بمناسبة الذكرى السادسة عشرة لمجزرة قانا الاولى
د. غازي حسين
شن العدو الصهيوني في الحادي عشر من نيسان عام 1996 على لبنان حرب "عناقيد الغضب" العدوانية بحجة القضاء على القوة العسكرية لحزب الله . وبلغت الحرب العدوانية ذروتها في الثامن عشر من نيسان مما اجبر مجموعة من اهالي قانا المدنيين اللجوء الى معسكر للأمم المتحدة لحماية حياة الاطفال والنساء والشيوخ ، ظنا منهم ان القوات الإسرائيلية المعتدية لا تقصف مراكز قوات الطوارئ الدولية ، ولكن في الساعة الثانية بعد ظهر 18نيسان إنهار وابل من قذائف المدفعية الإسرائيلية الثقيلة على مقر قوات الامم المتحدة في قانا . وبعد اقل من ربع ساعة تحول 107 من المدنيين اللبنانيين الى جثث محترقة واشلاء يصعب تميزها .
تحدث احد الناجين من المجزرة الاسرائيلية الهمجية " عن ضجيج لا يحتمل ونار حارقة وسخونة مرتفعة جدا شملت المكان ، وحين فتح عينه الوحيدة السليمة رأى 22 شخصا من عائلته مذبوحين كقطيع من الغنم حوله " .
كان جيش العدو الإسرائيلي يعلم علم اليقين بوجود المدنيين من الاطفال والنساء في المقر، ولكنه قام بقصفه وارتكاب المجزرة الجماعية البشعة ، واعلن كعادة اليهود في الكذب والتضليل والاجرام انهم اخطأوا بالتصويب لعدم وجود طائرة استطلاع لتحديد اهداف المدفعية بدقة .
فاجأهم احد عناصر قوات الطوارئ الدولية الذي صور شريط فيديو يظهر القذائف وهي تنفجر ، بينما كانت طائرة استطلاع اسرائيلية تحلق في الجو .
ووصلت الحقارة والكذب بشمعون بيريز رئيس وزراء العدو الصهيوني آنذاك حدا قال فيه "ان الجيش الاسرائيلي لم يكن على علم بوجود مدنيين في مقر الامم المتحدة" ،الا ان الجنرال موشيه ايلون رئيس الاستخبارات العسكرية قال" ان ضباط الجيش الاسرائيلي علموا بوجود لاجئين مدنيين في مركز الامم المتحدة " .
اجرى الجنرال فرانك فان كابين المستشار العسكري في الامم المتحدة تحقيقا رسميا في موقع المجزرة ، ورفعه الى الامين العام للأمم المتحدة بطرس غالي وجا فيه : " استحالة ان يكون قصف القاعدة التابعة لليونيفيل في قانا نتيجة خطأ تقني او اجرائي فادح كما ادعى ذلك مسؤولون في الجيش الإسرائيلي " .
واشار في تقريره الى احتمال ان يكون مسؤولون الجيش الاسرائيلي ممن هم في مركز من مستويات القيادة متورطين بإصدار الاوامر بقصف القاعدة التي كانوا يعلمون انها تأوي المئات من المدنيين العزل .
اجرت عدة منظمات عالمية مهتمة بحقوق الانسان تحقيقات حول المجزرة ، وخلصت كلها الى ترجيح ان يكون القصف متعمدا وليس نتيجة الخطأ التقني الذي ادعته "اسرائيل" .
رفضت وزارة الخارجية الاسرائيلية تقرير الامم المتحدة وتقارير المنظمات الدولية الاخرى حول اتهام "اسرائيل" بارتكاب المجزرة عن قصد وزعمت كذبا وبهتانا في البيان الصادر عنها ان حزب الله يتحمل المسؤولية عن المجزرة ، وانه من الصعب على "إسرائيل" ادراك سبب عدم ادانة التقرير (الاممي) لحزب الله ، وان هذا التقرير غير الدقيق والمنحاز هو تقرير مضلل.
مارست ادارة الرئيس كلينتون ضغوطا هائلة على الامين العام للأمم المتحدة بطرس غالي كي لا ينشر التقرير الاممي ، ولكنه اصر على نشره فعاقبته امريكا بعدم تجديد انتخابه مرة ثانية.
وكشف التقرير بجلاء معرفة وعلم "اسرائيل" بوجود المدنيين في مقر اليونيفيل ، وانها دمرته عن عمد وسبق اصرار وليس عن طريق الخطأ كما زعمت .
وجسّد موقف الإدارة الاميركية الانحياز الاميركي البشع لسياسة الابادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي تمارسها "اسرائيل" تجاه العرب .
وعبّر الرئيس الاميركي بيل كلينتون عن دعمه للرواية الاسرائيلية الكاذبة ، واعتبر انها خطأ من نوع الاخطاء التي تحدث في الحروب ، وبرر الحرب العدوانية والمجزرة قائلا :" ان للإسرائيليين الحق في الدفاع عن انفسهم " .
ولكن الجمعية العامة للأمم المتحدة وجهت صفعة قوية للرئيس كلينتون واقرت في 25نيسان 1996 بان الاعمال التي قامت بها "اسرائيل" خلال الحرب العدوانية التي اشعلتها في جنوب لبنان تشكل انتهاكا فاضحا للقوانين الدولية المتعلقة بحماية المدنيين خلال الحرب .
واعترف بيرس في خضم الجدل الدولي حول مسؤولية الجيش وضباطه عن المجزرة . وتحمل علنا وبوقاحة منقطعة المسؤولية عنها . وشن في الوقت نفسه هجوما عنيفا على الامم المتحدة لنشرها التقرير الذي اظهر مسؤولية "اسرائيل" الكاملة عن ارتكابها .
نشرت مجلة كول هاعير الاسرائيلية مقابلة مع خمسة جنود شاركوا في مجزرة قانا ، اظهرت بجلاء التربية الارهابية والعنصرية وحب سفك الدماء وقتل الاطفال والنساء والرجال العرب المتغلغلة في اوساط جنود وضباط الجيش الاسرائيلي . واكدوا الخمسة انهم غير آسفين على ارتكاب مجزرة قانا قائلين ان القتلى ليسوا الا مجموعة من العرب "الاوباش" . وقال جندي اشترك في المجزرة للمجلة المذكورة ان آمر المدفعية الذي قصفت مجموعته مقر اليونيفيل قد قال لعناصره بعد دقائق من قصف المقر " انه سواء زاد العرب ان نقصوا واحدا فالامرسيان " . واضاف الجندي ان آمر مربض المدفعية قال لنا :" اننا رماة ماهرون وعلينا ان نبقى كذلك وان هناك ملايين العرب على اي حال " . وقال جندي اخر للمجلة ان قائد الموقع قال لنا "اننا قمنا بواجبنا واننا ممتازون وان الامر لا يتعلق بأكثر من عرابوشيم (تعبير عبري عنصري يقصد منه اهانة العرب) .
وقال الجندي للمجلة "ان ضميري لا يؤنبني ابدا ، بل كان يجب ان نطلق المزيد من القنابل لقتل المزيد من العرب " .
واعترف ضابط الجيش الاسرائيلي بانهم تعمدوا قتل المزيد من المدنيين وتدمير المزيد من البنى الاقتصادية في لبنان لتحقيق اهداف حرب "عناقيد الغضب" وقهر ارادة الشعب اللبناني واملاء الشروط على حكومته .
اثبتت مجزرة قانا الاولى والثانية ان "اسرائيل" مستعدة دائما لارتكاب مجازر الابادة الجماعية تجاه العرب ويشجعها على ذلك انحياز الإدارات الاميركية المتعاقبة لحروبها العدوانية ومجازرها الجماعية .
ان مجزرة قانا لم تكن مجرد صدفة او مجرد خطأ تقني في تحديد الهدف او جهل في معرفة المتواجدين في مقر اليونيفيل وانما هي جريمة نكراء خطط لها الجيش الاسرائيلي بموافقة رئيس الوزراء شمعون بيريز. وبالتالي جريمة حرب تتحمل الحكومة الاسرائيلية المسؤولية الكاملة عنها وتقضي بوجوب محاكمة بيريس والضباط والجنود الذين نفذوها امام المحكمة الجنائية الدولية كمجرمي حرب اسوة بمجرمي الحرب النازيين ، واجبار الكيان الصهيوني على دفع التعويضات لعائلات الضحايا والحكومة اللبنانية .
ان المجتمع الدولي الذي عاقب النازيين على جرائمهم لا يجوز ابدا ان يكيل بمكيالين ولا يعاقب الصهاينة على جرائمهم ضد العرب ، بل يجب ان يعاقب الصهاينة كما عاقب النازيين حفاظا على المبادئ والقوانين والعهود والمواثيق الدولية التي تكرست بعد محكمة نورنبيرغ والمحكمة الجنائية الدولية.
لقد ساعد توقيع اتفاقات الاذعان في كمب ديفيد واوسلو ووادي عربة وتبادل السفراء مع الكيان الصهيوني والتقصير والصمت العربي الرسمي "اسرائيل" وشجعها على الاستمرار في ممارسة الارهاب والابادة والعنصرية والاستعمار الاستيطاني كسياسة رسمية دائمة مما الحق ويلحق افدح الاضرار بالوطن والمواطن العربي وعروبة فلسطين .