محمد إقبال
فيلسوف الذات وشاعر العشق..
= 22 = من سلسلة عباقرة الفكر والأدب المعاصرين
===================================
دراسة نشرتها من أكثر من عشر سنوات --
----------------------------------------------------------------
كما يأنس الساري ليلاً بتأمل مواكب النجوم كذلك يرتاح الساعي في مناكب الحياة للنظر في سير العظماء، وقد يجيء تساؤل: لمَ مجلة أدبية ثقافية تعنى بنشر الشعر والدراسات الأدبية أنى لها أن تنشر دراسة عن شاعر وفيلسوف هندي باكستاني.. ونخرج من هذا التساؤل أن نعرف أنَّ إقبالاً دوحة مباركة في رياض ذلك التراث العربي والإسلامي الواسع نمت على أرضه وامتاحت من معينه وجرى في عروقها حبها له ولأهليه.
وطالما صرنا في زمان انقطعت فيه الأوصال والوشائج وصنعت الحضارة الضيقة الحواجز والحدود فضيقت الأوطان وحجبت مدى البصر ودفنت عمق البصيرة.
ونحاول في هذه الدراسة المتواضعة أن نصل ما انقطع ما بين أبناء الأمة الواحدة، فقد جاء جيل جديد من الأدباء ثقافتهم ضحلة في لغتهم الثرة وبعدوا كل البعد عن ينابيع التراث الفني، فبعدوا عن أصالتهم، لذلك ارتأيتُ من الحكمة أن أذكر مثالاً للأصالة الذاتية، محمد إقبال شاعر مفكر قلَّ من يشبهه في سعة الإطلاع على ثقافات الغرب مع التعمق المتبحر في التراث العربي، محلق في سماء الشهرة. وترجم له كبار المستشرقين وقدموه على معاصريهم، حتى أن المستشرق لويس ماسنيون فضله على طاغور في العمق والموهبة.
نشأ محمد إقبال في بلد نام على حد التعبير الحديث كالبلاد العربية، ومع ذلك كان معتداً بشخصيته وعلمه وتراثه وقيم هذا التراث إلى أن صار كوكباً منيراً في سماء التراث العربي الإسلامي.
في عام 1877ولد محمد إقبال لأسرة كشميرية الأصل برهمية المحتد أسلمت قبل عدة قرون في زمن السلطان زين الدين بودشاه، ثم هاجرت إلى البنجاب لطبيعتها الفاتنة، ففرح بقدومه أبوه الشيخ نور محمد وأمه إمام بيبي، واختاروا له اسم محمد إقبال وتمنا أن يكون لـه شأن بإقباله، وعكفا على تنشئته وتربيته كأفضل ما تكون التربية والتنشئة، وبرزت ملامح الذكاء المتقد منذ يفاعته إلى أن دخل كلية سيلكوت ودرس فيها على يد عالم مشهور مشهود له بالفضل وهو مولانا مير حسن فأتقن من الأدب العربي والفارسي، ثم انتقل إلى كلية الحكومة بمدينة لاهور حاضرة البنجاب، فبرز بين أقرانه وحاز على عدة جوائز وعندما تخرج درس في نفس الجامعة الفلسفة واللغة الإنكليزية، وفي سنة 1905 سافر إلى أوروبة شغفاً بالتحصيل العلمي العالي ورغبة في الاطلاع على مظاهر حضارة الغرب فنال شهادة الفلسفة من جامعة كمبردج، ثم تحول إلى ألمانيا ونال الدكتوراه في الفلسفة وعاد إلى انكلتره وحصل على الحقوق من جامعة لندن، وخلال ذلك كله كان يلقي المحاضرات وكانت تبدو عليه بوادر فلسفته العالية.
عودته إلى موطنه
عاد إقبال من أوروبة عام 1908 ولقي استقبالا حافلاً وعرضت عليه المناصب الحكومية فأعرض عنها لأنه نزيه عفيف النفس، يقنع بالكفاف ويرضى بالميسور، كما عبر عن ذلك في بيت من ديوانه (رسالة المشرق) قال:
أنا لا أتحمل دلال الملوك
ولا جرح الإحسان
يا من انخدعت بالطمع
انظر إلى همة هذا الفقير
وانصرف إلى الفكر والأدب فصنف ديوانين بالفارسية وهما (أسرار خودي ورموز ينحودي) فنالا إعجاباً عاماً، وترجم الأول إلى الإنكليزية فزاع صيته في أوروبة وأمريكا، ثم توالى إنتاجه الفكري وتلاحقت ترجماته، ومن أشهر دواوينه (رسالة المشرق) وقد ترجم بعنوان زنابق سيناء.
وفي سنة 1926 رشحه أصدقاؤه عضوا عن إقليم بنجاب وسعى لتخفيف الضرائب عن كاهل الفلاح الهندي وأجرى عدة إصلاحات. وفي سنة 1931 انتخب عضوا في مجلس المائدة المستديرة المنعقد في لندن لإصلاح دستور الهند.
زيارته للقدس
وعند عودته من لندن زار مصر والقدس فخاف من مطامع الصهاينة الماكرة، وقد سكر إقبال بمحبة العرب ودينهم فقال:
إسمعهمو يا رب ما ألهمتني
وأعد إليهم يقظة الإيمان
وأذقهم الخمر القديمة إنها
عين اليقين وكوثر الرضوان
أنا أعجمي اللون لكن خمرتي
صنع الحجاز وكرمها الفنيان
إن كان لي نغم الهنود ولحنهم
لكن هذا الصوت من عدنانِ
وزار أفغانستان وساهم في تأسيس جامعة كابل.
فلسفة شعره
ترجم ديوانه جاويد نامه إلى الإيطالية بعنوان أشعار سماوية فقد بارى به شاعر إيطالية دانتي في ملهاته المشهورة، وهكذا كان إقبال من أكبر شعراء عصره وأوسعهم أفقا وأعمقهم شعورا وأشدهم سموا، فقد تضافرت له الثقافة الواسعة والموهبة الشعرية النادرة والفلسفة المتأملة الواعية والإيمان العميق الرقيق في تكوين هذا المفكر الفيلسوف المصلح الشاعر الملهم، كتب الشعر بالفارسية والأردية وكتب البحوث الفلسفية والاجتماعية والسياسية بالانكليزية، وكان يتقن الألمانية والفرنسية والعربية والسنسكريتية.
وكان شاعرنا متأثرا بفريد الدين العطار وحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي وابن عربي، فهم الأعلام البارزون في فكرهم وفلسفتهم وإبداعهم.
الشرق والغرب في شعر إقبال
استاء إقبال من حال الشرق المرير المتخلف كما استاء من حال الغرب المادي المسيطر على الشعوب فوجده مفعماً بالحركة ولكنه مجرداً من المبادئ الخلقية والإنسانية وفقيرا من الحب والإيمان فنذر فكره وقلبه وقلمه للإصلاح والتنديد بالغزو والاستغلال فقال:
في الغرب العقل مصدر الحياة
وفي الشرق الحب قوام الحياة
إنما يدرك العقل الحقائق بالحب
فيثبت مكاسب الحب
بالتوفيق بين العقل والحب
وهكذا بقي إقبال لا يرى حوله مشكلة إلا أولاها قبسا من فكره وأضاءها بسنا من أبياته، قال مندداً باستغلال الإقطاعي والرأسمالي مخاطباً العامل منبهاً على مكانته:
أيها العامل الذي ابتلعه الرأسمالي المحتال
لقد غيرت حالتك قرونا على الغصون الواهية
يدك هي الخالقة للثروة
ومع ذلك تمتد للحصول على الأجر
لقد أطعمك ساحر الموت أوراق الحشيش
فظننتها أيها الغافل سكر النبات
لقد سيطر عليك الرأسمالي بالحيل الماكرة
فغلبت أيها العامل على أمرك بكل سذاجة
تيقظ لأن أسلوب محفل العالم قد تبدد
وابتدأ شأنك الآن في الشرق والغرب
وقال مندداً بطغيان بعض الحكومات على رعاياها:
"إن اليوم ما يزال الإنسان شر فريسة لصيد الحكام".
"وإنها لقيامة كبرى أن يبق الإنسان فريسة الإنسان".
وإقبال الذي أحب لغة العرب وفتن بها ولا عجب فهي لغة القرآن الكريم ولغة السماء، زيادة على كونها لغة العرب فتمنى أن تصل أصواته إلى مسامع العرب ليجمعوا شملهم ويعودوا أمة واحدة بعد تفرقهم فقال:
كل شعب قام يبغي نهضة
وأرى بنيانكم منقسماً
في قديم الدهر كنتم أمة
لهف نفسي كيف صرتم أمماً
وعندما تقطعت أوصال البلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتوزعها الغزاة قال:
"إن سقط جبل من المآسي على العرب فلا حاجة إلى العويل، وإن الفجر لا يطل إلا بعد فناء آلاف النجوم"
ولكنه تفاءل في وحدة الصف العربي فقال:
أنا بشير زنابق الربيع
يتوقد ضرام الحب في قلبي
لا تأنف مني اليوم إن وجدتني وحيدا
سوف تتوالى قوافل الورد تترى من بعدي
إقبال وحب الإنسان للإنسان
وكما عرف عن إقبال إنه شاعر الإسلام وفيلسوفه الكبير عرف أيضاً أنه شاعر العشق وفيلسوف الذات وشاعر المحبة الإنسانية اتجه إلى الإنسان وجلى عن ذاته الصدأ وبث فيه روح المحبة والعشق، فالعشق عند إقبال أشعل في قلبه الجمرات وبعث الرغبات، ولـه قطعة شعرية عنوانها (كلمة الحب) فيها:
"عندي خبر هذه الكلمة، هي جذوة القلب، هي سر وليس بسر، ألا أنبئك بمن سمعها وأين سمعها، لقد سرقها الندى من السماء، وأوحى بها إلى الوردة، وسمعها الليل من الوردة، وحملها نسيم الصبا من البلبل".
وأبدع في مقطوعة (الفراشة المحترقة) وعبر فيها عن لذة الوصال الحقيقي فلحظة الاحتراق أفضل من العيش أعواماً دونه قال:
أحب احتراقي بنار اشتياقي
ولا أرتضي عيشة الخاملين
فناء الفراشة في النار يعلو
حياة الجبان طوال السنين
وقال:
معنى احتراق القلب في الإخلاص
أن القلب يصبح كله أنوارا
ولقد تحولت الفراشة شعلة
لما أن احترقت فصارت نارا
هذا الاحتراق هو احتراق الحب، الحب المسكر المصطلم، حب الإنسان لأخيه الإنسان حتى لا يكون في الأرض ظلم، ولا استغلال ولا طغيان فانتشى ثملاً بهذا الحب:
لم ألْقَ في هذا الوجود سعادة
كمودة الإنسان للإنسان
لما سكرت بخمرها القدسيّ لم
أحتج إلى تلك التي في الحان
خلود الحياة في فلسفة إقبال
كان شبح الموت المخيف الرهيب يبدو أمام الناس جسيماً عظيماً وبقدر ما كانت جسامته وخطره كان يبدو في عين إقبال ضئيلاً متلاشياً، فيذكرنا إقبال بأسلافنا الماضين الذين ملكوا المماليك وأداروا الدول ووطئت خيولهم القلاع والحصون وما اشتروا هذا المجد إلا بدمائهم فهو في قصيدته الشكوى يقول:
بمعابد الإفرنج كان آذاننا
قبل الكتائب يفتح الامصارا
لم تنسى أفريقيا وصحراؤها
سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا
لم نخش يوماً غاشماً جبارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة
خضراء تنبت حولنا الأزهارا
ثم يقول:
لو أن أساد العرين تفزعت
لم يلق غير ثباتنا الميدان
وكأن نيران المدافع في صدور
المؤمنين الروح والريحان
نظرة إقبال لهجر الحبيب
كان الشعراء دائماً يتفنون بالوصال ويذمون الفراق ويتبرمون من الأسفار ويحمدون الإقامة الهانئة وإنا لنعجب من إقبال فهم في وادي وهو في واد آخر فهو يحب الرحلة والتجوال ويطرب لدمدمة الرعود وأزيز المراجل وصخبة الأمواج ويجد لذة في الهجر والفراق فيقول:
الوصل في الحب غال
وقيمة الهجر أغلى
الوصل حلو ولكن
عواقب الهجر أحلى
في القرب موت الأماني
والعيش فيه فناء
والبعد فيه حياة
يذكي ضياها الرجاء
موقف إقبال من فقراء الصوفية
دائماً نرى محمد إقبال يدعو في قصائده الصالحين الذين جلسوا في زواياهم إلى الحياة ولا يتركوها ويبنوا الصوامع والزوايا والتكايا فقال:
يا عبيد الماء والطين اسمعوا
ما هو الفقر الغني الا رفع
هو عرفان طريق العارفين
وارتواء القلب من عين اليقين
ذلك الفقر عزيز في غناه
هامة الجوزاء من أدنى خطاه
وقال:
يا غريباً عن مقام المصطفى
عد إلى الحق تجد نور الصفا
وهكذا كان محمد إقبال أعمق في العصر الحاضر وكانت نظرته الخارجية تنسجم مع العلوم الحديثة ويدعو أمته للعلم لتصنع امتن الأسس لتقدمها مع البقاء على الالتزام بالمبادئ الأخلاقية لتبقى الحياة منظمة في جميع الأزمنة والغاية من كل ذلك بناء الإنسان والإنسان فقط.
فهو حري بالذي قاله جواهر لال نهرو بحقه:
"لقد دهتني وفاة إقبال بصدمة هائلة ولقد فقدت الهند بوفاته كوكبا مضيئاً ولكن شعره سيخلد في قلوب الأجيال الآتية وذكراه العظيمة لن تموت.
وقال الدكتور محمد علم:
"لا تستطيع أرض البنجاب أن تخرج إقبالاً ثانياً في عصور طويلة".
آثاره ومؤلفاته-----------------
ترك إقبال ثروة ضخمة من علمه فمن آثاره: عشرون كتابًا في مجال الاقتصاد والسياسة والتربية والفلسفة والفكر وترك أيًضا بعض الكتابات المتفرقة وبعض الرسائل التي كان يبعث بها إلى أصدقائه أو أمراء الدول، ذلك إلى جانب روائعه من الشعر والتي كني بسببها (شاعر الإسلام).
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "ومن دواعي العجب أن كل هذا النجاح حصل لهذا النابغة، وهو لم يتجاوز اثنين وثلاثين عامًا من عمره".
• رسالة المشرق (بيام مشرق)
• زبور العجم (زبور عجم)
• والآن ماذا ينبغي ان نفعل يا أمم الشرق
• الفتوحات الحجازية (أرمغان حجاز)
• صلصة الجرس (بانك درا)
• اسرار معرفة الذات (أسرار خودي)
• رموز بيخودي (أسرار فناء الذات)
• مسافر
• جناج جبريل(بال جبريل)
• ضرب كليم (ا الكليم موسى)
-----------------------------
مدرسته العربية---
تأثر بمدرسته في الأدب العربي عدد من الأدباء العرب الذين مزجوا بين الإسلامية والفلسفة وهم : مصطفى المنفلوطي، احمد امين، مصطفى صادق الرافعي، عمر بهاء الدين الأميري وآخرون.