أنت..... الخصم والحكم؟!سلام مرادنبدأ هذه الدراسة بمقولة لنعوم تشومسكي عن الكتاب الذي بين أيدينا «كتاب عارودي تصحيح هائل للأضاليل والأباطيل والأفكار الخاطئة..».
الكتاب يتناول عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1967، وهو استكمال لكتاب نشره المؤلف د.نصير عاروري بعنوان: «تعويق السلام».
يبين الكتاب التحولات الحربائية للولايات المتحدة الأمريكية تجاه عملية السلام واتجاه الطرفين المتحاورين «الفلسطينيين والإسرائيليين».
فالعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تحولت من علاقة متميزة إلى حلف استراتيجي، وهذا التحول ينسف كلّ أمل في نزاهة الوساطة الأمريكية، فبعد انتهاء الحرب الباردة ازداد التحالف الأمريكي الإسرائيلي قوةً.
فما لم يحققه باراك في كامب ديفيد من تفكيك للاتفاقيات السابقة، تحقق في عهد أرييل شارون وذلك بفضل الشروط التي استجدت بعد أحداث أيلول /سبتمبر 2001م، فهذه الأحداث كانت القشة التي قصمت ظهر الدولة الفلسطينية وقضت على الفرص الباقية لحل الدولتين.
فحجج الإرهاب والعنف ساعدت إسرائيل وكانت بالمقابل بالضد من مصالح العرب والفلسطينيين، فإسرائيل استفادت كثيراً من أحداث /11/ أيلول، إلى درجة تعمق فيها التحالف الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية فأصبح بالتالي التحالف عضوياً، وبالمقابل ظهر العرب والمسلمون وبالأخص الفلسطينييون كأنهم في الطرف المقابل لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت حجة خدمت السياسات الإسرائيلية وبالتالي جيرت إسرائيل هذه الأحداث لمصلحتها وضد مصالح الفلسطينيين.
فالمسؤولون الأمريكيون ووسائل إعلامهم تكاد تجمع على أن النشطاء الإسلاميين وبعض الأنظمة مثل إيران والسودان وسوريا، إضافة إلى حزب الله في جنوب لبنان وحماس في غزة، هم جزء من تهديد إسلامي عالمي يشكل خطراً مركزياً على الغرب.
إن توظيف مسألة كهذه في عملية السلام لم يبدأ مع باراك أو شارون أو مع أحداث أيلول/سبتمبر، بل إنه يرجع ضارباً في الزمن إلى نهايات الحرب الباردة عندما حلّ الإسلام محل الشيوعية، وصار العدوَّ اللدود الأول للديمقراطية الليبرالية الغربية والقيم التي تنهض عليها حضارة الغرب.
كذلك أصبح الإسلام هدفاً مستهدفاً لأنه يشكل التحدي الأكبر لدولة إسرائيل، وقد أشار المحلل الإسرائيلي ناحوم برناع بصراحة مثيرة إلى الحملة الإسرائيلية على الإسلام السياسي منذ عام 1994، وكتب مؤكِّداً على ما تجنيه إسرائيل من هذه الحملة، فرأى أن أكبر فائدة تجنيها من حملتها الضارية على الإسلام هي: إدخال السرور على قلب الجمهور الأمريكي، ففي الكونغرس الأمريكي نفسه هناك من يذهب إلى القول: إن إسرائيل فقدت قيمتها الاستراتيجية للأمريكيين.
ويأتي الجواب. إن هناك حملة على الإسلام؛ وإن إسرائيل ستصبح طليعة الغرب في محاربة العدو الإسلامي، والفائدة الثانية هي تبريد عملية السلام.
كما أن مواقف جورج بوش خدمت إسرائيل بشكل قوي، فهو صاحب المواقف الثنائية الخير والشر، وبالتالي القول: «من معنا» ومن هو «ضدّنا» لم يترك فسحة ضئيلة لمجرد الأمل في التمييز بين الإرهاب والمقاومة أو بين السبب والمسبب، كما أن الإعلام الأمريكي يسلط الضوء على العمليات الاستشهادية التي تقتل إسرائيليين مدنيين، أو عسكريين، ويلقي تعتيماً كاملاً على إرهاب الدولة الإسرائيلية والجرائم المستمرة، والاغتيالات، وكتائب الموت، وتدمير البنى التحتية والقومية، والحجر على سكان المدن والقرى الفلسطينية، وحظر التجول فترات طويلة، والاعتقالات الإدارية والتعذيب، والمصادرة المنهجية للأرض الفلسطينية لبناء المستوطنات والطرقات الخاصة بالمستوطنين وحدهم.
إن الإعلام الأمريكي يتجاهل كل هذه الحقائق وكأنها لم تكن، حتى إن الصحافة الأمريكية لم تواكب الإعلام الإسرائيلي، الذي يعرض أحياناً جزءاً من المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، فالصحفية الإسرائيلية عميرة هاس (Amira Hass) مثلاً وصفت في هآرتس تدمير وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله خلال شهر آذار مارس 2002م، «كان من الصعب الدخول إلى طابقي المبنى، بسبب الرائحة المؤذية للغائط والبول، إن ورق المراحيض المستعمل متناثر في كلّ مكان، وهناك في بعض الغرف طعامٌ منتن غير بعيد عن أكوام الغائط وورق المراحيض، وثمّةَ درج في إحدى زوايا الغرفة تغوط فيه أحدهم، لم يكن ذلك بعيداً عن صناديق مملوءة بالفواكه والخضار تركها من تركها، أما المراحيض فكانت تفيض وفيها زجاجات ممتلئة بالبول والغائط وورق المراحيض، لم يترك الجنود وراءهم عبارات مكتوبة على الجدران كما فعلوا في أماكن أ خرى، لكنك ترى حيثما وجهت طرفك رموز الشمعدان (اليهودي) ونجمة داوود، ومدائح لفريق كرة القدم بيتار (Betar)»ص37.
هذه الحكاية لا يمكن قراءتها أبداً في الصحافة الأمريكية، فكثيرٌ من الأمريكيين يتفقون مع مناحيم بيغن بأنه «مامن أحد يعطي إسرائيل دروساً في الأخلاق»، والجيش الإسرائيلي هو الجيش الأخلاقي الوحيد في العالم، وأنه يعتنق دائماً عقيدة طهارة السلاح.
فالصحافة الأمريكية ومنذ عقود لم تتجرأ على الإشارة إلى التمييز في القوانين والمرافق الطبيعية بين المستوطنين والفلسطينيين من أهل البلاد في الضفة الغربية وغزة وهو شكل من أشكال التمييز العنصري (الأبارتيد)».
إن ضحايا سياسة الحصار المميتة مغيبون تماماً عن التلفزيون الأمريكي، كما أن وسائل الإعلام الأمريكية تقطع أخبارها فجأة للحديث بالصوت والصورة والتعاطف البالغ عن أية شاردة أو واردة تثير قلق الإسرائيليين؛ والحديث عن العمليات الاستشهادية هو الجزء الرئيس للصحف وأغلفة المجلات الكبرى وشاشات التلفزيون، لهذا تبقى التعليقات السريعة والتقارير المبهرة بِكُل توابل البروباغندا الإسرائيلية هي البديل عن الأخبار الحقيقية في الإعلام الأمريكي السائد. وبالتالي فإن كل ما تفعله الولايات المتحدة في العالم يوفر الشروط اللازمة لأن تكون إسرائيل قوة مهيمنة تقضي وتمضي في المنطقة تحت المظلة الأمريكية.
ولكن غارات شارون العدوانية لم تأتِ بالأمن الإسرائيلي المنشود، ولا بالاستسلام الفلسطيني المطلوب.
فالتكتيك الشاروني وبرأي كثيرٍ من الصحفيين الإسرائيليين يضر حتى إسرائيل وليس الفلسطينيين فقط.
فقد كتب جدعون سامت في صحيفة هآرتس:
«كل التقارير تؤكد أن ثمّةَ فرصة ذهبية لكسر حلقة العنف والثأر قد دفنت مع النساء والأطفال في غزة وإذا صحّ ذلك فهذا يعني أن رئيس الوزراء وثلة قليلة من الضباط الإسرائيليين الكبار قد تصرفوا بشكل بغيض مقزِّز».
إن سياسة صبّ الزيت على النار حققت نجاحاً كبيراً لاستراتيجية شارون؛ فقد أحرقت ممّا أحرقت حلاً سلمياً آخر، أو كما يقول البروفيسور مناحيم كلاييه: «إن رئيس الوزراء أرييل شارون، هو والمؤسسة التي يقودها يحرصون على الإرهاب ضد إسرائيل... فإذا لم يكن الهجوم المتعمد على السكان غير المقاتلين لتحقيق هدف سياسي إرهاباً، فما هو الإرهاب إذاً؟.. وفي هذا السياق أيضاً ماذا يكون ردّ الفعل ضد المدنيين... إذا لم يكن إرهاباً».
وهناك وصف آخر لاستراتيجية نسف كل محاولات وقف إطلاق النار، وتبرير كل أمل في المحادثات السياسية، كتبه ألكس فيشمان (Alex Fishman) المراسل المخضرم الذي غطى عدداً من القضايا العسكرية، والاستخباراتية لصحيفة يديعوت أحرونوت حيث قال: «بعد ساعة ونصف من موافقة رؤساء تنظيم فتح على نشر بيان، وقف إطلاق النار من جانب واحد فتكت إسرائيل بصلاح شحادة في غزة، وأحبطت بذلك شهرين من الجهود الرامية إلى وقف إطلاق النار».
وفي الولايات المتحدة أدان الرئيس بوش ثأر حماس في الجامعة العبرية، وعبَّر عن غيظه منها، بينما لم يزد الناطق باسمه عند الإشارة باستحياء إلى أن إسرائيل استخدمت العصا الغليطة في غزة.
وكان بوش، قبل عملية الجامعة العربية، قد نكأ الجرح، ومَلّحه، حيث أوعز إلى جون نيغرو بونتي، سفيره في الأمم المتحدة بأن يهدد ممثلي الدول العربية باستخدام حق النقض، إذا ألحوا على استصدار قرار يدين الهجوم الإسرائيلي.
أما وكالة الصحافة الأمريكية، فكشفت أن الولايات المتحدة أخبرت أعضاء مجلس الأمن أنها لن تنظر في أي قرار لا يدين الإرهاب الفلسطيني، ويدعو الطرفين إلى العمل على تسوية سياسية.
ومع نهاية /2001/ نجح شارون في توظيف القنابل الانتحارية، وجعلها من أقوى ركائز استراتيجيته، وراح يقوّض صرح أوسلو لبنة، لبنة، ويقطع الطريق على أية تسوية تنهي الاحتلال، بل راح يُعِدُّ لإعادة احتلال الضفة الغربية، وتمزيقها إلى ثماني مزق محاصرة ومعزولة بعضها عن بعض.
لقد أفلح شارون في تسويق هذه السياسة إلى جورج بوش في صفقة رابحة كبيرة، تعاظم معها الدور الجيو سياسي لإسرائيل في المنطقة، وذلك في إطار الاستراتيجية الأمريكية الشاملة التي تبنيها الولايات المتحدة من خلال الحرب على الإرهاب أما بخصوص المستقبل في مجال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لقد غاب كل من عرفات وشارون عن المسرح السياسي، وعرفات الذي مات أو اغتيل في تشرين ثاني/نوفمبر 2004، خَلَفه محمود عباس، الفتحاوي الذي يشاطر عرفات معظم رؤيته العامة ويختلف معه في أسلوب العمل.
انتُخِبَ عباس في كانون ثاني/ يناير 2005، رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتعتمد استراتيجيته بشكل عام على تسوية تقدّمها واشنطن، ويرى الباحث عاروري أنَّ هذا لن يحدث، وليس من المنتظر أن يحدث في المستقبل المنظور، بخاصة أن الزعماء الإسرائيليين على اختلاف أطيافهم متحدون في معارضة دولة فلسطينية مستقلة، أو قابلة للحياة، أو غير ممزقة جغرافياً، أو بحدود ما قبل 4 حزيران/ يونيو 1967، أو عاصمتها القدس، إن انهيار الاتحاد السوفياتي، والتشرذم العربي، إضافة إلى ما شهدته الولايات المتحدة من صعود نجم المحافظين الجدد والأصوليين المسيحيين المتعطشين لاستثمار أحداث 11 أيلول/سبتمبر إلى أبعد مدى ممكن. كل ذلك نسج الملابسات التي كانت إسرائيل تنتظرها.
إن خطّة أرييل شارون للانفصال الأحادي هي اليوم أبرز الأحداث، ولكنها بالطبع لا تنهي الاحتلال برغم تفكيك 17 مستوطنة، والخطة برأي الباحث في النهاية هي شهادة وفاة لخريطة الطريق. فإسرائيل لا تزال تسيطر على معابر الدخول والخروج براً وبحراً وجواً، ولا تزال تخفر غزة طولاً وعرضاً بعد أن حولتها إلى معسكر اعتقال لأكثر من مليون /300/ ألف فلسطيني، معظمهم من اللاجئين، ولعل غزة اليوم هي النموذج الإسرائيلي المثالي للتسوية في الضفة الغربية، حيث انتفى التواصل الجغرافي بجدار الفصل الذي يحتضن كل المستوطنات ويحيل الضفة الغربية، إلى مزق متشظية متباعدة يحشر فيها الفلسطينيون.
الجدار وخطّة الانفصال الأحادي كلاهما جزء من هدف عزيز على قلب كلّ صهيوني، وهو الحصول على الأرض من دون أهلها، وكلاهما سيؤدي إلى مصادرة _(20 ـ 25) في المئة من الضفة الغربية، التي لا تزيد مساحتها أصلاً عن /22/ في المئة من أرض فلسطين التاريخية، إن الأمل بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتجذر في فكرة دولتين قوميتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام، قد تلاشى، أو كاد، بسبب سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل التي تفاقمت مع النزعة الإقليمية المتصاعدة لتعريف الصراع باصطلاحات دينية، مما يتعذر معه الأمل بحل سلمي، إن موت ما يسمّى بعملية السلام هذه المدة كان متوقعاً ينتظره معظم العالم.
ويعزو الباحث سبب تشاؤمه من عملية السلام، إلى المزاج النرجسي الذي طبع نظرة الإدارة الأمريكية إلى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، ودفعها إلى غزو انفرادي للعراق وأفغانستان، ثمَّ إن عقيدة بوش حول الحروب الوقائية وسّع الهوّة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وبين معظم العالم الذي ما زال يتمسك بحكم القانون والحلول السلمية للنزاعات الدولية.
إن الرأي الاستشاري الذي أيدته محكمة العدل الدولية في 9 تموز/يوليو 2004 حول النتائج القانونية لجدارالفصل العنصري الإسرائيلي، هو مثال واضح عن عمق الهوة واتساعها سياسياً وثقافياً، ولاشك في أن تصويت /14/ قاضياً ضدّ إسرائيل ومعارضة قاض واحد فقط في معظم القضايا القانونية يذكرنا بالعدد الهائل من الفيتو الذي انفردت الولايات المتحدة بممارسته في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من حكم القانون، هذا التعويق الشرس للعدالة سيؤدي إلى مزيدٍ من العزلة الدولية للولايات المتحدة وإسرائيل.
إن ادّعاء بوش بأنه تلقى الوحي، وتقاطع هذا الادعاء مع خطط شارون التوسعية المبرقعة بدعوى الدفاع عن النفس، كلّ ذلك سوف يُفتضح وينكشف على حقيقته: إنه استنساخ مشوه للإمبرياليات البالية والاستعمار الاستيطاني اللذين كانا ولا يزالان وباءً ولعنة في عالم يبحث عن آفاق جديدة ودبلوماسية مختلفة.
ويرى الأستاذ عاروري أن عملية السلام تتقهقر وتتعثر منذ ثلاثة عقود، لأن الصهاينة يصفون السلام في آخر اعتباراتهم، وهم لا يُعْنَوْنَ إلا بالإجراءات البيروقراطية، المعدة سلفاً لتفسير الماء بالماء، ولإحاطتها بهالة من المزاعم والادّعاءات حول المعجزات الدبلوماسية المنتظرة، ولعل وهم السلام الذي زعمته الاتفاقيات أعظم خطراً من الوضع الحالي المتردي.
إن القوى التي تنشر الأوهام وتزّين السراب، لا تفتأ عن تحريف جوهر الصراع، ونسف كلّ مسعى طيّب للوصول إلى حلّ حقيقي، وهي بذلك تطيل عمر الاحتلال وتعيق فرص السلام العادل، السلام الوحيد الواعد بالتعايش الدائم بين العرب واليهود، السلام الوحيد القادر على تحويل الوضع السياسي للشرق الأوسط من ساحة حرب أبدية إلى أرض للكرامة، والازدهار، والتكافؤ، والحرية، وحق تقرير المصير.الكتاب: أمريكا الخصم والحكم ـ دراسة توثيقية في «عملية السلام» ومناورات واشنطن منذ عام 1967.
الكاتب: د.نصير حسن عاروري.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ حزيران /يونيو 2007.