" مخلوع فى زمن الحب " ...
دراسة نقدية للشاعر
محمد الشحات محمد
إن متابعة تطورات المشهد الشعرى فى الآونة الأخيرة وقراءة ما وراء النصوص تؤكدان أن الصبر والصبار كلاهما لزمة و ما زورة فى كلمة لحن .. ، وإذا كان لا شئ يغنى عن التطور فإن إبداعنا الحقيقى لن يتآكل مهما حاول المغرضون ، بل ستظل الحركة الإبداعية فى تطور مستمر ، وسيظل النسر الشاعر هو ضمير الأمة وعين المستقبل.
ودوما يظل الحب هو نبراس الحياة ، لذا كان لزاما علينا أن تكون حبات الحب هى المحرك الرئيسى لمشاعرنا تلك المشاعر التى تدفعنا إلى احترام التواصل وتقديس العلاقات الطيبة .. ، والتجربة خير دليل ،
والشعراء قد يتسامحون لكنهم أبدًا لا يفقدون الذاكرة ، تلك الذاكرة التى تجعل من الأحداث الساخنة جدًا حروفا ذات حوار أرقى ، وما أجمل أن تكون الأنثى رمزًا لإشكاليات متنوعة ، ولاسيما فى الشعر .. ، فلم تعد " الخنساء الشاعرة " بمعزل عن العالم ، ولم تعد الأدبيات السياسية ألسنة فى الجدران.
وفى ديوان (مخلوع فى زمن الحب) للشاعر الصديق أسامة هلال عجور نجد التعبيرات والصور ذات دلالات موحية ومؤثرة فى جسد النص الطالع على هيئة أنثى .. تلك الأنثى القصيدة التى تتمرد على الزرع الأخضر حتى لا يشتعل فى " طوابير " اختراق " حق الفيتو " وقضايا " أعباء الزواج " ومستجدات " العصر الفيروسية " .. ، وتعمل قصائد هذا الديوان على التأصيل المعرفى للأمصال واللقاحات التى تلامس الفكر والوجدان فى آن واحد.
يقول فى " مخلوع " :- البنت لما تموع / ألقى الشباب مخلوع / الوشم فوق جسمها بيصحى فيا الجوع / يااااه .... / "
يربط شاعرنا مختلف الهموم كاشفا الخط الواصل بين الاقتصاد والسلوكيات الزائفة ولم يفرق بين المجتمعات النامية والمتقدمة مؤكدًا أن الأخلاقيات إذا اهتزت عروشها سقطت أعمدة النور فيها.
ويستكمل فى نفس القصيدة صور التردى ، فيقول " شابط فى غصن الزمن / والقلب بات موجوع / صحيت فى جانبى الفتن / ومعدش فيه ممنوع " ، والشاعر هنا إذ يتلاعب بالألفاظ ويتموسق على " مجزوء البسيط " يدخل فى نفس الوقت إلى جوف الترميز الذى يجعله ينطلق من الفضاء الواسع حتى يدخل إلى المطبخ حيث الأطبة فى صراع مستمر بين القلب والجنب واللبان الخادع .. ! ،
فيختتم بسؤال تعجبى غرضه إنكار القبح ويقول : تبكى الأطبة بألم / الوصل ليه مقطوع ؟ " ، وما إن يتساءل يدرك على الفور أن " البحر عَام فى لبان / والكل حب وخان " وكأنه بهذه النتيجة يقرر أن فساد المجتمعات يبدأ من تماويج وتقاليع تحملها البنت دون وعى فترسلها نووية إلى النبض المقهور كى يتوقف .. والشاعر هنا يواجه هذا التوقف بوقفة منه عبر الزمن الواعظ فى صورة غير مرئية لكنها تسكن فى الهدف ، وعلى نفس المنوال يواجه الشاعر عملية الكيل بمعايير غير منضبطة فى استخدام " حق الفيتو " مؤكداً أن القوة لابد أن تكون ناجمة عن تربة صالحة وضمير حى ،يقول على مجزوء بحر المتدارك :- " آه من حق الفيتو / متسلط ع الأزهار / سيف بتار لوجيتوا / هنقطع فى التيار " ومع أن أبيات هذه القصيدة تبدأ بالتوجع والـ " آه " لكنها تظهر مدى الإصرار – ولو بالشعر – على مواجهة القمع والعنف ، ويتخذ " هلال " شكل القصيدة العمودية إسقاطا منه على أصالة الموروث وصلاحيته فى معالجة كل القضايا المستحدثة وإن كانت فى أروقة الغرب .. ،ويصر الشاعر على الالتزام بالروى الواحد فى كل شطر من أشطر القصيدة ، وإذا كان الروى فى الشطر الأول هو التاء المتحركة فإن روى الشطر الثانى هو الراء الساكنة مشيراً بذلك إلى أن الأثر الحقيقى دوما يكون نبتة خضراء تخرج من بين شطرى الحياة والمتمثلين فى الحركة والسكون ، وبالرغم من أن قصيدة حق الفيتو تتكون من ثمانىة أبيات فقط إلا أنها تعد – وببساطة - مشحونة بالصور والمقابلات والمتضادات ، وكذلك تلعب فيها الأنثى دورها المحورى فى القبض على قابلة الأحداث وإن كانت بلغة مشفرة يمكن لكل قارئ أن يفك رموزها تبعا للإحساسات الخاصة به .. ، يقول فى البيت الخامس " مسكت كيتا ف كيتو / واتبدل ليل بنهار ".
والبيت الخامس هنا هو بداية النصف الثانى للقصيدة ، واستخدام الشاعر هنا لكلمة " مسكت " فى زمن الماضى يؤكد مدى إيمانه بقدرة المرأة - إن شاءت - على قلب الأشياء وإدارتها برؤيتها الخاصة ، فيمكنها ، تبديل الليل بالنهار ويختتم القصيدة والنصف الثانى منها بتحويل الوردة إلى صبار ، وكأن شاعرنا هنا أراد أن يوجه تحذيرا إلى أولياء الأمر من استخدام القانون السلطوى بطريقة متطرفة حتى لا تنفجر الأمور وتصبح الصورة معكوسة ، والمرأة فى هذه القصيدة إذ تمثلها " كيتا " عبارة عن رمز إلى المحاولة المستمرة فى تغريب وتغييب العقل العربى والرهان على تحويل ذلك العقل إلى أداة مستغربة فى شكل الـ " هو " المتمثل فى " كيتو " ، وتعد قصيدة " حق الفيتو " علامة من علامات النبض الشعبى فى شعر العامية وتنافسها على نفس الموقع " مخلوع فى زمن الحب "
ولأن الشاعر لا ينفصل عن قضايا مجتمعه ، ويسكن - لا إراديا - فى نقطة التماس بين همومه الخاصة وهموم العالم من حوله ، فقد طرحت قصيدة " طوابير " كيفية مواجهة الأزمات وسبل معالجتها بعد تشخيص حقيقى لأسباب ودوافع هذه الأزمات ، ومن أهم هذه الدوافع اغتصاب الحقوق وعدم احترام المكانة العلمية والخبرات العمرية و (اختلاط الحابل بالنابل)
يستهل الشاعر قصيدة طوابير بكلمة (أزمات) وكأنه أراد أن يصنع صدمة كهربائية من نوع خاص فتكون على شكل اللقاح الذى يهيئ مناعة المتلقى للتعريف بطبيعة الأزمة حتى يتسنى له تفعيل المضاد الحيوى واختراق الطوابير الجائعة فيقول فى القصيدة ذاتها : " الكل عض فى بعض / طلب الحصان تحمير " ويختتم بقوله : " ونصيحة حِن ورِق / قوتك بلاش تبذير " .. ، ويحترم الشاعر عقل المتلقى ويأتى له بالبرهان بأسلوب سلس يرجع إلى طبيعة الخلق والغرض من العلاقات الإنسانية ، ويتأثر بالموروث العقائدى فى قول الرسول الكريم r " الدين النصيحة " ، وبقوله I } يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { [الأعراف:31] وتطبيقا لقوله I } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { [الحجرات:13] .
يقول شاعرنا بلسان الرجل البسيط " علشان أمم تاكل / حسانين ، قمر ، و سمير " وهنا تكمن أهمية التعارف والتعاون على " البر والتقوى " وكذلك تنطلق أشعة الاطلاع على ثقافات الآخرين ومدى التأثير والتأثر باللغات الحية , فهو هنا ذكر الأسماء الثلاثة مستخدما أداة العطف (الواو) قبل الاسم الأخير فقط كما هو معهود فى اللغات غير العربية , ولأن الصدق دائماً ما يؤدى إلى حقيقة واضحة تعنى بالبر ، والبر يؤدى إلى الجنة ، والجنة أولى مراتب الدهشة ، والدهشة بداية التحرك الإبداعى ، والإبداع هو التمرد على المألوف وإيجاد حلول إيجابية بلغة مموسقة وتركيب دقيق ، فقد لعبت المعاناة دورا فى صدق التجربة .. ، تلك التجربة التى أعلنت عنها قصيدة " كتر الشقا " والتى كتبها الشاعر على بحر مجزوء البسيط وانطلق من خلالها نحو الفضاء الأرحب حيث أخذ من أسرته وأولاده سر هذا الانطلاق ، فكما أن الأشياء تحتمل الصواب والخطأ والخير والشر فإن " كتر الشقا " أصبح أيضا " بوشين " ، وبزيادة الهموم وتخَلّى الأصدقاء تأتى صورة " مغمض الودنين " وكذلك الصورة فى السطر الشعرى " مصروف قطم جملين " وفى نفس القصيدة يقوم الشاعر بالتضمين بالموروث فيقول عن ابنه : " بيقلد المأمون " مشيرا إلى الخليفة المأمون وعصره الذهبى .
ثم يشير توافق اسم الابن مع اسم الخليل إبراهيم فى قوله : " اسمه الخليل براهيم " .. ، ويعتبر " أسامة هلال " قصيدته هى مركز الدائرة التى تعنى بالقضايا العامة ، ورغم خصوصيتها فهو يواجه نداءاته إلى ولده فى قصيدة " عايزك أكبر " ويدعوه إلى العلم والحرص على التمسك بالقيم ، ويشبه تلك الدعوى بأنها حاسة الإبصار فيقول " من غير العلم حياتنا ظلام " .. اوعى تغمض .. أو تتحسر "
ويتضمن " ديوان مخلوع فى زمن الحب " عدداً من الزجليات التى تهتم بواقع التشكيل الأسرى فى المضمون العولمى .
يقول فى " أعباء زواج " : " دى عايزة أوضتين وسفرة / وشبكة وقمصان نوم / وبانيو كبير وواسع / تتعلم فيه العوم / وآل اتنين ثلاجة / ملانه فراخ ولحوم / ومعاها لمون ع الموضة / ومكنة تقشر توم ".
والشاعر فى هذه القصيدة الزجلية يقوم بدور الناصح الأمين من خلال لغة ساخرة وتهكم شعرى حتى نتجنب ارتفاع المهور الذى يؤدى إلى نتائج سلبية فى عدم القدرة على الزواج ، وبالتالى انتشار الأحاسيس القصيديرية فى زمن الحب ، ومن ناحية أخرى يتعرض الشاعر إلى قضية مجتمعية ذات أهمية كبرى وهى " كفالة الأيتام " ويضرب مثلا حيا على لسان فتاة يتيمة ارتدت قميص الـ " العانس " ويشبه مدى احتضان الأم لها ولأختها - فى ظل البرد القارص - بأن الأجساد كلها تداخلت فى جسد واحد ، ويعبر عن ذلك بقوله : " ونام الكل فى واحد " ، والشاعر فى هذه القصيدة يوجه عتابا جميلًا إلى الجيران الذين لا يهتمون بشؤون جيرانهم وإن كانوا فى فراش اليتم يرتعون .. ،
وبنفس اللغة الساخرة يؤكد الشاعر على الإصرار والتعجب من إصرار بعض المخادعين على التملق والنفاق ليقول فى قصيدة " تنسانى " :- " طالب ود فى توب احسانى : ! / وتقولى أنا مش هاغلط تانى / تعبت راسى وآه يا ودانى " .
وها هى فراسة الشاعر تمنعه من الوقوع فى شباك الخديعة .. ،ومع انتشار الخلاعة تمتد أيادٍ خفية قد تتحور وتتكاثر وتتغلغل وتسكن كل الكائنات ، وعلى سبيل المثال قوله : " فيروس عايش على الأرض / موجود فى سقعة وحر / خبيث ونشاطه فى البرد / يكفيكم طعن الشر " ، ويستمر الشاعر فى شرح الأضرار وأسلوب الوقاية منها مؤكدا على دور البحث العلمى وسلوكيات الأفراد بلغة شاعرة وإسقاطات تجعل من النص الواحد عدة نصوص ، وتولد من الفكرة الواحدة عدة رؤى .. ، وكما تعرضت قصائد " هلال " إلى القضايا المجتمعية والسياسية ، لم يغفل تلك الحركات التحررية التى عزفت على موسيقى انتصارات أكتوبر وعرفت معنى " ساعة الصفر " .. ، وهكذا فإن عناوين قصائده المتنوعة والتى تبدو فى ظاهر الأمر متخصصة فى موضوع ما تحمل بين طياتها صلاحيات وجودها فى الهيكل الإبداعى المتجدد.
وأخيرا .. إن ديوان " مخلوع فى زمن الحب " للشاعر أسامة هلال عجور ليس فقط مجرد باكورة الإصدارات وإنما هو نقطة مضيئة فى صرح شعر العامية المعاصر.