أسئلة علينا أن نجيب عنها قبل أن ندخل في موضوع فنيّة الكتابة الملتزمة الحديثة.
كيف نكتب، وإلى من نكتب.؟
سؤالان ملحّان في هذا الزمن الذي نتابع فيه هذا الكمّ من الكتابات الهابطة والتي، للأسف، تجد من يسوّقها، ويُلبسها تاجاً من دُرر التيجان، وهي في الحقيقة لا تستحق.
على تهمة الحداثة، والحداثة منها براء، نقرأ موضوعات أدبية سواء في القصة أو الشعر أو الخاطرة، أو ما يتفتق عن هذه وتلك وتلك، فنجدها زاخرة بمجموعة صور باهتة مفككة، قد تكون محمولة على لغة شاعرية جميلة، لكنها ذاهبة إلى خارج السرب، وهي بالمحصلة بلا معنى وبلا خط سير يوصل إلى الفهم، بل هي رموز مغرقة وقابلة لقبول إسقاطات «من قبل الكاتب» لمعاني وتفسيرات أقل ما يقال فيها إنها مختلطة، وموجودة في خيالات الكاتب، وعاجزة عن الوصول إلى المتلقي.
وبالتوازي فكتّاب هذا النوع «عندما يتعرضون إلى النقد» يتنكّبون رداء الحداثة ويقيمون كل اللافتات الرافضة للمسار الكلاسيكي في الكتابة، ويشهرون الحجّة تلو الحجّة، أقلّها المباشرة، وكأنهم هم المجددون.!
وهنا أجد لزاماً أن أضع «ولو من وجهة نظري» نقطة نظام لتفسير النهج الأفضل للعبور إلى مسالك الحداثة، تتلخّص في أننا جميعاً، بل ومن واجبنا أن نعمل على التجديد وتطوير أدواتنا ومفرداتنا وأفكارنا ومواكبة الحديث، وتجاوز الكلاسيكي الأصيل ولكن دون تهميشه وتسفيهه، فالحداثة تقوم على الأصالة ولا تلغيها، ومن يمتلك أبجديات الأصيل يمكنه بجدارة أن ينطلق بثقة وتمكّن إلى الحداثة، وهذا نجده واضحاً فيما يكتبه الشعراء المتمكنون من الوزن والرتم والبحور واللغة «عندما يخوضون في القصيدة الحديثة» وبارعاً أكثر بكثير من القافزين فوق ذلك كله إلى ادعاء الحداثة.
ثم نسأل، كيف نكتب «حداثة» ملتزمة.؟
هناك سبيلان قد يفيان إجابة عن هذا السؤال، فنحن إما أننا نكتب انطلاقاً من أرضيّة موهبة فطرية يجب أن تجد طريقها للنور، وقد يقتصر أمر البعض من هؤلاء في موضوعة الكتابة أن لا يخرج إلى الدائرة الأوسع بل يكتفي بكتابة ما يدور هو فيه، أعني أنانية الكتابة «إذا جاز التعبير» فهو أيّ الكاتب لا يكتب إلا ما يهمّه ويعنيه ويصّب في مصلحته، دون الالتفات إلى الدائرة الأوسع التي يتحرك فيها الآخر.
هذا النوع من الكتابة قد يستهوينا «ذات صدفة» إذا لامس، دون تعمّد من الكاتب، ما يشبه همومنا أو أحاسيسنا، لكنّه سرعان ما يتكلّس مع مواصلة الاستمرار على خط الأنا، لحظة يبتعد عن همومنا وأحاسيسنا، وهذا سيأتي بالضرورة لأن الكاتب لم يقصد أصلاً الاقتراب من هذه التي تهمّنا وتستهوينا.
هي أيضاً كتابة جميلة لكنني شخصياً لا أستسيغها لأنها لن تكون في أغلبها كتابة ملتزمة.
أما في الجانب الآخر.. فلا ينفصل أبداً عن الأول بل هو يشارك ويتأسس كما ذاك، لكن الفارق هو أنني وأنا أكتب همّي وأحاسيسي ومعاناتي الذاتيّة يجب أن أنتزعها وأسقطها من وعلى الهمّ العام، أعني أن همّي الشخصي لا ينفصل، بل هو جزء من الهمّ العام، وعندما نقرأ أيّ نص لامس شيئاً فينا عشناه، أو لمسناه أو نتمنّاه أو عانينا منه نقبله ويحمل قيمة الالتزام، وهنا تأتي فنيّة الكتابة بحيث نخفي خط السير الأساسي وراء رموز الصيرورة العامّة.
أدرك بأن أيّ نص لا يمكن إلا أن يحمل شيئاً من روح كاتبه، أو شيئاً من سيرة وخصوصية وتشكيلة كاتبه، ولكن أن يبقى كذلك دون ملامسته للهم العام فلن تكتب له الحياة بل سيتلاشى مثل فقاعة صابون تبرق وتلتمع ثم تنطفئ سريعاً.
وهي كما أرى أول لبنة في محاولة لكتابة ملتزمة واعية وحديثة.