بسم الله الرحمن الرحيم
حديث الجمعة
معاني الحروف الاوائل التي تبدأ بها سور القران الكريم
عبدالوهاب محمد الجبوري
حديثنا لهذا الأسبوع عن معاني الحروف الاوائل التي تبدأ بها سور القران الكريم فأقول بعد التوكل على الله أن هذه الحروف هي حروف مقطعة ، ومعنى مقطعة أن كل حرف ينطق بمفرده ، وقد جاء في القران الكريم أن تسعا وعشرين سورة بدئت بحروف هجائية تقرا مقطعة بأسمائها هكذا :
ألف ، لام ، ميم .. وكان منها ما بدئ بحرف واحد : ص ، ق ، ن ، ومنها ما بدئ بحرفين : طه ، يس .. ومنها ما بدئ بثلاثة أحرف : الم ، ومنها ما بدئ بأكثر : كهيعص ، حم عسق ...
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حَسَنةٌ والحَسَنَةُ بعَشْر أمثالها ، لا أقول ( ألم ) حرف ، ولكن ألفٌ حرف ولام حرف وميم حرف .. رواه الترمذي في باب فضائل القرآن
ولذلك ذكرت في القرآن كحروف استقلالية لنعرف ونحن نتعبد بتلاوة القرآن الكريم أننا نأخذ حسنة على كل حرف .وقد يضع الله سبحانه وتعالى من أسراره في هذه الحروف التي لا نفهمها ثواباً لا نعرفه ويريدنا بقراءتها أن نحصل على هذا الأجر ..
والحياة تقتضي منا في بعض الأحيان أن نضع كلمات لا معنى لها بالنسبة لغيرنا وإن كانت تمثل أشياء ضرورية بالنسبة لنا .. تماماً ككلمة السر التي تستخدمها الجيوش .. فلا معنى لها إذا سمعتها .. ولكن بالنسبة لمن وضعها يكون ثمنها الحياة أو الموت ... فخذ كلمات الله التي تفهمها بمعانيها .. وخذ الحروف التي لا تفهمها بمرادات الله فيها ومثلاً : نجد في القرآن الكريم ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وكذا ( أقرأ باسم ربك الذي خلق ( فنجد أن )بسم( و ) باسم( ... فلو كانت المسألة رتابة في كتابة القرآن لجاءت كلها على نظام واحد ... ولكنها جاءت بهذه الطريقة لتكون كتابة القرآن معجزة وألفاظه معجزة ..
وكل السور التي بدئت بالحروف من القسم المكي ، الذي عنى بتقرير التوحيد والوحي والرسالة والبعث ، عدا سورتي البقرة وال عــمران اللتين تضمنتا مناقشة أهل الكتاب في إنكارهم الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. وليس لهذه الحروف في اللغة العربية معان تدل عليها سوى مسمياتها التي ينطق بها في الكلمات المركبة منها ، ولم يرد من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان للمراد منها ، ولذلك اختلف الناس فيها اختلافا كثيرا وكان لهم آراء وتخمينات ..
وهذه الآراء على كثرتها ترجع إلى رأين اثنين :
الأول : أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه سواه ، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين ..
الثاني : أن لها معنى ، وذهبوا مذاهب شتى في معانيها ملئت بها كتب التفسير وكان منها أنها أسماء للسورة التي بدئت بها ، ومنها أنها رموز لبعض أسماء الله الحسنى أو صفاته جل وعلا ، كل يجعل منها للحرف اسما من الأسماء التي تبدأ به ، فالألف لاسم( الله ) مثلا واللام لاسم ( لطيف ) والميم لاسم ( ملك ) وهكذا مما يمكن أن يصنعه كل إنسان ، ومنهم من زعم أن منها رموزا لبعض أحداث تظهر في مستقبل الأيام إما عن طريق حساب الجمل المعروف أو عن طريق الروايات التي لا مسند لها أو عن طريق الوهم والتخمين ..
ومنهم من يرى أنها زيادة إمعان في التحدي بالقران ، بمعنى أن هذه الأحرف ليست مادة غريبة عليكم و لا مجهولة لكم ، و رغم هذا فأنتم لا يمكن أن تأتوا بمثلها مما يدل على أن هذا القرآن ليس من صنع البشر إنما هو من عند الله تعالى ، قال عز و جل :
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) و قال أيضاً : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ..
والذي يصح أن نطمئن إليه هو الرأي الأول وهو أنها مما استأثر الله بعلمه .. يقول العلماء ، نعم للبدء بها حكمة يمكن استنتاجها من غرابتها ومن مجيئها في بدايات السور أنها تنوء بشان القران ، ذلك أن القوم كانوا يتواصون فيما بينهم بالإعراض عن القران ، قال تعالى ( لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه ) ففوجئوا بالبدء الغريب قرعا لأسماعهم ودفعا لهم إلى استماعه ، وهي بذلك تشبه أدوات التنبيه المعروفة في اللغة العربية ..
وحول الذين يدعون أن لهذه الحروف معاني وجعلها اختصارا لكلمات يقول العلماء الأجلاء ، إن القرآن نزل على أمة عربية فيها المؤمن والكافر ، ومع ذلك لم نسمع ولم يدون التاريخ أن أحداً منهم طعن في هذه الحروف التي بدأت بها السور .. وهذا دليل ثابت على أنهم فهموها بملكاتهم العربية، ولو أنهم لم يفهموها لطعنوا فيها ، ويقولون أيضا: لو أن الله أراد ذلك فما المانع من أن يوردها بشكل مباشر لنفهمه جميعاً .. فلا بد أن نعرف جميعاً أن للبصر حدود .. وللأذن حدود .. وللمس والشم والتذوق حدود ، وكذلك للعقل حدود يتسع لها في المعرفة .. وحدود فوق قدرات العقل لا يصل إليها ..
وفي الإيمان هناك ما يمكن فهمه وما لا يمكن فهمه ، فتحريم أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لا ننتظر حتى نعرف حكمته لنمتنع عنه ولكننا نمتنع عنه بإيمان أنه مادام الله قد حرمه فقد أصبح حراماً .
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : ما عرفتم من محكمه فأعملوا به ، وما لم تدركوا فآمنوا به( ..
قال تعالى( :هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) إذن فعدم فهمنا للمتشابه لا يمنع أن نستفيد من سر وضعه الله في كتابه ونحن نستفيد من أسرار الله في كتابه فهمناها أم لم نفهمها .
أما ما نقله الطبري في ماثوره من أن ( حم عسق ) رمز إلى هلاك مدينتين تبنيان على نهر من انهار المشرق ينشق النهر بينهما إلى آخر ما ذكر ، وكذلك ما قيل في تفسير الحروف الأخرى ، فهو من الروايات التي لا يصح التعويل عليها والتحدث بها في مقام التفسير ، فهي من روايات مضطربة ليس لها من سند صحيح وليس لما ترمز له من مناسبة معقولة ..
وجدير بالمسلم أن يؤمن بأنها كسائر القران مما انزل الله على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وان يؤمن بان له في كتابه أسرارا يختص بعلمها ، كما انه له في كونه أسرارا لا يعلمها سواه ، قال تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ..
و نختم حديثنا بما ورد في كتا ب الفوائد المشوِّق إلى علوم القرآن وعلم البيان لابن قيم الجوزية رحمه الله ، حيث قال : ( روي أن يهودياً في مجلس المتوكل فأحسن الكلام ، و ناظر فعلم أنه من حملة الإعلام و ناضل فتحققوا أنه مسدد السهام فدعاه المتوكل إلى الإسلام فأبى و أقام بفرط الإباء على مذهب الآباء بعد أ ن بذل له المتوكل ضروباً من الأنعام و صنوفاً من الرفعة والإكرام و راجعه في ذلك مرة بعد أخرى فلم يزده ذلك إلا طغياناً و كفراً فغاب عنه مدة ثم دخل إلى مجلسه و هو يعلن الإسلام و يدين دينه فقال لـه المتوكل : أسلمت ؟ قال : نعم ..
قال : ما سبب إسلامك ؟ فقال : لما قطعت من عنقي قلادة التقليد و صرتُ من رتبة الاجتهاد إلى مرتقى ما عليه مزيد نظرت في الأديان و طلبت الحق حيث كان فأخذت التوراة فنظرت فيها و تدبرت معانيها و كتبتها بخطي و زدت فيها و نقصت و دخلت بها السوق و بعتها فلم ينكر أحد من اليهود شيئاً ، و أخذت الإنجيل و زد ت فيه و نقصت و دخلت به السوق و بعته فلم ينكر أحد من النصارى منه شيئاً ، و زدت فيه و نقصت و دخلت به السوق و بعته فلم ينكر أحد من النصارى منه شيئاً ، و أخذت القرآن و قرأته و تأملته فإذا : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لـه لحافظون ) فكتبت و زدت فيه و نقصت و دخلت السوق و بعته فنظر فيه المسلمون فعرفوا المواضع التي زدت فيها و نقصت ، و ردوا كل كلمة إلى موضعها و كل حرف إلى مكانه ، فعلمت أنه الحق لتحقيق وصفه بأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فآمنت به و صدَّ قت ما جاء به(..
نسال الله الهداية والمعرفة والفائدة بإذن الله ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم عبدالوهاب محمد الجبوري
العراق في 22/ 4 / 2010
المراجع المستفادة
1 . الإمام محمود شلتوت ، الفتاوى – دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية والعامة – ط2 ، دار القلم ( غير معروف مكان وسنة الطبع ) ..
2 . الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف ، معنى الأحرف المفردة في القران ، موقع صيد الفوائد ..
3 . متابعة شخصية