفات الله– تعالى– من رحمة وعدل وجبروت وقدرة، في صور أطفال، ويتقدم طفل يمثّل القدرة مثلا لينزع أمرا عسيرا يتعذّر على الإنسان أن يفعله، وهكذا في كلّ صفة من الصفات.
وهم بهذاالبرنامج يقرّبون الفكرة من الأطفال،ويجعلونهم يؤمنون بها بالطريقة الشائقة المرغوبة عندهم.
المناقشة:
لا حياة للغة بدون أدب، ولا حياة لأمّة بدون فكر وعقيدة يسيّران حياتها، واللغة وعاء الفكر، والتلاقي بين الأدب والفكر أمر تحتّمه اللغة التي هي وسيلة التعبير عن الجانبين.
والتصوير أبرز ما يجمّل الأدب، ويتوسّل به الإنسان ليمزج روحه بهذا العالم البعيد عن واقع مؤلم أكثر الأحيان، وقد يغرق الأدب في تصوير يتنافى مع العقل والمنطق والفكر الذي يؤمن به الإنسان.
وقع مثل هذا التعبير في القرآن الكريم، واختلف في تأويله الخاصّة، وضاع في أمره العامّة.
أولا: قال الله – تعالى – في سورة الصافّات: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِغظ¦غ² إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَغظ¦غ³إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِغظ¦ظ¤طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ غظ¦غµ
قال الطبري في تفسيره: مَثَّلَ ذَلِكَ بِرُؤوسِ الشَّيَاطِين عَلَى نَحْو مَا قَدْ جَرَى بِهِ اِسْتِعْمَال الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ بَيْنهمْ وَذَلِكَ أَنَّ اِسْتِعْمَال النَّاس جَرَى بَيْنهمْ فِي مُبَالَغَتهمْ إِذَاأَرَادَ أَحَدهمْ الْمُبَالَغَة فِي تَقْبِيح الشَّيْء، قَالَ: كَأَنَّهُ شَيْطَان.
وقال القرطبيّ: يَعْنِي الشَّيَاطِين بِأَعْيَانِهِمْ شَبَّهَهَا بِرُؤوسِهِمْ لِقُبْحِهِاْ ، وَرُؤوس الشَّيَاطِين مُتَصَوَّر فِي النُّفُوس وَإِنْ كَانَ غَيْر مَرْئِيٍّ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلهمْ لِكُلِّ قَبِيح هُوَ كَصُورَةِ الشَّيْطَان، وَلِكُلِّ صُورَة حَسَنَة هِيَ كَصُورَةِ مَلَك . –
وقال البيضاويّ: كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشياطين: في تناهي القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك.
و قال الله – تعالى – في سورة هود: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ غ غ±غ°ظ¦ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُغغ±غ°غ· وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍغغ±غ°غ¸
و الخلود في اللغة أبدي، و السماوات والأرض تزولان يوم القيامة ولا يبقى لهما أثر. أليس في هذا التعبير تناقض؟! والجواب فيما قال الطبري في تفسيره: ويعني بقوله: ما دامت السموات والأرض: أبدا: وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، بمعنى أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار. فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم، فقال: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا.
والبيضاوي في تفسيره: خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما، فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل،
( متابعة كلام البيضاويّ: وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى}يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض {إبراهيمغظ¤غ¸ وإن أهل الآخرة لابد لهم من مظل– شيء يعلوهم، كل ما علاك فهو سماء – ومقل – شيء يحملهم – وبهذا لا يكون لمثالي هذا موضع في الاستشهاد) .
والخلاصة: أن ما تصوّره المخيّلة قد يتناقض مع العقل والعقيدة، فلا ننفي أحدهما، بل يتعايشان جنبا إلى جنب دون تداخل و لا تمازج.
وفي مثالنا من الشريط المسجّل جسّد منشئه– أثابه الله تعالى – الدعوة، فجعل لها كيانا يستطيع الغلبة به،وفي هذا انفصال بين هذه الدعوة والإرادة الإلهيّة،أي أنها تتمتع بقدرة ذاتية، وهذا ما يتنافى مع العقيدة، ولكننا نحملها على التمثيل كما مثّلنا ( رؤوس الشياطين، و ما دامت السموات والأرض).
والخطر ليس حين صدور هذا التمثيل، وإنّما يتضخّم الأمر خلال الزمن، تصوّر أن إنساناً مُجاب الدعوة، يقصده الناس ليدعوَ لهم، تكون البداية أن من يلبّي الدعاء هو الله – تعالى -، لكن ما يحدث خلال الزمن أن ينغيّر اعتقاد الناس فينسبون القدرة إلى الرجل الصالح نفسه. ولا تقل نحن في عصر ساد فيه العلم، فكم من عالم يتوجّه إلى المنجّمين في أمور محيّرة لا يجد لها جوابا في علمه!!
ثانياً: برنامج الأطفال الذي صوّر صفات الله– تعالى– من رحمة وعدل وجبروت وقدرة، في صور أطفال، ويتقدم طفل يمثّل القدرة مثلا لينزع أمرا عسيرا يتعذّر على الإنسان أن يفعله، وهكذا بقيّةالصفات.
( لن أتكلم هنا عن تشخيص الله أو صفاته بصور متحركة تراها الأعين، قريب من هذا تصوير الأنبياء بممثلين، فهذا ليس بحثنا هنا ).
هذا الانفصال قد يقبل أدبيّا، ولكنه قد يتحوّل خلال الزمن– في فكرالناس-إلى قدرات منفصلة، و هذا برأيي هو الخطر الرهيب، فما أظنّ آلهة اليونان إلا نوعاً من هذا التفكير.
ثالثا: مثل هذا صفات الله عزّ وجلّ: يد الله فوق أيديهم سورة الفتح، الآية غ±غ°. ، الرحمن على العرش استوى سورة طه الآية غµ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد سورة ق الآية غ±ظ¦.
لن أدخل في معترك الجدل في صفات الله – عزّ وجلّ -، وإنّما أبقى في حدود ما على المسلم اعتقاده، نحن لا ننفي أن لله يدا، ولكنه حتما ليست كيد المخلوق، ولن نعطيّها الوصف الماديّ المخلوق، وقس على هذا بقيّة الصفات، وإنّما أريد أن أؤكّد أولا على المعنى الذي يريد الله – عزّ وجلّ من تمثيله، فاليد فوق الأيدي تأييد ربّاني، و القرب من حبل الوريد يقصد به العلم والرحمة بالمؤمن و القدرة على الأخذ على يد الظالم..
أورد كلّ هذا لأثبت أننا نتعايش مع الأدب و نسيّر حياتنا بالعقيدة التي نؤمن بها، ولا نجد في هذا تناقضا ولو ظهر للناظرين، ولكنّ واجبنا أن نبقيَ على هذا التعايش والتمايز.
والله أعلم.