منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 10 من 10
  1. #1

    العابثون بالتاريخ!/عبد الله بن أحمد الفيفي


    (ظ©- شَرُّ التاريخ ما يُضحِك!)
    ظ¢ آذار (مارس) ظ¢ظ*ظ،ظ¥بقلم
    عبد الله بن أحمد الفيفي
    سترى من العجيب في كلِّ ذلك الذي تولَّى نشره (د. كمال الصليبي) أن حدود (إسرائيل) تقف عند الحدود السياسيَّة الراهنة بين السعوديَّة واليَمَن، وكأن هذه الحدود كانت موجودةً منذ أيَّام (بني إسرائيل) الأوّلين! فتأويلات الرجل تتأرجح في هذه المناطق داخل الحدود السعوديَّة جنوبًا، يكاد لا يتخطَّاها. والسبب واضح، وهو أنه إنما كان يعتمد على «المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة»، الذي أُعِدّ بإشراف الشيخ (حَمَد الجاسر)؛ وما صَدَّق أنْ وقعَ بين يديه. وعليه بنى استقراءه من الألف إلى الياء، ولا يبدو أنه يعرف من حقائق الأماكن التي يتناولها بالتأويل سواه. عدا أنه في كتابه الآخَر «خفايا التوراة»، ولمَّا أعياه العثور على بعض الأسماء في (عسير)، أخذ يفتِّش عنها في (اليَمَن).(1)
    أجل، لقد قَدَّم له ذلك المعجم موسوعة فسيفسائيَّة هائلة من الأسماء يستطيع من خلالها أن يُبحِر بين الحروف، ليتأوَّل كلّ شيء؛ فما من كلمة وردت في (التوراة)- لا أسماء الأماكن فقط- عَدِم لها نظيرًا في المعجم، وربما أكثر من نظير. حتى أسماء الكهنة، وخدم المعابد، والمغنِّين، والبوّابين، وعبيد سليمان، تحوَّلوا بين يديه إلى أماكن في جنوب شِبه الجزيرة العربيَّة.لم يَقُم بزيارة ما يصف من مَواطِن- رغم الادّعاء الكبير- وإلَّا فإن للقارئ أن يسأل: لِمَ ، إذن، ذَكَرَ أسماء لا وجود لها على الأرض أصلًا، وإنما لعلَّه قرأها مصحَّفة في المعجم أو مغلوطة؟ ولِمَ وَصَفَ أماكن بأوصاف غير حقيقيَّة؛ فصار منزلٌ متواضعٌ لديه قريةً كاملة، على سبيل المثال؟ أما كان عليه، قبل هذه المغامرة التأويليَّة الكُبرَى أن يتحقَّق من طبيعة الأماكن التي يتطرّق إليها، ومن أسمائها، وتواريخ نشوئها. ذلك ما لم يفعل حين ألَّفَ كتابه سنة 1984، ولم يفعله بعدئذٍ، خلال ربع قرنٍ من السنين، إلى أن توفّاه الله، في سبتمبر سنة 2011. فعلامَ يدلُّ ذلك الإهمال؟ أ يدلُّ على التحقيق، والبحث الجادّ عن الحقّ؟ أم هي المتاجرة التاريخيَّة، عِلْميَّةً وإعلاميَّةً وسياسيَّة؟! أ تراه رضي عن البحث والتحقيق بالضجَّة الإعلاميَّة، وبالشهرة التي حقَّقتها كتبه الغرائبيَّة؛ بما انطوت عليه من أبعاد دِينيَّة وسياسيَّة عالميَّة. بل إنه، لو شئنا التدقيق، لم يَقُم ببحثٍ جغرافيٍّ تاريخيٍّ، كما ينبغي لهذا الضرب من البحوث أن يكون، على الإطلاق، إنما هي الافتراضات، والتهويمات، وتقليب الحروف، فكًّا وتركيبًا، وهو راتع في بيروت، مبتغيًا جعل (الشام) (يَمَنًا)، بل (فلسطين ومِصْر ولبنان وسوريَّة والأردن والعراق) كلّها محشورة في منطقة أو اثنتين، جنوب غرب الجزيرة العربيَّة، هما: (جازان) و(عسير). لسان مجاهدته تلك: لقد أخطأ شعب الله المختار في ادِّعاءاته التاريخيَّة الشاميَّة؛ لأن (بني إسرائيل) كانوا عشيرة من العرب البائدة كانت تعيش في جزيرة العرب! وهو ما لم يُثبته، لا هو ولا غيره، ولم يَرِد عنه ما يُثبته قطّ في أيَّة وثيقةٍ تاريخيَّة أو غير تاريخيَّة.ربما يقول قائل: وهاهنا مربطُ فَرَسٍ دِينيٍّ، لا تقوى تمويهاتُ (الصليبي) على إخفائه، ولا نفيُه اللفظيُّ في مقدّمات كتبه على تعميته. مغزى ذلك الفَرَس، ولا غَبَشَ في مغزاه الباطن/ الظاهر: لِيُضرَب المسلمون باليهود، هناك في جنوب الجزيرة العربيَّة، ولتَخْل الأرض المقدَّسة في (فلسطين) للصليبيّين؛ فلا تاريخ لليهود ولا للمسلمين هنا بل هناك! والحقّ أن هذا اتّهام لا يصدُق على (كمال الصليبي)، مهما اختلفنا معه منهجيًّا. بدليل ما جاء في كتابه «البحث عن يسوع»، الذي لا يدلّ على نزوعٍ دِينيٍّ أو إديولوجيٍّ مُغرضٍ وراء أطروحته. ليس ذلك، إذن، ما يبدو أنه أُتي من قِبَله المؤلِّف، بمقدار ما أُتي من الهوس الهرمنيوطيقي الذي بلغَ به مبلغه، فأنساه أن التاريخ ليس بلوحةٍ سورياليَّةٍ في نهاية المآل، قابلةٍ لتعدّد القراءات بالمطلق، بل هو عِلْم، وهو حقائق المكان والزمان في المكان والزمان.ليس التاريخ بلوحةٍ سورياليَّةٍ، ولا بفيلمٍ من الخيال التاريخي، نشاهد فيه (يوسف) وأباه- حسب الإخراج (الصليبي)- يَسْرَحان غنمهما في (المجاردة)! وقد صُوِّرت (شمران) على أنها: (السامرة)، عاصمة مملكة (إسرائيل)! على الرغم من أن شمران اسم جَدٍّ لقبيلة معروفة، هو: (شمران بن يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن مذحج). وهو، إلى ذلك، جَدٌّ متأخِّرٌ نسبيًّا، لا يصلح لتلك البطولة التاريخيَّة العتيقة جِدًّا. وهو، في كلّ حال، اسم إنسان، لا اسم مكان، كما زعم الصليبي، ذاهبًا إلى أن (شمران) اسم مدينة بُنيت على هضبةٍ كانت لشخصٍ اسمه (شمر)، اشتُريت منه وأُقيمت عليها مدينة سُمِّيت (السامرة أو شمران).(2) يصمِّم هذه «الديكورات» لمسرح الأحداث في فيلمه المبتكر لسببٍ مكشوف؛ هو أنْ لا استقامة لافتراضاته دون ذلك التخيُّل المجنَّح، الذي هو والكذب سواء. أمَّا (أورشليم- القدس)، فصدِّق أو لا تصدِّق أنها بكلّ بساطةٍ: (آل شريم- بالنماص)! وهو يظنّ هاهنا أن لا أحد يعرف (آل شريم) سواه، وأن لا أحد سيُنكر عليه تسويق اسمهم على أنه اسم مكان أيضًا، كاسم شمران من قَبل. فأيُّ استخفافٍ بالعقول والتاريخ بعد هذا؟! فما دامت في الاسم حروف (الراء والشين واللام والياء والميم) فهو: (أورشليم)، «ولا بُدّ»! وهذا يعني أن جَدَّ (آل شريم)- وهم فخذٌ صغيرٌ من قبيلة، متأخِّر النشوء والتسمية- كان هناك منذ فجر التاريخ؛ فهو من (بني إسرائيل) من (العرب البائدة)، وعشيرته، منذ ذلك الفجر إلى اليوم، ظلَّت تُسَمَّى (آل شريم)! لقد تأبَّدوا، ما شاء الله تبارك الله!، في المكان نفسه، منذ ما قبل نزول (التوراة) بين ظهرانيهم، على (موسى العسيري، عليه السلام)! أي أنهم ما برحوا هناك منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، خالدين مخلَّدين خلود السروات! كانوا فخذًا، وظلوا فخذًا، وما زالوا فخذًا، لم يزيدوا ولم ينقصوا، ولم يرحلوا، ولم يتزحزحوا، ولم يتغيَّروا، ولم يتبدَّلوا! والدليل: (راء، شين، لام، ياء، ميم)!من وجهٍ آخر في خوارق (آل شريم)- بحسب الإخراج (الصليبي)- أنهم، مع استمرارهم باسمهم التاريخي هذا على مرّ العصور، استمرُّوا محتكرين مدينة (أورشليم القدس) الحقيقيَّة، التي تعود إلى اسم جَدِّهم المرحوم (شريم)! ولفرط دهائهم- الخارق لكلّ التواريخ والحقائق والنواميس- مَحَوا الذاكرة البشريَّة عن بَكرة أبيها وجَدِّها، عِبريَّة وعربيَّة وغير عِبريَّة وعربيَّة، بما في ذلك ذاكرتهم هم، فاستطاعوا بذلك أن يتكتَّموا طيلة السنين والقرون على هذا السرِّ الخطير، الذي لم يطمثه قبل (الصليبي) إنسٌ ولا جان! وإنهم لفي (أورشليم النماص)- بل إنهم لفي أنفسهم؛ فهم أورشليم نفسها، لا فرق هاهنا بين المكان والمكين- إذ كشف غطاءهم الصليبي أخيرًا وعرَّى لعبتهم الماكرة في نهايات القرن العشرين! فسبحان مَن يُمهل ولا يُهمل.. وشَرُّ التاريخ ما يُضحِك!وإنه ليزعم- من حصافته الاحتجاجيَّة- أن الجامعين لأسفار (التوراة) والمترجمين والمحقّقين في بلاد (بابل) بعد السبي، ولبُعد الزمن واختلاف البيئة لم تكن لديهم المعرفة الجغرافيَّة بالبيئة التي وُضعت فيها نصوص التوراة!(3) أ فيُعقل هذا؟ أ يُعقل أن يجهل هؤلاء الكتبة أين كانت أرض أولئك المسبيّين؟ أ يُسلِّم بهذا عاقل، ولاسيما حين يعلم أن الجامعين والمحقّقين والمترجمين هم من هؤلاء المسبيّين أنفسهم، أو من نسلهم، أو من أتباع ديانتهم، والمنتمين إلى تاريخهم. ثمّ بأيّ خيالٍ خرافيٍّ يسبح في سحاب التنظير يُتصوَّر غياب أيّ معلومةٍ عن ذلك الحدث التاريخي العظيم من تدمير (نوبخذنصر) مملكة (بني إسرائيل) العظيمة، وعن مكانه ومكانها الذي كانا فيه؟ أ هي مملكة عظيمة فحسب؟ بل هي الأعظم تاريخيًّا، حسب وصف الكتابَين المقدّسين: التوراة والقرآن. أ وترى كان الفاصل الزمني بين ذلك الحدث التاريخي المفصلي وبين جمع التوراة طويلًا جدًّا إلى درجةٍ انطمست بسببها الأخبار عن مكان هؤلاء، وعن تاريخ مملكتهم، وعن علاقاتهم بمملكة مِصْر وغير مملكة مِصْر؟! بل ليس هذا ما حدث من آفة النسيان المطبق الذي لم يسبق له مثيل ولم يلحقه مثيل فحسب، بل حدث الغلط أيضًا بنسبة ذلك التاريخ إلى بلدان أخرى بعيدة ومواطن أخرى نائية.
    كلّ هذا لا يُعقل عند التأمّل، ولا يستقيم القول بوقوعه، مهما بلغ استخفافنا بالقدماء، وغالينا في تصوُّر الجهل عنهم والغفلة فيهم، ونعتناهم بالبدائيَّة في أدواتهم المعرفيَّة والتاريخيَّة. [للنقاش بقية].||
    (1) (1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 29.(2) م.ن، 29- 30.(3) (1347هـ)، التيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، ، 179- 180.* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «شَرُّ التاريخ ما يُضحِك!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 24 فبراير 2015، ص41].
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  2. #2


    الحلقة 3
    إن بوسع الباحث أن يجد في أسماء المَواطن في شِبه الجزيرة العربيَّة موسوعةً من الأسماء تكاد لا تنتهي. وليس المعيار بوجود الحروف والأسماء هنا أو هناك لتحديد مسارح الأحداث التاريخيَّة. ذلك أن أسماء المواضع كأسماء الناس تتكرَّر كثيرًا وتتشابه. ومن طبيعة الشعوب البدائيَّة أن تستدلّ بالتسميات لا بالجهات، ولاسيما في التضاريس الجبليَّة. ثم هي إلى ذلك تحافظ على تلك الأسماء على نحوٍ لا مثيل له في البيئات الحضريَّة، وتُراكم ذلك التراث عبر الأزمان، وتحمله معها حين تترحل من مكان إلى مكان. فيتشكَّل من ذلك معجم غنيّ من الأسماء. وهي أسماء قد تُطلَق اعتباطًا لتمييز المكان، أو تعبيرًا شاعريًّا عن طبيعته أو عن شكله، أو لحوادث مرَّت به، أو أشخاص كانت لهم به علاقة. ومع ذلك، فإنه من المستبعَد، في أيّ مكان، أن تبقى معظم الأسماء متوارثةً لا تتغير لمئات السنين، فضلًا عن ألوفها. وقل مثل هذا، بل أكثر من هذا، عن أسماء القبائل والعشائر والأُسَر. وغريب أن يكون مؤرِّخ (ككمال الصليبي) فاقدًا حِسَّه التاريخي، فيفترض أن فرع قبيلة كان قائمًا بالاسم نفسه، مذ ما قبل التاريخ، أي منذ عهد النبي (إبراهيم) وذريّته، إلى يومنا هذا. غير أن الصليبي ظلّ يفترض ذلك؛ فإذا وجد اسمًا شُبِّه له باسمٍ توراتيٍّ، افترض أنه هو، دون أن يسأل نفسه: لِمَ سُمِّي هذا المكان بهذا الاسم؟ وفي أيّ تاريخٍ حَدَثَ ذلك؟ من هذا، مثلًا، أنه ينسب (بني هاجِر)، في شرق الجزيرة العربيَّة، القبيلة العبيديَّة القحطانيَّة، إلى (هاجَر، أُمّ إسماعيل بن إبراهيم). مع أن بني هاجِر قبيلة قحطانية، وإنما جاء لقب هاجِر، كما يفيد أبناء هذه القبيلة، من لقب جدّهم (منصور بن الضيغم العبيدي)؛ لأنه هَجَرَ رَبْعَه من (بني الضيغم) هؤلاء. وهاجِر هذا عاش في العصر الإسلامي. فما علاقة هذا اللقب بهاجَر زوج إبراهيم؟! كالعادة، العلاقة: (هاء، جيم، راء)!
    وهذا هو نهج الصليبي في الأسماء وغير الأسماء. من ذلك كذلك أنه يرى أن (يونان/ يونس) كان نبيًّا من (عُمان). وبعد أن ساق قِصَّته- مشيرًا إلى أن فكرة (الحوت) الذي التقمه إنما نشأت عن فهمٍ مغلوطٍ لعبارة "بطن شءول"، في صلاة يونس، التي تعني بطن وادٍ اسمه "شؤول"، (=وادي سال، في المنطقة الشرقيَّة من عُمان)، أو لعلّها، كما قال، مقتبسة عن خرافة هنديَّة، فضلًا عن أن العِلم قد أثبت استحالة حياة إنسان في جوف حوتٍ لأيّ فترة زمنيّة(1)- انتهى إلى السؤال: هل كان يونس عِبْريًّا؟ فاستشهد باستعمال لَهَجيٍّ اليوم في منطقة الخليج، وهو قول الناس عن المسافر بحرًا: إنه "عِبْريّ". فزعم أن يونس إنما استعمل الكلمة بهذا المعنى!(2) وبذا فإن يونس لم يكن عُمانيًّا فحسب، بل كان أيضًا يحكي اللهجة الخليجيَّة الدارجة اليوم!
    إذن، كان على الصليبي، أن يمضي قُدُمًا في استقرائه واستدلالاته العجيبة؛ إذ يكاد كل حَجَرٍ- في جبال (فَيْفاء)، على سبيل المثال كما أوضحنا في المقال السابق- يحمل اسمًا معيَّنًا، يمكن أن نجد له شَبَهًا باسمٍ تاريخيٍّ ما من العالم! وعلى هذا، لو استقصى صاحبنا واتبع منهاجه، فسيقلب وجه التاريخ والجغرافيا معًا!
    إن ما قدَّمه الصليبي لا يعدو التماس أسماء أماكن تحمل حروف أسماء واردة في التوراة، تخلب لُبَّ من يطالعها باديَ الرأي، ولا سيما مع قدرة الرجل على العرض المثير الموهِم، حتى إذا تفحّصتَها، وسعيتَ إلى التحقُّق من صحّتها، ومن جدارة الاستناد عليها في الاستدلال، وسألتَ عن تفرُّد البُقعة الجغرافيَّة التي نُسِب إليها ما وَرَدَ في التوراة بوجود أمثال تلك الأسماء، تبدَّت لك هشاشة ما بنَى عليه بنيانه، الأشبه بقصيدةٍ طريفةٍ منه ببحثٍ عِلْميٍّ منهجيٍّ جادّ. ولقد كان رائدَ هذا الهراء، الذي فتح شهيَّة آخرين انبثقوا من عباءة تهويماته تلك في كتبٍ شبيهة، سنقف عليها لاحقًا. غاية الأمر- كما يقول الكاتب (أ.د/عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي)، في مقاله "المؤرِّخ حين يفقد حِسَّه التاريخيّ!"، صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 24 ديسمبر 2014، ص36- أن الرجل وقع على ثروةٍ من الأسماء تتيح له أن ينقل الأسماء من (فلسطين) إلى جنوب غرب الجزيرة العربيّة دفعةً واحدة. إلى درجة أنه كان يجد أحيانًا أكثر من اسمٍ واحدٍ في غير ما مكان، فيحار أيّها يختار، هذا أو ذاك أو ذلك. بل إنه قد استغلّ تلك الثروة من الأسماء في ربطها بمفردات لغويَّة لا علاقة لها بأسماء الأماكن؛ فصار يلتمس لكلّ مفردةٍ توراتيَّةٍ مقابلًا في أسماء الأماكن. مثال ذلك قوله إن المِصْريّين القدماء كانوا يعتقدون أن لكل إنسان ذاتًا قرينة هي "صورته" أو "شكله"، كانوا يسمّونها: "كا". ثم ذهب إلى أن اللفظة المِصْريّة القديمة هذه ما زالت موجودة في غرب الجزيرة العربيَّة في أسماء أماكن كـ"القاو"، و"القاوة"!(3) فما علاقة تلك العقيدة بأسماء تلك الأماكن؟ إنه معجم لغوي من الأسماء وَجَدَ في حروفه ما شاء، جغرافيًّا وغير جغرافي. ولو أنه تأمّل في الأمر، لأمكن أن يكون أقربَ إلى التصوّر المعقول افتراضُ أن أسماء المَواطن المذكورة في التوراة هي مما هاجر إلى فلسطين من الأسماء مع (اليبوسيّين) المهاجرين إلى فلسطين من جنوب شِبه الجزيرة العربيَّة، فسمَّوا مستوطناتهم الجديدة هناك بأسماء مَواطنهم العتيقة. ولا يَبعُد أن تتقارب أسماء الأماكن وتتراتب على النحو نفسه هنا وهناك؛ لأنهم يُسمّون المَواطن الجديدة حنينًا إلى دارهم الأُمّ، محاكين هذه بتلك، لا في التسمية فحسب، بل في الترتيب الطبوغرافي أحيانًا. وها قد رأينا في المقال السابق عيِّنة دالَّة ممّا وردَ في سِفرين من التوراة، جميعها متجاورة بالترتيب نفسه في فَيْفاء. ثم اندثرت بعض تلك الأسماء الجديدة في فلسطين، ولم يَعُد لها ذِكرٌ اليوم؛ لأنها مستعارة من جهة، ومن جهةٍ أخرى لأن من طبيعة الحواضر التحوّل المستمرّ والتبدّل في كلّ شيء- بما في ذلك البلدات والأسماء- بخلاف غير الحواضر، على حين بقيت الأسماء في قرى جنوب شِبه الجزيرة العربيَّة وغربها وفي بواديها وأريافها. وبخاصة أن مملكة (إسرائيل) لم تَقُم لها قائمة ذات وزنٍ تاريخيّ في بلدات فلسطين منذ تدميرها على يد (نبوخذنصر) وسبي سادتها إلى (بابل) في القرن السادس قبل الميلاد. وتلاشت اللغة العبريَّة حتى ماتت، لتحلّ محلّها الآراميَّة. ثم تعاقبت على تلك الأرض الشعوبُ والأعراق، والأُممُ والحضارات. فكان طبيعيًّا أن تندرس الأسماء، أو أن يندرس كثيرٌ منها، أو أن يُستبدل بها سواها. فكيف خُيِّلت إلى الصليبي ضرورةُ أن يعثر عليها اليوم كما وردت في الكتاب المقدّس، وإلّا رأى أن التاريخ ليس هناك بل في مكانٍ آخر؟! أيظنّ هذا مؤرِّخٌ أو جغرافيٌّ يرعى طبائع التحوّلات التاريخيَّة والحضاريَّة؟! لأجل هذا كلّه كان من الحتميّ جدًّا أن لن يجد كثيرًا من الأسماء التوراتيَّة واضحة اليوم، لا في فلسطين، ولا في مصر، ولا في سيناء، كما يمكن أن يجد مشابهات لها في الجزيرة العربية. فهو حتى لو بحث عن الأسماء الواردة في التاريخ المِصْري القديم، الثابت من خلال النقوش والكتابات، لوجد معظمها، إنْ لم تكن كلَّها، قد اندرست، وبُدِّلت تبديلًا.
    إن الظاهرة التي عوّل عليها صاحبنا ليست بخاصة بتاريخ العبرانيّين، لنستدلّ منها على أن المكان غير المكان(4)، بل هذه ظاهرة لغويَّة عامَّة معروفة، وغير متعلّقة بأسماء المَواطن وحدها. وما زالت لهجات جنوب الجزيرة العربيَّة محافظة على موروث لغوي موغل في القِدَم، انقرض من غيرها، حتى من العربيَّة الفصحى، ومن أجزاء أخرى من الجزيرة العربيّة نفسها؛ للأسباب الحضاريَّة المُلمَح إليها. لا جديد، إذن، في القول إن شِبه الجزيرة العربيَّة كانت معدِن الأُمم القديمة، المصطلَح على تسميتها بالأُمم الساميَّة، ولا جديد في القول إنها حافظت على موادّ لغويَّة وأسماء تاريخيّة وآثار معرفيّة بادت من غيرها. أمّا المسارعة إلى عزو الحِقَب التاريخيَّة، والتفرّعات الإثنيَّة المتعاقبة إلى غير مَواطنها، والزعم أنها كانت تعيش في الجزيرة العربيَّة، لمجرد وجود تشابهٍ في أسماء المواضع- وإن أُضيف إليه تجاورها بالترتيب الوارد في التوراة- فغُلُوٌّ في الافتراض، أقلّ ما يوصف به أنه لا يقوم على برهانٍ عِلْميٍّ كافٍ للإقناع. [للمناقشة بقيّة].|| أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
    (1) والقضيَّة هنا ليست بقضيّة عِلْميّة، للبحث عن إمكانيّتها عِلْميًّا، بل هي قضيّة إعجازيّة خارقة للطبيعة، لمَن شاء أن يؤمن. وإلّا فأَنَّى للعِلْم أن يُثبت ما هو أعظم منها، كخروج ناقةٍ من صخرةٍ، مثلًا؟! ولولا هذا لما عاد لمفهوم المعجزة معنى.
    (2) انظر: الصليبي، كمال، (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 287- 000.
    (3) انظر: م.ن، 175.
    (4) انظر: م.ن، 249.

    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  3. #3
    العابثون بالتاريخ!
    الحلقة 1

    ظ،ظ¤ كانون الثاني (يناير) بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي
    (5- عسير/ سعير، وشهادة التراث العربي)
    (عسير) هي جبل «سعير» التوراتي، حسب زعم (كمال الصليبي)! وهو بهذا يُلغي العربيَّة في تلك البلاد، وتاريخ دلالاتها، وأصول اشتقاقاتها، لصالح العبريَّة، من أجل توطينها في عسير قسرًا. كأن عسيرًا لم يقطنها عرب، ولم يسمِّها عرب. إنه لا يكتفي بتلفيق الأسماء التوراتيَّة، بل يحاول العبث بالعربيَّة نفسها كي تصبح عبريَّة، فتستقيم له دعاواه. ولذا تُصبح «عسير» «سعيرًا»؛ لأنها لو بقيت «عسيرًا»، كما هي، لكانت عربيَّة، ولكان معناها واضحًا، وصفًا للمكان بأنه وَعِرٌ عسير، على السالكين غير يسير. وهذا عسيرٌ قبوله على الصليبي أيضًا؛ لأن الإقرار بعروبة المكان، وعروبة أهله، وعروبة لغته، وتسمياته وصفاته، لا يتساوق ونسبته إلى (بني إسرائيل) وإلى لغتهم وتاريخهم وكتابهم. وهذا هو ما فعله في التعامل مع معنى «السَّراة» كذلك، ليحرِّف معناها الاشتقاقي العربي إلى «إسرائيل» تارةً، وإلى «سارة» زوج (إبراهيم) تارةً أخرى. على أن تسمية (عسير) بهذا الاسم، أو وصفها بهذا الوصف، لا نقف عليه في شِعر العرب القديم، الجاهلي والإسلامي. ما يشير إلى أنه اسم غير قديم الاستعمال، حتى في تاريخ العرب، فضلًا عن قِدَمه في تاريخ البشرية. وأوَّل من أشار إلى عسير، بهذا الاسم، من المراجع بين أيدينا: (الهمداني، -345هـ تقريبًا= 956م) في كتابه «صفة جزيرة العرب». فهذه مجازفة تاريخيَّة إلى المجازفة اللغويَّة في ادّعاء (الصليبي) بعبرانيَّة الاسم. إذن، إنْ لم تسعفه الأسماء العربيَّة والكلمات الشبيهة بمفردات التوراة، من أجل نقل (بني إسرائيل) وتاريخهم إلى (الحجاز) وجنوب غرب الجزيرة، فلتُعَبْرَن العربيَّة نفسها، وليُقَل إنها في الأصل مسخٌ من اللغة العبريَّة. ومثل هذا يفعل حينما لا تستقيم خارطته المفترضة مع الروايات التوراتيَّة؛ فما لا يتماشى مع خارطته الجاهزة سلفًا من تلك الروايات هو لديه خرافيٌّ زائفٌ، وما تماشى معها فهو القصص الحقّ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! إنه منهج مَن لا يبحث عن أسانيد الحقّ، بل يبحث عن أسانيد ما يريد، مع سبق الإصرار والترصد، ورفض كلّ ما لا يخدم وجهته التي هو مولِّيها. فإنْ حاججته بنصوص التوراة، لم يَعتدَّ بها، وإنْ حاججته باللغة، لم يفقه ما تقول، وإنْ حاججته بتاريخ المَواطن، لم يحفل بما تقول، وإنْ حاججته بأخطائه هو، ومعلوماته غير الصحيحة التي يبني عليها أوهامه، لم يهتم، بل ظلّ يكرّرها ويضيف إليها. فما معنى هذا- يتساءل الكاتب (أ.د/عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي)، في مقاله "عسير/ سعير، وشهادة التراث العربي"- غير توسُّل شكليَّات البحث العامَّة لغايةٍ مسبقةٍ، هي فرض أفكار مُرادة قبل البحث، الذي ليس سوى وسيلةٍ إلى غايةٍ مبتغاة؟ ولذا فإنك إذا سبرت عمله، لا تجد له على هذا برهانًا ولا على ذاك، وإنما هو الظن والهوى أو المكابرة، بعد أن أصبحت فرضيَّته عقيدةً، لا تراجُع عنها، مهما تصادمت معلوماتيًّا أو تاريخيًّا أو لغويًّا. وعندئذٍ لن يبقى أيّ ادّعاءٍ عسيرًا، ولا أيّ زعم يقتضي سَراةَ إثبات. فما لا يُدرك بالتلفيق، لا يُترك بالتزوير! فأيّ حِجاج مع من بلغ نهجه في التعاطي مع الحقائق والتاريخ واللغة إلى هذه الدرك؟! انظر إليه ماذا يقول في أحد كتبه- فيما يُوهِم بأنه دليل على تاريخ بني إسرائيل في الجزيرة العربيَّة، وإنما هو دليل على إفلاسه هو أيَّما إفلاس-: «وأنا أقول إن هذا الشعب [يعني شعب إسرائيل] عاش تاريخه في غرب الجزيرة العربية، وليس في فلسطين، أوّلًا، لعدم وجود دليل حقيقي من أي نوع على أن موطنه كان في الواقع في فلسطين، ولو كان موطنه في فلسطين لكان خلّف هناك من بعده على سطح الأرض أوضح الآثار وأبقاها.» لكنه في المقابل لا يسأل نفسه عن وجود دليلٍ حقيقيٍّ من أيّ نوعٍ على أن موطن هذا الشعب كان في الواقع في غرب الجزيرة العربيَّة، ولو كان موطنه في غرب الجزيرة العربيَّة لكان خلَّف هناك من بعده على سطح الأرض أوضح الآثار وأبقاها. ثم قال: «وثانيًا، لأن هناك الدليل الكافي- سواء من ناحية أسماء الأماكن، أو من ناحية شهادة التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه- على أن موطن هذا الشعب كان في جنوب الحجاز، وما يليها من بلاد عسير حتى اليمن.» هذا هو الدليل الكافي! فأيّ دليلٍ في دليله، فضلًا عن أن يكون كافيًا بأيّ نسبة من الكفاية لها احترامها العِلْمي ومصداقيَّتها التاريخيَّة. أمَّا أسماء الأماكن، فقد رأينا، وسنرى، أنه إنما يبني على أوهام من الكلمات، وأنه يجهل الأماكن التي ينسب إليها ما ينسب، فيهرف بما لا يعرف. فهذا دليلٌ ساقطٌ بما فيه الكفاية. غير أنه، وهو يُدرك الضعف الذريع في استناده على هذا الدليل، يشفعه بإيهام القارئ بأن هناك «شهادة للتراث العربي، وخصوصًا اليماني منه» على مواطن بني إسرائيل في جنوب (الجزيرة العربيَّة) وغربها. والقارئ حين يقرأ هذا الزعم يتحفَّز، متوقِّعًا أن يسرد عليه المؤلِّف ما ورد في كتبٍ حول ذلك، أو في أخبار تاريخيَّة، أو في شِعرٍ أو في نثر. حتى إذا أفرغ الرجل جعبته، لم يجد من ذلك شَرْوَى نقير.
    تُرى ما «شهادة التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه»؟ قال: «وقد أرشدني مؤخّرًا صديقي الباحث فرج الله صالح ذيب [وكثيرًا ما يرشده آخرون، مكرِّرًا الإخبار بذلك في أعماله، ما يؤكِّد أنه ظلّ منشغلًا بمعجم الأسماء لا بالبحث التاريخي، كما ينبغي للبحث أن يكون، لكن الآخرين لا يقصِّرون في إرشاده!] إلى ما يقوله... الهمداني، صاحب «كتاب الإكليل»... بهذا الشأن، نقلًا عن قدامى رواة الأخبار من أهل اليمن. ومن ذلك خبر هروب داود في وقت من الأوقات، ودخوله إلى الغار في جبل حراء، خارج مكّة.»(1) وهنا يوهم القارئ بأن هناك أخبارًا عن أهل (اليَمَن)، منها هذا الخبر، تشهد له بأن مواطن بني إسرائيل كانت في جنوب الجزيرة العربيَّة وغربها. وهذا إفكٌ عظيم. فإذا رجعتَ إلى «الإكليل»، وجدتَ هذا الشاهد النكتة «من التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه». فوجدتَ أن صاحب «الإكليل»(2)، في «باب القبوريّات»، يقول: «هذا ما تناهَى إلينا من الأخبار القبوريَّة المشابهة لقبور حِمْيَر وهي لغيرهم. وروَى ابن لَهيعة قال: لمَّا أصاب داود، عليه السلام، الخطيئة، أعمل الاختلافَ إلى غيران العُبَّاد، حتى وقعَ على حِراء، جبل العبَّاد، فأُوحي إليه أن يدخل إلى غارٍ بالقرب منه، فهبط إليه داود، عليه السلام، فإذا فيه ميت مسجّى، وإذا عند رأسه صفيحة من نحاسٍ مكتوبٍ فيها: أنا ذو شلَّم الملك، ملكتُ ألف سنة، وافتتحتُ، ألف مدينة، ونكحتُ ألفَ عاتق، ثم صرتُ إلى الأرض، فراشي التراب، ووسادي الحَجَر، وجيراني الدود. فمن رآني، فلا يغترّ بالدنيا بعدي.» هذه هي الشهادة «من التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه»، التي توكَّأ عليها الصليبي وهشّ بها على القرّاء! فأيّ شهادةٍ في حكاية خرافيَّة كهذه؟ وما أكثر أمثالها. لدينا في جبال (فَيْفاء)، مثلًا، صخرة يسمّونها: «ناقة صالح»، ووَفق منهاج الصليبي يمكن أن يستدلَّ بهذا الاسم، وبحكاية العامَّة هناك، على أن الصخرة تلك هي ناقة (صالح) مُسِخت صخرةً، وأن صالحًا وقومه وناقته كانوا في حَقْو جبال فَيْفاء، لا في (الحِجْر) من (وادي القُرَى). بل مَن قال إن (حِراء) في الخبر هو غار حراء مكَّة، أصلًا؟ وأكثر من هذا أن صاحب «الإكليل» قد عقَّب على الخبر بما ينقض استدلال الصليبي. لذلك لم يشأ إبراز ذلك التعقيب؛ لأنه يُضعف ما أعلنه من شهادة «التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه» لما ذهب إليه. فماذا عقَّب به صاحب «الإكليل»؟ قال: «وهذا الملك لم يشتهر خبره عند العلماء، ويُروَى أنه يريد في خبره بُعد داود، عليه السلام. قال الهمداني: إني لا أرى [في](3) هذه الأشياء المستنكرة في الزُّبُر القبوريَّة، إنما يكون من الذين يكتبونها، فيزيدون في الشيء ما ليس فيه، ليعظُم ذلك عند مَن بَعدهم، فيزهدوا في الدنيا ويعلموا أنهم دون من فَرَطَهم.» ثم أضاف: «شَلَّم هي: (إيلياء)، وقد تعرِّبها العرب، فتقول سَلِم، قال الأعشى:
    وقد طُفت للمال آفاقه ** عمان(4) فحمص فأوري سَلِمْ

    وقال العبرانيون وهي يورَشَلِم.» إذن هذه هي شهادة التراث العربي التي لم يُرد إبرازها الصليبي بل لوَّح بنقيضها، وهي: أن تلك مجرد حكاية خرافيَّة، ساقها (الهمداني) مع خرافات قبوريَّة أخرى، تُوْرَد على سبيل العِظَة والعِبرة والتزهيد في الدنيا، وتهويل أمر السَّلَف مقارنةً بالخَلَف، ومع ذلك فإن ديارهم بمن فيها قد:
    أَمسَتْ خَلاءً وأَمسَى أَهلُها احتَمَلوا ** أَخنَى عَلَيها الذي أَخنَى على لُــبَــدِ
    كما قال (النابغة الذُّبياني)، ولم تَرِد تلك الحكاية عن (داوود) بوصفها خبرًا تاريخيًّا ذا قيمة، أو يُستدلّ به على شيءٍ من حقائق التاريخ. ثمّ إن (شَلَّم)، كما شهد الهمداني أيضًا، هي: إيلياء، في (فلسطين)، وهي التي يدعوها العبرانيُّون: يورَشَلِم، لا (آل شريم!)، في (النماص)، كما زعم الصليبي. [للنقاش بقيّة]. ||

    (1) (1991)، حرب داود: الأجزاء الملحميَّة من سِفر صموئيل الثاني مترجمة عن الأصل العبري (عمّان: دار الشروق)، 19.
    (2) (د.ت)، الإكليل، بعناية: نبيه أمين فارس (صنعاء: دار الكلمة- بيروت: دار العودة)، 8: 169- 170.
    (3) لعلّ حرف الجرّ هنا مُقـــْحَم.
    (4) في الكتاب «عمّان»، (بتشديد الميم)، وبه ينكسر الوزن.
    * [الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: 5- (عسير/ سعير، وشهادة التراث العربي)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 7 يناير 2015، ص30].
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  4. #4
    اعتذر لعدم التتالي هكذا وصلتني بالبريد.
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  5. #5
    (10- كيف طَمَسَ اللهُ على تاريخ بني إسرائيل؟)
    إذا سلَّمنا جَدَلًا بأن الجامعين لأسفار (التوراة) ومترجميها ومحقِّقيها في بلاد (بابل)، بعد السَّبْي، ولبُعد الأَمَد واختلاف البيئة لم تكن لديهم المعرفة الجغرافيَّة بالبيئة التي وُضعت فيها نصوص التوراة، أ فننسَى سؤالًا آخَر، غير معقول الإجابة، هو: كيف حدث أن طَمَسَ اللهُ على العقول حول تاريخ (بني إسرائيل)، وحول أرضهم الأصليَّة، هم وحدهم دون سواهم من الشعوب والتواريخ؟!
    إن الشعوب عادةً لتعرف أراضيها، مهما غُرِّبت عنها، وتعرف أراضي جيرانها، وأراضي الأعراق المختلفة فيها، الأصيلة والطارئة. تعرف ذلك معرفةً نِسبيَّةً لا تتماهَى بحالٍ والجهل التامّ. والمؤرِّخون يعرفون ذلك أكثر، إنْ كانوا مؤرِّخين حقًّا. ما قال أحد، مثلًا، إن (المِصْريِّين) كانوا يعيشون في (اليَمَن)، ولا إن (اليبوسيِّين) كانوا يعيشون في (بلاد فارس)، ولا إن (الأكديِّين) كانوا يعيشون في (المغرب). فما بال بني إسرائيل دون العالمين يقع في شأنهم هذا الخلط والضلال المبين؟! صحيح أنها قد تغيب عن المدوِّن القديم، أو المؤرِّخ، بعض التفاصيل، لكنها لا تغيب عنه بالكلِّيَّة تلك المعلومات الأوَّليَّة المشتهرة، ولا الأحداث المتواترة أخبارها بالضرورة.
    كيف بإمكانك، إذن، أن تصدِّق رجلًا جاء يقول لك إن (بني إسرائيل) كانوا يعيشون في الجزيرة العربيَّة على مدى مئات السنين، ناهزتْ الألف عام، وكانت لهم خلالها الممالك وفيهم التحوّلات الاجتماعيَّة والثقافيَّة الجُلَّى، وكانت لهم فيها الحروب الطاحنة والمصادمات الأُمميَّة، المشهودة، أرضًا وسماءً، ولكن لا شعب (إسرائيل) يعلم حقائق ذلك، ولا غيره من الشعوب يعلمون كذلك؛ فلم تحفظ الذاكرة ولا الأرض ولا المؤرِّخون ولو لمحةً عن ذلك التاريخ! بل أبعد من هذا، وجدناهم ينسبون تاريخ ذلك الشعب وينسبه غيرهم إلى بلدان أخرى وممالك قُصوَى زورًا وبهتانًا، أو جهلًا واختلاطًا، وهو، أي صاحبك المؤرِّخ الحديث، مَن جاء - بعد أكثر من ألفَي عامٍ وخمسة قرون- ليصحِّح التاريخ؟! يقذف إليك هذا التصحيح المأتفك، وأنت في كامل وعيك أنه يحدِّثك، لا عن ماضي قبيلة مغمورة من القبائل، ولا عن تاريخ (الغَجَر) الملتبس، ولا عن أرض (وَبار) الخرافيَّة، بل عن تاريخ ممالك من أشهر الممالك في التاريخ على الإطلاق، وعن أنبياء من أُولي العزم من الرسل، وعن صراعات دِينيَّة وحضاريَّة تُعَدّ مفصليَّة في تاريخ المنطقة قاطبة والعالم أجمع.
    هذا، ولقد كان صاحبنا يفرح إذا وجد خلال قراءته حروف اسم قريةٍ، أو قبيلةٍ، أو خبتٍ، أو مزرعةٍ، أو حتى خَرِبَة تُجانِس اسمًا وَرَدَ في التوراة، جناسًا ناقصًا جدًّا غالبًا. أمَّا حين لا يوفَّق إلى تشابه حروفٍ، بشكلٍ أو بآخر، فذلك ممَّا حرَّفه (المسّوريّون) اليهود في التوراة، كما يقول. كلامًا مرسلًا، لا يستند فيه على دليل. فإذا سمع، أو قرأ، عن مكانٍ اسمه (الدَّثْنَة) في جبال (فَيْفاء)، على سبيل الشاهد، قلَّبه واعتصره اعتصارًا لربطه باسمٍ توراتيٍّ، «ولا بُدّ». وإنْ كان في فَيْفاء وحدها ثلاثة أمكنة بالاسم نفسه، وفي مواضع مختلفة، موضعٌ في جبل (آل الثُّوَيْع)، وآخر في جبل (آل أبي الحَكَم)، وثالثٌ في (أسفل جبل آل ظُلْمَة). وفي غير (فَيْفاء) مثل ذلك الاسم. فلا يُدرَى أيّها المقصود؟! ونحن نجد ذِكر إله للقبائل الثموديَّة في شمال الحجاز باسم «دثن»، أو «دثان»، يَرِد في النقوش الثموديَّة والصَّفَوِيَّة. وكان من أسماء شمال الحجاز: «دوثان»؛ ما دفع بعض المستشرقين إلى ربط هذا الاسم بذاك الإله (دثن). ويظهر أن عبادة هذا الإله كانت معروفة في أماكن أخرى من الجزيرة، من ذلك وسط الجزيرة، ولا يبعد أن يكون ذلك في غير وسطها أيضًا. واقترن دثن (باللَّات) أحيانًا، وإنْ لم يُعرف أصل هذا الاسم أو الإله.(1) فهل لاسم (الدَّثْنَة) علاقة بذاك؟ ربما، وإنْ تعذَّر التحقّق من ذلك! ومهما يكن من أمر، فهي معلومةٌ للتأمُّل في الميثولوجيا العربيَّة الكامنة خلف هذه التسمية. أمَّا لغويًّا، فدَثَن فِعلٌ يأتي بمعنى: دَفَنَ، كأنه على سبيل الإبدال الصوتي. ودَثَنَ بمعنى: حَطَّ، أو نَزَلَ؛ ولذلك قالوا: دَثَّنَ الطائرُ يُدَثِّن تَدْثِينًا، إذا طار وأَسْرَع السُّقوطَ في مواضِعَ مُتقارِبة وواترَ ذلك. ودَثَّن في الشَّجرة: اتَّخَذَ فيها عُشًّا. والدَّثِينة: الدَّفينة. و(الدَّثِيْنَة)، أو (الدُّثَيْنَة): ماء (لبني سُلَيم)، أو (لبني سيّار بن عمرو). قيل كان اسمه: الدفينة، فغُيِّر، تطيُّرًا. وفي الحديث جاء ذِكْر (الدَّثِيْنة)، في ناحية قرب (عَدَن)، بينها وبين (الجَنَد). وهو موضع (بمصر) كذلك. وفي الحديث ذِكْرٌ لغزوة (داثِن)، وهي ناحية من (غَزَّة الشام)، أ َوقعَ فيها المسلمون بالروم، وهي أَوَّل حربٍ جَرَتْ بينهم.......وهي أَوَّل حربٍ جَرَتْ بينهم. و(الدَّثِيْن): جَبَل.(2) والدَّثْنَة: الماء القليل يكون في الأرض3). ولعلّ هذا الأخير أقرب الاحتمالات وراء اسم (الدَّثْنَة) في جبال (فَيْفاء). وهكذا ترى كثرة الأماكن بالاسم الواحد، أو من المادّة اللغويَّة الواحدة، في مواطن شتَّى. فما الذي يُثبت أن أحدها هو المقصود في التوراة دون غيره؟ أمَّا قرائن المواضع الأخرى المجاورة، فسنرى لاحقًا أنه يتَّفق مجيء المواضع كذلك- متشابهة الأسماء والتجاور- في غير مكان واحد.
    وكذا إذا سمع (الصليبي) باسم مكان في (فَيْفاء) هو (البَثْنَة)، قال: «إذا اعتبرنا أن لبون سفر زكريا هو لبينان اليمن، وليس لبنان الشام، لا تعود هناك أيَّة مشكلة بالنسبة إلى موقع (بشن)... وقد ساد الاعتقاد حتى الآن بأنها تشير إلى مرتفعات «البثينة» بين حوران والبلقاء، في جنوب الشام. وبشن هذه لا بدّ أنها اليوم «البثنة» في جبل فَيْفا...»!
    «لا بُدّ»!
    على حين يستعمل اسم (البَثْنَة) في موضع آخر، ليقول إن من المحتمل أنه «جبل الأطياب (هري بشميم)»، الوارد في «نشيد الأنشاد»، الذي صار لديه باسم جديد هو: «نشيد جبال جيزان»!(4) وهو لا يدري ما «البَثْنَة» على كلّ حال؟ إلَّا أنه اسم يُشبه «بشن»، تارةً، و«بشميم»، تارةً أخرى، ولو في حرفين أو حرف واحد. والبَثْنَة في (فَيْفاء) اسم بيتٍ عائليٍّ، حوله بُقعة محدودة في غرب الجبل الأعلى، تابعة لقبيلة (آل الداثر)، وتحمل تلك البُقعة الاسم نفسه. والاسم مشتق من «بَثَن». وتعني بلهجات فَيْفاء: جَلَسَ، أو بَرَكَ، واستقرَّ. ولا نجد هذا التعبير في معجمات العربيَّة، وإنما تشير إلى أن البَثْنَة: الرَّوْضَة، أو الأرض الطيِّبة: جَمْعُها بِثَان. وقيل: هي الرَّمْلَةُ اللَّيِّنَةُ. ويُصَغَّر على: بُثَيْنَة، وبها سُمِّيَتِ المرأةُ بُثَينةَ لِلِينها. والبَثْنَة: النَّعْمَة في النِّعمة. والبَثَنِيَّةُ: حِنْطَةٌ مَنْسُوْبَةٌ إلى قرية (بالشام)، بين (دمشق) و(أَذرعات). وفي حديث (خالد بن الوليد): أنه خَطَبَ فقال: «إن عُمَرَ استعملني على الشام وهو له مُهِمّ، فلما ألقى الشام بوانيه وصار بَثَنِيَّةً وعسلًا، عزلني واستعمل غيري.»(5) فهناك أسماء (البثنة) في غير (فَيْفاء)، ومنها تلك التي استبعدها (الصليبي) في (الشام)؛ لأنه لا يريد الشام بل القفز يَمَنًا.
    فما علاقة بيتٍ عائليٍّ سمّاه أهله في زمن متأخِّر بالبَثْنَة- لمعنى من تلك المعاني المشار إليها- بـ«بشن» التوراتيَّة أو «بشميم»؟!
    إنه هوس الحروف والتأويل!
    [للنقاش بقية].
    ** ** **
    (1) انظر: الروسان، محمود محمَّد، (1412هـ)، القبائل الثموديَّة والصفويَّة: دراسة مقارنة، (الرِّياض: جامعة الملك سعود)، 163.
    (2) انظر: ابن منظور، لسان العرب المحيط؛ الزبيدي، تاج العروس، (دثن).
    (3) انظر: الزبيدي، تاج العروس، (م.ن).
    (4) انظر: الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، 292، 281.
    (5) انظر: الفراهيدي، العَين؛ الجوهري، صحاح اللغة، الزمخشري، أساس البلاغة، ابن عبّاد، المحيط في اللغة؛ ابن دريد، جمهرة اللغة، الأزهري، تهذيب اللغة، (بثن).
    - الرياض
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  6. #6
    العابثون بالتاريخ (4): منهاج بارنوم

    ا. د. عبد الله الفَيْفينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيلقد كان (كمال الصليبي) يعلم عِلم اليقين أن قد فشل المؤرخون في العالم والآثاريّون في العثور على التاريخ المزعوم لبني إسرائيل في فلسطين. فلتكن فلسطين- بحسب الصليبي- (الفَلَسَة) في (خَثْعَم)!(1) أ فوُكِّل للبحث لهم عن تاريخهم في مكان آخر، هو جزيرة العرب؟ أم نَدَب نفسه بنفسه إلى هذه المهمَّة؟! لينتهي في آخر المطاف إلى نسيجٍ مهلهلٍ من الفرضيَّات والتخمينات، في ضربٍ من التنجيم، مستخدمًا مع القارئ ما يشبه تأثير (بارنوم)(2)، ليُوهِم بصحّة ما يقول. حتى إنك لتشعر في تحليلاته كأنك أمام قارئ فنجان، لا أمام مؤرِّخ. وللرجل قُدرة لا تُنكَر في ممارسة هذا الدور الإيهامي، حتى إذا فُحِص كلامه على محكّ الواقع والتاريخ والمنهج، وُجِد معظمه ممَّا لا يُمكن الاعتداد به عقلًا، فضلًا عن الاعتداد به عِلْمًا.
    إننا- بقطع النظر عن صحَّة القول بتاريخٍ (لبني إسرائيل) في (شِبه الجزيرة العربيَّة)- إنما نُقيم مناقشاتنا لكُتب (الصليبي) على أساسٍ من الحِجاج المنهاجي؛ من حيث كان الرجل يبني استنتاجاته إمَّا على أوهام، أو على أغلاط، أو على مغالطات. وفي أحسن أحواله يبنيها على ما يحتمل غير وُجهةٍ واحدةٍ، ممّا لا يُبقي لافتراضاته جدارتها بأن تُعَدَّ الاحتمال الوحيد. نحن لا يعنينا نفي تاريخٍ مزعوم لبني إسرائيل في الجزيرة، بل يعنينا المنهاج المتَّبع لإثبات ذلك. فأنْ يأتي باحثٌ لنقض ما تواتر تاريخيًّا، ثمّ لا يُزلف بين يدَي دعواه سوى عرضٍ شاعريٍّ، ينهض على أصداء الحروف والأسماء، فذاك هو الإفلاس المبين. وهي هاويةٌ من الضعف ظلَّ المؤلِّف نفسه قلقًا حيالها، غير أنه كان يُلقي هواجس قلقه على احتمالاتٍ مستقبليَّة سوف تُثبت مقولاته آثاريًّا. لكأنه كان يبحث تاريخ قبيلةٍ في الصحراء، لا تاريخ ممالك ومُدن وحضارات دينيَّة، لم تستطع الصحراء حتى اليوم ابتلاع ما هو أقلّ منها شأوًا.
    من أوهام الرجل أنه جاءنا ليقول عن (عَبيد سليمان): إن «بني عبدي شلمة، أي بنو عبدي (م) شلمة، قبيلة تعود أصولها إلى ما هو اليوم قرية آل عبدان (عبدن) في ناحية فيفا في منطقة جيزان، وهذه القرية معرفة توراتيًّا بالنسبة إلى قرية من الناحية ذاتها اسمها (آل سلمان يحيى) واسم سلمان أو سليمان تعريب للاسم التوراتي «شلمه»، وقد عُرِّفت آل عبدان هذه بأنها «عبدان سلمان» لتمييزها عن موقع من ناحية بني الغازي من منطقة جيزان اسمه أيضًا عبدان. وهذه كانت مواطن هذه القبيلة في مختلف المناطق:...».(3) ثم أورد أماكن في (نجران)، و(بلَّسمر)، و(القنفذة)، و(الطائف)، و(قنا والبحر)، وغيرها.
    ولك أن تسأل: أ لم يقل: إن هؤلاء (بني عبدان) «قبيلة تعود أصولها إلى ما هو اليوم قرية آل عبدان (عبدن) في ناحية فيفا»؟! فكيف صارت مواطنهم في نجران، وبلَّسمر، والقنفذة، والطائف، وقنا والبحر؟!
    ثم أين هناك في جبال (فَيْفاء) مكان اسمه (قرية آل عبدان)، بالباء، أو (عبدن)؟!
    ليس هناك مكان بهذا الاسم الذي زعمه الصليبي، عن جهل. إنما هناك: عشيرة اسمها (آل عيدان)، (بالياء لا بالباء)، وعشيرة اسمها (آل سلمان بن يحيى)، من قبيلة (آل سلمان) بفَيْفاء، وشيخها (يحيى بن عيدان السلماني). والنِّسبة هي إلى رجلٍ اسمه (عيدان)، ورجلٍ اسمه (سلمان بن يحيى). وهما من متأخِّري البَشر جدًّا، لا يعودان إلى ثلاثة آلاف سنة، ولا حتى إلى ألفٍ من السنين.
    فمن أين اكتشف لنا الصليبي آل عبدان هؤلاء؟
    وهو كما ترى يقول: «في ناحية فيفا»! لكي لا تدري أيَّة ناحيةٍ؛ لأنه نفسه لا يدري. إنها التعمية على الجهل بالأسماء والمواضع.
    واضح هنا أنه اختطف- كما رأيناه في مواضع أخرى يفعل- اسم «عيدان» (بالياء)، ففرح به، مصحِّفًا إيّاه إلى «عبدان»، (بالباء)، ليركِّب عليه اسم «بني عبدي شلمة» التوراتي. وهذا تدليسٌ فاضحٌ، لا يغتفره له جهله بصِحَّة الأسماء؛ فمَن جَهِل لا يحقّ له ادّعاء العِلْم. وأيّ عِلْم؟ عِلْم سيغيِّر به وجه التاريخ والجغرافيا، في حين هو غارق في الجهل والتخليط. ومَن تكشَّفَ للقارئ أن هذا نهجه المتكرِّر- بفحص عيِّنة دالَّة من استقرائه لأسماء الأماكن وطبيعتها وتاريخها وصحّتها- سقطت مصداقيَّته العِلْميَّة بصورةٍ عامَّة. بلهَ مَن يبدو- لدى التحقيق في قطاعٍ من مادّته العِلْميَّة- هَرَّافًا بما لا يعرف، وعلى هذا النحو العجيب، جديرٌ بأن يكون ذلك دأبه فيما سواه، ومِن ثَمَّ تسقط أطروحته؛ لأن ما بُني على باطلٍ فهو باطل. ولا ريب أن مِن الاستخفاف- المستفزّ لكلّ قارئٍ يحترم المنهج العِلْمي- أن يأتي بعد هذا كلّه ليُقيم على أخطائه تلك وأوهامه وتلفيقاته استنتاجات جذريَّة في التاريخ البشري.
    أمّا اسم سلمان، وسليمان، وسالم، وسلامة، فحدِّث ولا حرج عن انتشارها في جبال (فَيْفاء). وكذا إبراهيم، وموسى، وعيسى، ويحيى، وداوود، وجميع أسماء أنبياء (بني إسرائيل) تقريبًا. أم لعلَّه سيستدلّ لنا بذلك أيضًا على تاريخٍ إسرائيليٍّ عريقٍ بناءً على وجود أسماء الناس تلك؟! هو لا يتورَّع- غفرَ الله له ورحمه- عن افتراض أيّ شيء، هكذا بلا دليل، ومهما كلَّف الأمر، في جرأة عِلْميَّة تكاد لا تحدّها حدود.
    لقد كان منهاج الصليبي سهلًا جدًّا، كما رأينا، فما عليه إلَّا أن يُفتِّش عن الاسم التوراتي في حروف الأسماء المكانيَّة في الجزيرة العربيَّة، بصورة أو بأخرى. حتى إذا لم يوفَّق، لَفَّق؛ كأنْ يقول إن (صَبُويِيم)- تثنية صبي بالعبريَّة، أي ظبي- هي: (صبيا) و(الظبية) معًا، في منطقة (جازان)!(4) مع أن الإشارة في التوراة إلى (مملكةٍ واحدة)، في (مكانٍ واحد)، اسمها صَبُويِيم، لا إلى مكانين في موضعين مختلفين. لكن ما لا يُدرك في مكان، لا يُترك في مكانين!
    أمَّا اسم (شارون)، فقال هو إشارة إلى وادٍ بناحية (العبادل) اسمه (شرّانة)، بلا شكٍّ لديه ولا تردّد، «ولا بُدّ»، كما يكرِّر هذه العبارة في كتبه!(5) وعلى هذا فقِس بقية الأوهام والمزاعم! حيث تصبح الإشارات قابلة للتأويل بلا حدود، وللاحتمالات بلا قيود، لا لغويَّة ولا منطقيَّة ولا تاريخيَّة، فالمهمّ وجود حرفين أو ثلاثة، وكأنه يستقرئ طلاسم سَحرةٍ، أو رموز مشعوذين.
    وهو، قطعًا، لا يعرف الأماكن التي يتحدَّث عنها- كما يرى الكاتب (أ.د/عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي)، في مقاله "منهاج بارنوم"، صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 30 ديسمبر 2014، ص19- قائلًا: نقطع بهذا في (فَيْفاء) على الأقل، وعلى أبناء المناطق الأخرى مراجعة تحليلاته، لقبولها أو دحضها. وهو ما لا أعلم أن أحدًا قد فعل ذلك على النحو الذي يجدر به. حتى إن ما كتبه (الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله) إبّان صدور الكتاب الأوّل من كُتب (الصليبي) إنما جاء، كما قال، بضغوطٍ من آخرين، وبإلحاحٍ منهم، وهو زاهدٌ في الأمر، مستسخفٌ له، وغير مطَّلع على كتاب الصليبي، بل على مقتطفاتٍ ممّا نُشر عنه في الصحف. فجاء ردّه ردًّا عامًّا، على أهميّته في كشف الاختلال المنهاجي في استقراء الصليبي. والصليبي إلى جهله اللافت بالأماكن، لا يعرف تاريخ نشأتها أيضًا، ولا طبيعتها، وربما لا يعرف التسميات الصحيحة لبعضها. بل يبدو لا يفرِّق بين منطقتَي (جازان) و(عسير)، فكلتاهما عسير عنده غالبًا. كما أن بعض مناطق (الحجاز)، يدرجها جميعًا تحت اصطلاح (عسير الجغرافيَّة). ربما لمزيد من الإيهام بقرب الشُّقَّة بين مكان في جازان وآخر في الحجاز، كأن يذكر مكانًا في (هَرُوْب) ويُلحقة بآخر في (الطائف) أو (رابغ) أو (القنفذة). [للنقاش بقيّة].

    | أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
    ....................
    (1) انظر: الصليبي، (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)،، 239.
    وفي كتابه ((1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 136) سيقول إنها في «بلاد غامد وزهران».
    (2) The Barnum effect إشارة إلى الظاهرة النفسيَّـة التي تجعل بعض الناس ميّالين إلى تصديق الدجاجلة والمنجِّمين، وإنْ كَذَبوا وكَذَبوا. و(بي. تي. بارنوم P.T. Barnum، -1891) هو الاستعراضي الأمريكي الشهير، صاحب مقولة: «لدينا شيء ما يناسب كلّ واحد من الجمهور».
    (3) انظر: (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 165.
    (4) انظر: م.ن، 44.
    (5) انظر: م.ن، 284.
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  7. #7
    العابثون بالتاريخ! بقلم: أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي

    كَثُر في السنوات الأخيرة هُواة التاريخ والتوليف فيه، مع ارتفاع أدرينالين القَبَليَّة العربيَّة، والحميَّة الجاهليَّة، وغدا كلٌّ على حرثه يركض عاريًا في ميدان الأنساب، والمشجَّرات، وتاريخ العشائر والقبائل والبلدان، في سباقٍ محموم. يجري ذلك غالبًا بلا عِلمٍ ولا هُدى ولا كتاب منير، وإنما هي الغواية، وحبّ الظهور، في مجالٍ صار مجال من لا مجال له، ومستقطب الأضواء؛ تمامًا كالشِّعر العامّي، والسِّحر الفضائي، وتفسير الأحلام، وأحاديث الجنّ والمجانين، ونحوها من الظواهر الثقافيَّة التي تستهوي العامَّة، وتستخفّ العقول.
    غير أن التاريخ قد أصبح عِلْمًا في العصر الحديث، ولم يَعُد مقبولًا الخوض فيه من غير متخصّص، لا بشهادة، ولا بدراية يُعتدّ بها، وإنما بنزوعٍ من تلك النزوعات المشار إليها. لم يَعُد مقبولًا اليوم الخوض في التاريخ حتى بآليّات (الطبري، -310هـ = 923)، أو (ابن الأثير، -630ه ـ= 1233)، أو (ابن كثير، -774هـ = 1373)، الذين أحسنوا وأساؤوا، وخدموا المعرفة وخلّطوا تخليطات ظلّت الأُمَّة تدفع ضرائبها، وستظلّ إلى أمدٍ لا يعلمه إلّا الله، وظلّ أعداؤها يتّخذون من مادّة ذلك التاريخ غير المنهجي مطاعن لا أوّل لها ولا آخر.
    ذلك أنه تاريخ رأس ماله الأعظم: «قيل وقال»، من سوالف المجالس والأسمار. فكانت المحصِّلة حَطَب ليلٍ كثيف، لا قِبَل للأجيال بفرز صحيحه من سقيمه، لبُعد الشُّقَّة بينهم وبين الأحداث، واندثار الوثائق المُعتدّ بها عِلميًّا، هذا إنْ وُجدت في الماضي. فليس من سبيلٍ أمثل من محاكمة ذلك التراث إلى معايير العِلْم، فما سقط في تلك المحاكمة، وجب أن يُلقَى به عُرض (طبرستان)، أو (جزيرة ابن عُمر)، أو (بُصرى الشام)؛ لأنه لا يصلح لشيء، ولا يستأهل الاحترام العِلْمي.
    ولكن ما خطب هواة التاريخ المحدثين؟
    وأين الجامعات، وأقسام التاريخ، والجمعيّات التاريخيّة، عن عبثهم المستمر؟
    فهذا فقيهٌ صار مؤرِّخًا، وهذا معلِّم صِبيةٍ صار محقِّـقًا، وذلك عاطل عن العمل أصبح مشتغلًا بالأنساب والمشجَّرات، ورابع لا يستحيي أن يضرب بيديه ورجليه في مجاهل الآثار والنقوش. والمطابع تَلْهَم ما يأفكون من ذلك كلّه ثمّ تقذفه في الوجوه. وإنْ لم تفعل المطابع ذلك لضوابط باقية، من فسوح النشر ونحوها، فـ«الإنترنت» كفيل بنشر غسيل من لم يجد له ناشرَ غسيل.
    ثم أنت واجدٌ بعض هؤلاء لا يخلو وفاضه من المنهاج فحسب، بل هو أيضًا خالي الوفاض من الاحتكام إلى منطق العقل البسيط. هو- على سبيل المثال- إذا ألفى اسم قبيلة، ظنّ أن كلّ ما وافق المادة اللغويّة لاسمها ذو علاقة بها؛ فإذا هو يقيم علاقاتٍ متخيّلةٍ بين الشام واليَمَن، والمشرق والمغرب، لا أصل لها إلّا في مخيّلة جهله وعماه، وكأن الاسم لا يَرِد في حياة العرب إلّا مرّة واحدة، سواء كان لعَلمٍ إنسانيٍّ، أو قَبَليٍّ، أو مكاني! وهذا ممّا وقع فيه بعض البلدانيّين والمؤرّخين قديمًا، وإن لم يكونوا دائمًا بهذا الخيال الواسع اللافت لدى بعض هواة التاريخ المحدثين، ذلك أن أولئك الأقدمين، وإن أعوزتهم مناهج البحث والدرس، كانوا يحترمون قارئيهم، وكانوا يتعرّضون للنقد الشديد من معاصريهم، وهم إلى ذلك قد ثقفوا من الأصول العلميَّة، فقهيّةً أو حديثيّة، ما يفحصون من خلاله الروايات، وينقدون ويفاضلون ويرجّحون، غير واقعين في خبط العشواء المطلق.
    على أن التاريخ لدى بعض هؤلاء الصِّبية المعاصرين لا يعدو قِصَّة مسليَّة، أو ادعاءً وتبجّحًا ومفاخرة، لا معلومات مدقّقة محقَّقة. يكفي أن تُروَى لهم المعلومة ليلتقطوها، ويدوّنوها، ويكبّروها، وينفخوا فيها، بلا فحصٍ لمصدرها، أو نقدٍ لمحتواها. ومن كُبرى مضحكات بعضٍ آخر أن تراه يستند إلى ما يستقيه من «كبار السِّن»! ويا ليته يكتفي بالاستئناس بذلك في مُحدَثات الأمور، ممّا يكون الراوية قد شاهده أو عاصره، لكنك ستجده يركن إلى ذلك في تقرير الحقائق، وتاريخ الوقائع، وإنْ فيما سلفَ قبل أن يولد (كبير السِّن الراوية) بمئات السنين! لكأن صاحبه ديناصور، إذن، قد حلب الدهر أشطره مذ قوم عاد! مع أن هذا المصدر يُعَدّ من أوهى مصادر المعلومات، حتى في شؤون الحياة اليوميّة؛ فما أكثر ما يعتور كبار السن الوهم والوسواس والاختلاط والتخريف، لعوامل من ضعف الذاكرة وكلال العقل واختلال الإدراك.
    إن التعويل على كبار السن في المعرفة التاريخيّة هو من أخطل المناهج وأغباها، ما لم يؤخذ بوعيٍ نقديٍّ، وحذرٍ شديدٍ، وفي أضيق الحدود! غير أن قداسة الماضي في النفوس، وجهالة الفقه بكيفيّات تشكّل الأفكار والمعلومات، وكيفيّات تمحيصها، تمنح الكبير سِنًّا الصدارة دائمًا، حتى في عِلم ما لم يَعلم، والشهادة بما لم يَشهد. ثمّ قد تجد صاحبك المؤرّخ الهمام يختم وصلته التاريخيَّة بعبارة: «والله أعلم!» معتقدًا أنه بهذا قد أعفى نفسه من إثم ما اقترفت يداه. والله أعلم، بلا شك، ولم يطالبك أحد أن تدّعي المنافسة في عِلم علّام الغيوب، ولكن لن يغفر لك القارئ ما دُوْنَ أنْ تكون أنت عالمًا وفق المعايير البشريَّة، لا مدجّلًا أو مدلّسًا أو مدّعيًا.
    أجل، لقد آن أن يُحجَر على غير المتخصّص في التاريخ الخوض فيه، كما يُحظَر على غير المتخصّص في الطبّ ممارسة الطبّ، وعلى غير المهندس ممارسة الهندسة؛ فتلك علوم محترمة، ومِهَن دقيقة تقوم عليها حياة الناس، وليست بابًا مفتوحًا لكلّ من هبّ ودبّ. وإذا كانت هذه الضوابط تُسَنّ في الحقول العِلميّة وتطبَّق، فما بال الحقول الإنسانيَّة تظلّ مسرحًا مفتوحًا للهواة، حتى من غير الموهوبين؟! هذا لا يحدث إلّا في عالمنا العربي، بطبيعة الحال، كأشياء عجيبة أخرى كثيرة تحدث وتُستحدث هاهنا، تحت ذريعة «وأمّا الزَّبَد فيذهب جُفاءً»، التي يُراح بها البال من المسؤوليّة في الأخذ على أيدي العابثين بالتاريخ والآداب والفنون. والزَّبَد لن يذهب جُفاءً، ما دام هناك من يتلقّاه بالسكوت، والمجاملة، وربما بالقبول والترحيب والترسيخ، بل الزَّبَد سيصبح البحر كلّه. وهل غَمَّ العقولَ والقلوب والأذهان إلّا ركام هذا الزَّبَد التاريخي الذي ورثناه ولم يذهب جفاءً قط، وما زال يغمر الأُمّة، ويكتسح بطوفانه البلدان؟!
    لقد كان العرب من أكثر الشعوب ترحّلًا، إن لم يكونوا أكثرها على الإطلاق. وكانوا يحملون معهم ثقافتهم، وأسماء مواطنهم، وتاريخهم، وذكرياتهم، وفنونهم أَنَّى حَلُّوا أو ارتحلوا. وانداحت أعراقهم في الأرض، وخالطوا الأعراق الأخرى والثقافات، حتى بات من المجازفة الرعناء الاستناد على الأشباه والنظائر بين أسماء البلدان وقاطنيها دون بحوث أنثروبولوجيَّة معمّقة ودقيقة. بات من المجازفة الرعناء الأخذ بظاهر التصاقب بين الأسماء، كما كان (ياقوت الحموي، -626هـ= 1229)، وهو مستندٌ على أريكته في (حماة) أو (بغداد)، يحدّد بلدة على أنها في ديار (بني تميم)، مثلًا، استنادًا إلى بيتٍ شِعريٍّ وَرَدَ فيه ذِكر اسمٍ شبيهٍ باسمها، أو كما كان (أبو عبيد البكري، -487هـ= 1094) يفعل ذلك، وهو متكئ على طنافس (إشبيليّة) أو (قرطبة). في حين أن اسم مكان ستجده يتكرّر من أقصى اليَمَن إلى أقصى الشام، ومن بلاد البَرْبَر الأمازيغ في شمال أفريقيا إلى خراسان! والشعراء في كلّ وادٍ مجازيٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يعنون حرفيًّا؛ ولا يستقي المعرفة بالجغرافيا والتاريخ من الشعراء إلّا جاهل بطبيعة الشِّعر والشعراء قبل جهله بعِلْمَي التاريخ الجغرافيا.
    كلّا، الأمر أكثر التباسًا من ذاك. والشِّعر يزيده على التباسه التباسًا وتلبيسًا وإيهامًا. لا يُقلّل من جهود هؤلاء الرعيل الأوّل من البلدانيّين ومؤرّخي الديار انتقادُهم اليوم، ولا يغضّ ممّا قيل عن رحلات الحموي، أو ما ذُكر في تميّز البكري- ما حدا بوكالة الفضاء الأمريكيَّة ناسا في عام 1949 إلى إطلاق اسم (البكري) على فوّهةٍ من فوهات القمر، عرفانًا بريادته الجغرافيّة. غير أن ذلك تاريخ مؤرِّخين قد مضى عصره وانقضت صلاحية آليّاته. واجتراره- وعلى نحوٍ أقلّ جودة غالبًا- هو كمن يريد أن يُجري العمليّات الجراحيَّة الآن بالطريقة التي كان يجريها بها (ابن سينا، 427هـ = 1037)، وبأدواته نفسها! بل إن الخوض في الشؤون الإنسانيَّة لأشدّ تعقيدًا من الخوض في مجال العلوم البحتة؛ لأن العلوم البحتة تتعامل مع معطيات ماديَّة ثابتة، لا تكاد تتغير على مرّ التاريخ، في حين أن معطيّات التاريخ تظلّ متغيِّرة، متطوِّرة باستمرار، آخذةً في التراكم، والتداخل، والتماهي، والغموض، والتلاشي، كلّما مرّت عليها عجلات الزمن. ومن ثمّ كانت مقاربتها أعسر من سائر المقاربات وأخطر.


    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  8. #8
    العابثون بالتاريخ (2): من الخرافة التاريخيَّة إلى التخريف الجغرافيّ

    ا. د. عبد الله الفَيْفينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيولقد علمتُ ولا محالـةَ أنَّني ** للحــادثاتِ فهل تَرَيني أجـزَعُ
    أفــنينَ عـــادًا ثـمَّ آلَ محــرّقٍ ** فتركنهـمْ بَـدَدًا وما قـد جَمَّعُـوا(1)
    حين نتساءل عن عبث هواة التاريخ المحدثين، وعن موقف الجامعات العربيَّة، وسكوت أقسام التاريخ، والجمعيَّات التاريخيَّة، عن عبثهم المستمر، فما ينبغي أن ننسى طائفةً أخطر من العابثين الأكاديميين، الذين لا يقلّون عبثًا واختلالًا منهاجيًّا. ولعلّ المثال الأصخب والأشهر كان قد تبدَّى في كتاب (كمال الصليبي) «التوراة جاءت من جزيرة العرب». وقد أُلِّف الكتاب بالألمانيَّة، ثم تُرجم إلى الإنجليزيَّة، ثم إلى غيرها من اللغات الأوربيّة؛ فغير العرب أَولَى به، وهو أهمُّ لديهم كي يعرفوا تاريخ (الشرق الأوسط) المغيَّب عنهم، إنْ شاؤوا أن يعرفوا؛ فلا سياسة بلا معرفة. ثمّ تُرجم الكتاب إلى العربيَّة، ونُشر 1985، وانهالت الطبعات المتوالية، التي لا يعلم إلّا الله كم بلغ عددها! لقد كانت سادستها في عام 1997، ثم احترق العدّاد لكثرة الطبعات، وازدياد الطلب الشغوف بالكتاب. وهذا مؤشِّر مدهش على المستوى العِلْمي، وعلى نوعيَّة الكتب التي تحظى بالرواج في العالم العربي، إلى جانب كتب السِّحر، والشعوذة، والتطرّف، والشِّعر الشعبي. فيكفي أن يكون الكتاب مخالفًا، ولو للعقل، ليحظى بالانتشار. وقد أتبع المؤلِّف كتابه السابق بكتابين ذوَي علاقة، هما: «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل»، 1988، و«البحث عن يسوع، قراءة جديدة في الأناجيل»، 1988. ثم واصل الحفر في هذا النفَق لحمل (إسرائيل) إلى (جزيرة العرب) في كتاب نشره سنة 2007، تحت عنوان «عودة إلى "التوراة جاءت من جزيرة العرب": أورشليم والهيكل وإحصاء داود في عسير».
    في ذلك الكتاب الأوّل جاء المؤلِّف بما لم يسبقه إليه أحدٌ من العالَمِين. والبرهان على قدر الادعاء. ومع هذا فقد جاءت محاولات برهنته على نحوٍ فريدٍ في تهافته وهزله. فهو ينقل تاريخ إسرائيل المدَّعَى القديم من (فلسطين) إلى جنوب غرب الجزيرة العربيَّة، لا لشيء إلّا لوجود بعض حروف من مفردات (التوراة) في أسماء أماكن هنا وهناك. وبعيدًا عن أيّ مضامين دِينيّة أو أبعاد أيديولوجيّة أو سياسيّة وراء الكتاب أو أمامه، فهو متهافت الاستقراء والتصوُّر والاستدلال والاستنتاج، بدرجةٍ لا تُصدَّق.
    لقد اكتشف الصليبي- فيما اكتشف- أن «نشيد الأنشاد» كان عن جبال (فَيْفاء) وضواحيها! فصار بدل «نشيد الأنشاد»: «نشيد من جبال جيزان [كذا!]»، كما عنون أحد فصول كتابه! كيف لا، وجبل (جلعاد) في نصّ النشيد القائل: «شَعرك كقطيع معزٍ رابضٍ على جبل جلعاد»، المقصود به: (جبل فَيْفاء)! ولا أدري أيّ جبلٍ من تلك الجبال جلعده الصليبي هاهنا؟! قال: «حيث هناك قرية الجعدة»! ولم أسمع عن (قرية الجعدة) تلك، ولا أدري أين تقع؟ أو بالأحرى أين وقع هو عليها؛ في أيِّ معجمٍ ظلَّ يتكئ عليه في (بيروت) ويقارن؛ فيخطئ أكثر ممّا يصيب؟ لكنه يستدرك بأن قرية أخرى باسم الجعد في (رجال ألمع)، فلعلَّها هي! وكثيرًا ما يتردَّد هكذا في تحديد الأماكن، فيتقافز من (جازان) إلى (أبها) إلى (الطائف) إلى (القنفذة)، إلى غيرها؛ لأن الأسماء تتشابه، وتتكرَّر أسماؤها في كلّ مكان. ولولا أنه حصر نفسه في غرب الجزيرة وجنوبها، لوجد أمثالها في أرجاء الجزيرة المختلفة. وإذا لم يجد الاسم، افتعله، كما ترى في اسم «جلعاد»!
    أستغفر الله، لعلّه يعني بقرية الجعدة منزلًا في فَيْفاء اسمه (الجعيدة)، في بُقعة (نَيْد آبار)، ضمن بيوت قبيلة (آل الثُّوَيْع). فإذا كان ذلك، فقد وقع في منزلقٍ أكثر مفارقة وإثارة للإشفاق؛ ذلك لأن الجعيدة مجرد بيتٍ مأهول؛ وأهل فَيْفاء يصفون البيت الضخم بـ«قرية». هو، إذن، لا يعدو بيتًا عائليًّا، لا قرية هنالك ولا يفرحون! ولكلّ بيتٍ تسمية في تلك الجبال، كَبُر أم صَغُر، قديم أم حديث. فكيف يصبح اسم بيتٍ واحدٍ- بُني في زمنٍ متأخّرٍ جدًّا- اسمًا لكلّ جبال فَيْفاء، ويعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة؟! هكذا يتساءل الكاتب (أ.د/عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي)، في مقاله بعنوان "العابثون بالتاريخ: (من الخرافة التاريخيَّة إلى التخريف الجغرافيّ)"، (صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 9 ديسمبر 2014، ص25). ثم يضيف: لقد سمع المؤلِّف بـ«قرية الجعيدة»، أو قرأ هذه التسمية، فظنّها قرية كاملة فعلًا، ثمّ استنتج أن جبال فَيْفاء هي جبل جلعاد التوراتي. وهذا خير دليل على الزيارات التي زعم أنه قام بها! وأقول لو أنه دقَّق أكثر لاكتشف اسمه هو موجودًا أيضًا في أسماء بعض البيوت؛ فثمةَ بيوت باسم (الصلاب، والصلبة- أسماء ثلاثة بيوت في مواضع مختلفة- والصلبتين أيضًا). كما كان سيجد من أسماء البيوت ما يجمع الأوطان كلَّها والدنيا والآخرة؛ فهناك بضعة آلاف من البيوت أو أكثر، لكلّ بيت اسم خاصّ، منها على سبيل المثال: (السفينة، والسقيفة، والسودة، ورازح، والمحالة، والعين، والصامل، والصوملي، والملاوي، والخنساء، والطائف، والمحلَّة، والمعادي، ومصر، ومَنَفَة، والشمسية، وقمر، وسماية، والقعبة، والكعبة، والحَرَم، والصفا، والمروة، والخندق، والمحرقة، وجِحْم، والجحيمة، والقِيامة.. إلخ). كلّها أسماء أماكن وبيوت في جبال فَيْفاء. وهكذا فلو أردتُ أن أحاكي منهج الصليبي، لوجدت كلّ أسماء المواضع التي طوَّف بها من الطائف إلى (هَرُوْب) موجودة في جبال فَيْفاء وحدها.
    دعونا نجرِّب لعبة الصليبي، لنسأل هل يمكن أن نستنتج مثلًا أن أسماء الأماكن في (سِفر عزرا وسِفر نحميا)، التي أوردها (ص161ــ 165)، تقع في جبال فَيْفاء؛ لأن تلك الأسماء موجودة فيها إلى اليوم؟ ومن ثمّ نستنتج نتيجة مدهشة، هي أن هذين السِّفرين كُتبا في جبال فَيْفاء، ويتحدثان عن تجربة جرت هناك قبل ثلاثة آلاف سنة؟ نعم، يمكن ذلك. فنقول، وبالله التوفيق، إن قُرى خدم المعبد (النتينيم) الواردة في السِّفرين المذكورين هي- على طريقة المؤلِّف في الاستقراء- على النحو الآتي:
    صيحا (صيحء في عزرا، وصحء في نحيما)، وهي: الضَّحْي، في فَيْفاء، 3 مواضع. قيروس (قرس)، وهي: الكِرْس. لبانة (لبنة)، وهي، "ولا بُدّ" مكان اسمه: لبان. حجابة (حجبة)، وهي: إمّا الحداب، أو الحَدَب، 15 موضعًا، أو الحَدَبة، 3 مواضع. شَمُلاي (شملي)، الشَّمُلاء (شملء)، وهي: إمّا شملة، أو شُمَيْلَة. عقّوب (عقوب)، وهي: إمّا عوجبة، أو العقبة. جَحَر (جحر)، وهي: إمّا الأجحار، أو جِحر بَدَع. حانان (حنن)، وهي: الحنانة. رَصِين (رصين)، وهي: رَيْسان، 7 مواضع. فاختر ما شئت منها! نقودا (نقودء، أو نقود إذا أهملت أداة التعريف الآراميّة اللاحقة)، وهي: ناجد، موضعان. بيساي (بسي): وهي: البزو، أو ربما بوثن. مَعونيم (جمع معون أو معوني)، وهي: إمّا ناعم، أو نعمان، أو نعيمة. نفوسيم (نفيسيم، مثنى أو جمع نفيس)، وهي: إمّا النفيش، أو النفز.
    هكذا، وأنت ماشٍ... كلّها، إذن، أماكن في جبال فَيْفاء!
    هذا فقط ما تُسعف به الذاكرة، دون تعمُّد بحثٍ واستقصاء. ولو بحثنا ونقّبنا، لوفقنا الله حتمًا إلى مواضع أكثر مطابقة لأسماء التوراة!
    لن نستمر في سرد الأسماء والمقارنات؛ لكي لا نثقل على القارئ بهذا السرد. وإنما أردنا تبيان سهولة منهج الصليبي. ها نحن هؤلاء نجد المواضع في فَيْفاء وحدها، متجاورةً مترافقة، من نحو ما وردت في السِّفرين التوراتيَّين. فهل هذا دليل يستند عليه في شيء؟! فكيف لو عرّجنا، كما فعل الرجل، في معجم الأسماء الذي زوَّدَه به «المعجم الجغرافي للبلاد العربيَّة السعوديَّة»، من حيث لم يحتسب؟! ماذا لو فعلنا ذلك، فشرعنا نقارن الأسماء من الطائف إلى هَرُوْب، وشطحنا أحيانًا إلى (الحجاز)، بل إلى (اليمامة)، تتبُّعًا لأيّ مقابِلات من الحروف والأسماء. وما أوردناه أعلاه أسماء أماكن حقيقيَّة معروفة اليوم، لا أسماء قبائل، كبعض الأسماء في كتاب الصليبي، أو أسماء متوهَّمة، أو مصحَّفة، ظلّ يستنتج منها استنتاجاته العجيبة. ودون حاجةٍ كذلك إلى تقليب الحروف، كما يفعل الصليبي، كأن يقول، مثلًا، إن (حبرون)، عاصمة (داوود) الأولى، هي قرية (خربان)، في (المجاردة)! [للمناقشة بقيّة].

    أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
    ..........................
    (1) البيتان للشاعر الجاهلي (متمّم بن نويرة). وفي (الضَّبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليّات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون (القاهرة: دار المعارف)، 53/ 39- 40): «فتركنهم بَلَدًا»، وقيل معناه: «تُرابًا». ويبدو لي أن الكلمة تصحيف لكلمة «بَدَدًا».
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  9. #9
    *(8- غزوة بني إسرائيل للحجاز وحكاية التابوت)اقرأ معي اقتباس (د. كمال الصليبي) عن كتاب (التيجان)، وتوجيهه الكلام الوجهة التي يبغي، ثم دعنا بعد ذلك نقارنه بكلام (وهب بن مُنَـبِّه). يقول (الصليبي)(1): (وهناك صمت في التقليد اليهودي حول مصير تابوت العهد بعد هذا الحدث.) والحدث المقصود هنا هو نقل عاصمة (داوود) من (رجال ألمع) إلى (النماص) ووضع التابوت في قُدس أقداس الهيكل الجديد هناك. وهو بهذا يحاول أن يوحي بأن الخبر الذي سيستشهد به، نقلًا عن كتاب (التيجان)، يدلّ على أن التقليد العربي اليماني كان يعرف مصير التابوت؛ لأن الأحداث كانت تجري بين ظهراني العرب لا في (بلاد الشام). قال: (أمّا التقليد العربي اليماني الذي دوّنه وهب بن مُنَبِّه... فيقول: لم يزل بنو إسرائيل يزحفون بالتابوت حتى كان في زمن الحارث بن مضاض الجُرْهُمي بعد موت إسماعيل النبي عليه السلام، وبعد موت ابنه ووصيّه نابت بن قيدار بن إسماعيل، فبدّل بنو إسرائيل دين داود وسليمان صلى الله عليهما وانتحلوا على الزبور كتبًا انتحلوها... والمَلِكُ يومئذٍ بمكّة وما والاها الحارث بن مضاض الجُرْهُمي. فلمّا أتى إسرائيل إلى مكّة... برز إليهم جُرْهُم في مائة ألف، وعملاق في مائة ألف،... فانهزم بنو إسرائيل ومن معهم ورموا بالتابوت. فأخذته جُرْهُم وعملاق، فأتوا به إلى مزبلة من مزابل مكّة، فحفروا له ودفنوه فيها... فأخذهم الوباء بالغمّ... فعمد الحارث بن مضاض إلى التابوت في تلك المزبلة فاستخرجه ليلًا. وأخذه همسيع [بن نابت بن قيدار بن إسماعيل]. وكان عنده يتوارثونه وارث عن وارث إلى زمان عيسى بن مريم عليه السلام، فإنه أخذه من كعب بن لؤي بن غالب)(2) فما النصّ الأصلي الذي اقتبسه (الصليبي) وحاول إسقاط ما لا يخدم فرضيّاته منه؟ إنه قول (ابن مُنَبِّه)(3): (قال أبو محمَّد: لم يزل بنو إسرائيل يزحفون بالتابوت حتى كان في زمن الحارث بن مضاض الجُرْهُمي بعد موت إسماعيل النبي، صلى الله عليه وسلم، وبعد موت ابنه ووصيِّه نابت بن قيدار بن إسماعيل، فبدَّل بنو إسرائيل دين داود وسليمان، صلَّى الله عليهما، وانتحلوا على الزبور كتبًا انتحلوها، [وأنهم زحفوا إلى أهل الحَرَم، وهم إذ ذاك عملاق وجُرْهُم وبمكَّة بنو إسماعيل، وكان إذ ذاك القائم والوصيّ فيهم بدِين الله ودعوة إسماعيل: همسيع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، صلَّى الله عليهما.] والمَلِكُ يومئذٍ بمكَّة وما والاها الحارث بن مضاض الجُرْهُمي، فلما أتبنو إسرائيل إلى مكَّة [زاحفين بمن نصرهم من بني إسحاق والرُّوم الأول من أرض الشام]، برز إليهم جُرْهُم في مئة ألف، وعملاق في مئة ألف، [فقاتلوهم قتالًا شديدًا]، فانهزم بنو إسرائيل ومن معهم، ورَمَوا بالتابوت، فأخذته جُرْهُم وعملاق فأتوا به إلى مزبلةٍ من مزابل مكَّة فحفروا له ودفنوه فيها(4)، [فنهاهم عن ذلك همسيع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل، ونهاهم عنه الحارث بن مضاض الجُرْهُمي، فعصوهما وقال لهم همسيع: إن فيه صحف الزبور وفيه السكينة]؛ فأخذهم الوباء بالغمّ، [وكانوا لا يتداركون]؛ فعَمَدَ الحارث بن مضاض إلى التابوت في تلك المزبلة فاستخرجه ليلًا، وأخذه همسيع وكان عنده يتوارثونه وارث عن وارث إلى زمان عيسى بن مريم، عليه السلام، فإنه أخذه من كعب بن لؤي بن غالب.) (5)
    وهنا تلحظ حذف الصليبي العبارات التي جُعلت هنا بين أقواس مضلَّعة. وسبب ذلك الحذف واضح. ثمَّ علَّق في الحاشية قائلًا: (كان وهب بن منبّه اليماني، على ما يقال، من أصلٍ يهودي، يتقن اليونانيَّة والسريانيَّة والحِمْيَرِيَّة، ويُحسِن قراءة الكتابات القديمة. والنص الذي لدينا من كتابه (التيجان في ملوك حِمْيَر) هو من رواية عبدالملك بن هشام الحِمْيَري، صاحب السيرة النبويَّة (توفي 216هـ/ 831م). وقد رواه أسد بن موسى، عن أبي إدريس بن سنان، عن جَدّه لأُمّه وهب بن منبّه. والخبر المقتبس أعلاه من (كتاب التيجان) يرويه أيضًا الحسن الهمداني في الجزء الثامن من (كتاب الإكليل). والرواية في (كتاب الإكليل) هي الرواية التي كان الصديق فرج الله صالح ذيب قد أرشدني إليها أصلًا. وهناك بعض الاختلاف بين الروايتين. وقد أسقطتُ ما هو مختلف بين الروايتين من الاقتباس. والنصّ الأصلي الكامل لكتاب (التيجان) لم يُعثر عليه بعد، على ما أعلم.)(6) وهذا الإسهاب في نعت الخلفيَّة الثقافيَّة والمعرفيَّة لدى (وهب بن مُنَبِّه)، والتفصيل في سند الرواية، والإشارة إلى مجيئها من طريق آخر، هو (الهمداني)، كلّ ذلك غايته تأكيد مصداقيَّة الخبر وأهميَّته، بحسبانه شاهدًا قويًّا لقول (الصليبي). لكنه في الواقع شاهدٌ عليه لا له في مسألة مَواطِن (بني إسرائيل)؛ ولذلك حَذَفَ ما يتعلَّق بذلك من الاقتباس. والإلحاح عل ى الأصل (اليماني) و(اليهودي) (لابن مُنَبِّه)، وأنه كان يُتقن (اليونانيَّة والسريانيَّة والحِمْيَرِيَّة، ويُحسِن قراءة الكتابات القديمة)، مؤشِّرات على بُطلان فرضيَّات الصليبي. إذ كيف لم يسمع وهب بن مُنَبِّه قط بأن بني إسرائيل كانوا يقيمون في ديار آبائه وأجداده، في جنوب الجزيرة العربية؟ وكيف لم يتناه إليه قط خبرٌ مما ظلَّ يزعمه الصليبي حول تاريخ بني إسرائيل في تلك الأصقاع؟
    ثمّ حين نعود إلى صاحب (الإكليل)، لا نجد ما ألمح إليه الصليبي من اختلافات جوهريَّة بين الروايتَين، زاعمًا أنها كانت وراء ما قام به من إسقاط ما هو مختلف بين الروايتَين. اللهم إلَّا أن رواية صاحب (الإكليل) جاءت مقتضبة في بعض تفاصيل رواية (التيجان). أمَّا ما أسقطه (الصليبي) من الاقتباس عن (وهب بن مُنَبِّه)، فلا معنى له، إلَّا معنى واحد، وهو تحاشيه الإشارات الواضحة إلى أن (بني إسرائيل) كانوا في أرض (الشام)، وإنما شَنُّوا حملةً على (الحَـرَم)، فرُدُّوا على أعقابهم مهزومين إلى الشام. وهذا ما وردَ أيضًا في (الإكليل)(7): (...الحارث بن مضاض الجُرْهُمي الذي سلب قومُه تابوتَ بني إسرائيل حين قصدوا مكَّة، وهو التابوت الذي ذكره الله في كتابه: {فِيهِ سَكِينَةٌ من ر‌بِّكُمْ وبَقِيَّةٌ ممَّا تَرَ‌كَ آلُ مُوسَى? وآلُ هَارُ‌ونَ تَحْمِلُهُ المَلَائِكَة}، فاجتمعت جُرْهُم، وعدنان، وطسم، وجديس، والعمالقة، وجميع العرب والتقوا ببني إسرائيل لقتالهم فهزموهم إلى بيت المقدس، وأخذوا التابوت على بني إسرائيل، وله حديث يطول شرحه.)
    ثمّ أضاف: (قال وهب بن مُنَبِّه: لمَّا أخذ جُرْهم التابوت، هم وعدنان ومن معهم من العرب: العماليق وطسم وجديس، تهاونوا به ودفنوه في مزبلة، فنهاهم عن ذلك الحارث بن مضاض الجرهمي والنبي إسماعيل بن الهَمَيسَع بن نابت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، فلم ينتهوا، فأهلك الله الفريقين جُرهم وعدنان، أهل الحَرَم جميعًا، ولم يبق منهم إلَّا اليسير الذين لم يُرضهم دفن التابوت، وهم القليل حول أربعين رجلًا، والذين هلكوا مئتا ألف ونيّف، أرسل الله عليهم الرُّعاف. فحزن الحارث بن مضاض على قومه لمَّا هلكوا، وسار على وجهه يسيح في الأرض ثلاث مئة سنة حتى أَلَـمَّ به الكِبَر والهرم والعمَى. واستخلف على بقيَّة قومه النبي إسماعيل بن الهميسع. وقال له أن يُخرِج التابوت من المزبلة ويحفظه عنده، ففعل ذلك.) (8)
    فأين ما يسوِّغ به (الصليبي) ما أسقطه من رواية (وهب بن مُنَبِّه) ممّا هو مختلف بينها ورواية صاحب (الإكليل)؟ بل لقد أسقطَ ما هو متَّفِق بين الروايتَين، كنَهْيِ (الهميسع) و(الحارث) قوميهما عن إهانة التابوت، والإشارة إلى أن (بني إسرائيل) جاؤوا غزاة من (بلاد الشام)، لا من جنوب الجزيرة. وها هو ذا صاحب (الإكليل) يؤكِّد كذلك ما ذكره (وهب بن مُنَبِّه) من شاميَّة هؤلاء الغزاة، بقوله: (فاجتمعت جُرْهُم، وعدنان، وطسم، وجديس، والعمالقة، وجميع العرب والتقوا ببني إسرائيل لقتالهم فهزموهم إلى بيت المقدس).
    هكذا، إذن، كان يتعامل الصليبي مع النصوص، باجتزاءٍ وانتقاءٍ وتقوُّل.
    [للنقاش بقية].
    ** ** **
    (1) 1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 29.
    (2) م.ن، 29- 30.
    (3) (1347هـ)، التيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، ، 179- 180.
    (4) إذا صحَّ هذا الخبر، فإنه يُناقض ما وردَ في (سِفر الخروج، الإصحاح 25) من أن التابوت كان ذا فخامة خاصَّة، وأنه مَطْلِـيٌّ بالذهب النقي من الداخل والخارج، وله إكليل من ذهب، وعلى طرفَي غطائه كَرُوبانِ من ذهبٍ، باسطَين أجنحتهما إلى فوق، مظلِّلَين الغطاء، ووجهاهما كُلُّ واحدٍ إلى الآخَر. ولو كان التابوت كذلك، لما ألقاه (الجُرْهُمِيُّون) في مزبلة!
    (5) يسوق (ابن مُنَبِّه، 184- 186) على لسان (الحارث بن مضاض) تفسيرات تاريخيَّة مهمَّة لتسمية بعض الأماكن بأحداث دارت فيها، ومنها بعض الأماكن التي سُمِّيَت بأسماء ذات علاقةٍ بحملة (بني إسرائيل) على (الحجاز)، كـ(فاران)، و(قعيقعان)، و(فاضحة)، و(أجياد). ففارن، مثلًا، سُمِّي بهذا الاسم لأن (عمرو بن مضاض)- أخا الحارث- قتل (فاران بن يعقوب، من سبط ابن يامين) على ذلك التلّ؛ فسُمِّي: تلّ فاران. وأمثال هذه التسميات هي ممَّا درج (الصليبي)، وغيره، على تحميله ما لا يحتمل من التأويلات التوراتيَّة. ويمكن لباحث أن ينهض بمشروعٍ في تقصِّي ذلك وغيره لتأصيل التسميات الجغرافيَّة تاريخيًّا، بعيدًا عن النهج الحُروفي المجرَّد الذي اتَّبعه هؤلاء التوراتيُّون للربط بين تلك التسميات وما جاء في التوراة.
    (6) الصليبي، حروب داوود، 30.
    (7) (د.ت)، ب عناية: نبيه أمين فارس (صنعاء: دار الكلمة- بيروت: دار العودة)، 163.
    (8) م.ن، 167. ويلفت صاحب (الإكليل) النظر إلى أنها ما زالت في عصره أبياتٌ شِعريَّةٌ (للحارث بن مضاض) حول تلك الأحداث مكتوبةً على (مقام إبراهيم).
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  10. #10
    الأخت الكريمة رغد أحييكِ على حسن اتقاء الموضوعات وأغطبك على اجتهادكِ ونشاطكِ المميز
    كتاب كمال صليبي سبق أن قرأته من زمن طويل قد يكون في ثمانينات أو بداية التسيعنيات لا أذكر ولم أشعر بأهمية الرد عليه، ومنذ سنوات تقريباً عام 2007 قرأت قالة بدأ كاتبها بنفس فكرة كمال صليبي وقد استفزتني المقدمة فكتبت مقالة رداً على نطرية كمال صليبي ةنشرتها، وقد ضمنتها بعد ذلك بحث لي في نقد نظرية التوراة عن أصل الأجناس في ردي على نطرية تقول أن فرعون موسى عربياً، ومنذ سمنتان وصلتني مقالة عن نظرية موفق الربيعي وقد وسع فيها المساحة الجغرافية لنظرية كمال صليبي لتشمل اليمن ومناطق أخرى، وكنت سبق لي أن سمعت محاضرته عام 2009 تقريباً على قناة الجزيرة مباشر وأعلم مضمونها ولكن المقالة تحدثت عن القدس وأسمائها ونفس الأسماء محرفة في اليمن وقد رأيت أن أرد عليها ولكني صرفت نظر، أمس عندما قرأت الجزء الأول من هذا الموضوع وقلت لنفسي لماذا لا أنشر ما كتبته تعضيداً لما كتبه الأخ الكريم جزاه الله خير ولا أعلم إن كان ذكره في بقية الحلقات أو لا؟
    وقد نشرته في القسم التاريخي وهذا الرابط
    http://omferas.com/vb/t55136/#post215308
    وتقبلي خالص تحياتي

المواضيع المتشابهه

  1. أكبر جنازة بالتاريخ
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى حكايا وعبر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-03-2018, 07:46 AM
  2. تباريح الفصيح ( ا .د عبدالله الفيفي)
    بواسطة ظميان غدير في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 08-29-2011, 04:24 PM
  3. التمرغ بالتاريخ
    بواسطة عبدالغفور الخطيب في المنتدى فرسان الأدب الساخر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-05-2010, 07:46 PM
  4. قيامة المتنبي - عبد الله الفيفي
    بواسطة خشان محمد خشان في المنتدى العرُوضِ الرَّقمِيِّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-18-2010, 03:49 AM
  5. نرحب بالاستاذ/محمد بن مسعود الفيفي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الترحيب
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 11-07-2009, 05:08 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •