* إنّ السياق التاريخي الذي نشأت فيه العولمة وتكوّنت يكشف عن تجلياتها، وهي تجليات ارتبطت أساسا بالفكر والثقافة وبالسياسة والاقتصاد وبالحياة الاجتماعية عامة، وإن كان الاقتصاد وتطوّره له الأولوية في جرّ العالم صوب العولمة وجعلها تشمل ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي وعسكري وغيره، بالنسبة للمظهر الفكري والإيديولوجي والفلسفي والثقافي للعولمة عموما والمصاحب للحرص على تعميم الفكر الفلسفي الليبرالي الرأسمالي الذي يقوم على مبادئ الحداثة والتحديث كما يفهمها الغرب، وهو فكر مناهض لكل أنماط الفكر في العالم، هذه المفاهيم والمقولات التي ارتبطت بالنهضة الأوربية وبالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي عامة وبالانفجار العلمي والتكنولوجي وبالثورة الصناعية، هي المفاهيم التي قامت عليها العقلانية والفكر النظري في الحضارة الحديثة والمعاصرة، وتمثلت في التنوير وإصلاح العقل وفي العقلانية ذاتها وفي الروح النقدية وإخضاع كل ما هو قائم تراثي فكري وثقافي وعلمي وفلسفي لمعيار النقد والغربلة، والتمسك بالروح العلمية وبمقوماتها في مواجهة الأفكار غير العلمية، وإقصاء الفكر الفلسفي الكلاسيكي الذي تميّز بطابعه الم
يتافيزيقي والغيبي أحيانا وبطابعه المثالي المجرد في أحيان أخرى، وإبعاد كل ما هو لا علمي من ديني وسحري وغيره، والتمسك بالتوجه العلماني الذي يُقصي كل مقدس أخلاقي أو ديني أو إنساني، ويفصل بين الدنيوي وغير الدنيوي ولا يهتم إلاّ بما هو دنيوي، ومن المفاهيم الأساسية في الفكر الغربي الحرية في الحياة الفردية وفي الحياة الاقتصادية، والحرية والتعددية في الحياة السياسية، وصار مفهوم الحرية شعار الحياة في العالم الغربي فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وممارستها بالصورة الغربية علامة التحضر ومواكبة العصر.
* ارتبط تعميم الحداثة ونقلها خارج الغرب الأوربي وخارج الولايات المتحدة الأمريكية بإيديولوجية العولمة التي تقوم مبدئيا على المبادئ والأهداف التي يحملها النظام العالمي بعد انقضاء عصر الاستقطاب ونهاية الحرب الباردة، مبادئ تمثلت في الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وتعميم منتجات العلم والتكنولوجيا في العالم وحماية البيئة والحد من التسلح ومنع انتشار التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل، واعتماد أسلوب الحوار والتسامح والتعايش من خلال حوار الأديان والثقافات والفلسفات، والعقلانية التي قام عليها الفكر الليبرالي الحداثي والمبادئ التي تمثلّتها القوى الكبرى أخذت طابع العولمة وصفة الكونية والكوكبية من خلال حرص القوى المهيمنة على نشر ثقافة العولمة الفكرية والفلسفية والتي تمُثل في جوهرها النموذج الثقافي الفكري والفلسفي الغربي الأمريكي بجميع خصوصياته، النموذج الذي ارتضاه الغرب لنفسه وفرضه على غيره عن طريق العولمة التي تجلّت فيه تربويا وثقافيا وفكريا وفلسفيا، ومن الجانب السياسي سيطرة النموذج الديمقراطي الغربي في تنظيم شؤون السلطة وتسيير دواليب الحكم، كما تأسست الرأسمالية الاقتصادية عل
ى الليبرالية وعلى حرية السوق وانفتاحه بدون حدود ودون اعتبار للاختلاف بين الأغنياء والفقراء في العالم، وسجلت العولمة وسجل النظام العالمي ومازال هيمنة الولايات المتحدة والغرب الأوروبي على العالم ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا وعسكريا، هيمنة تُؤدى وتُنفذ بكل الأساليب المشروعة وغير والمشروعة، كما تستخدم الشرعية الدولية وتوظف كافة المؤسسات الدولية والإقليمية وأنظمة الدول في ترسيخ الهيمنة وتكريسها.
* في ظل الظروف الحالية التي يعيشها العالم المعاصر والمتميزة بهيمنة المركز على الأطراف صار موضوع العولمة -بأدبياته وفي سياقه التاريخي- يشكل مجالا واسعا للأطروحات الفكرية والاجتماعية وغيرها، نظرا للدور الكبير الذي أصبحت تحتله العولمة في حياة الفرد والجماعة في العالم، ونظرا للتأثير الكبير الذي صارت تمارسه في الوعي التاريخي في ثلاثية أبعاده، الأمر الذي استدعى طرحا خاصا وتناولا متميزا لقضية العولمة، يراعي طبيعة الموضوع ويضبط المنهج ويحدد الأهداف، والعولمة باعتبارها نتيجة للتطور الفكري والعلمي والتقني الذي صنع التحولات الحديثة والمعاصرة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وغيرها، وباعتبارها فكرة ذات عمق فلسفي وأبعاد ودلالات إيديولوجية متصلة بالممارسات العملية في الواقع، ينبغي دراستها باعتبارها إيديولوجيا وكممارسات وآليات عملية -لها مظاهر وانعكاسات وتداعيات-تُستثمر في واقع متحرك تحولاته متسارعة، وينبغي أن يرتبط بحثُ العولمة باتجاهات ومواقف المفكرين والمثقفين عامة، وهو أمر يشكل حملا ثقيلا بالنسبة للدراسات الجادّة، لكون العولمة ظاهرة ديناميكية مرتبطة بواقع متغير باست
مرار جوانبه متعددة ومتنوعة، ومتصلة بالتنوع الثقافي والإيديولوجي والعقائدي والعرقي وغيره، خاصة في العالم المتخلف النّامي الذي تمثل بلدانه الأطراف في مقابل المركز.
* لقد أشار العديد من المفكرين أمثال "روجيه غارودي" قبل سنوات بأنّ العقيدة الجديدة التي تحل محل العقائد الموروثة هي عقيدة المال والأعمال والاقتصاد، تروج لها العولمة وبالأحرى الأمركة، العولمة التي صارت تشكل دينا جديدا هو دين النخبة الاقتصادية والنخبة السياسية والنخبة الإعلامية وكل النخب التي تدير المال والأعمال والاقتصاد والسياسة والإعلام وغيره في العالم، دين الشمال الغني ومن يتبعه في الجنوب الفقير، دين المركز المفروض على الأطراف بالقوة وبسلطان المال والتجارة، اكتسبت العقيدة الجديدة شرعيتها وفرضت وجودها من ارتباطها بالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالنماء والازدهار الاقتصادي وبالتطور الهائل في وسائل وأساليب الإعلام والاتصال والمعلوماتية، وكل هذا من طبيعة مادية محضة، أفقد العقيدة الدينية جانبها الروحي والأخلاقي ومسخ جوهر الإيمان الذي يقوم على التواد والتراحم لا على الشقاق والتناحر، يبدو أنّ العولمة الدين الجديد مجرد مما هو ديني موروث لكن الحقيقة أنّه موصول بأبعاد دينية يهودية صهيونية ونصرانية، ومرتبط بسائر الأفكار والإيديولوجيات والمعتقدات التي انبثقت عن التحولات التي عرفها ويعرفها ا
لعالم المعاصر، وهي معتقدات تقدس الشهوة وشهوة المال والطريق إليهما، لذا انصب البحث في هذا الكتيب على إيديولوجية العولمة وأبعادها العقائدية، وعلى صلة العولمة الدين الجديد بالقيّم الأخلاقية العليا، وعلى موقف الإسلام من العولمة الدين الجديد دين سائر الشهوات إلاّ عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد وعقيدة حفظ الصالح العام ومحبة الإنسانية جمعاء والعمل لذلك.