راحلون في الذاكرة
في الذكرى السادسة والثلاثين لوفاة الشاعر محمد الفراتي
يصادف اليوم السابع عشر من حزيران 2014 الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل شاعر وادي الفرات محمد الفراتي وبهذه المناسبة نذكر بهذا العلم الكبير من أعلام الوطن .
هناك اختلافات كثيرة حول مولد الشاعر محمد بن عطا الله بن محمود بن عبود، وعلى الأرجح أنه ولد في العام 1880، في مدينة دير الزور السورية. وبعد أن أنهى دراسته في المدرسة الابتدائية الوحيدة في المدينة، لم يجد أمامه سوى التكايا لإرواء عطشه المعرفي. وفي العام 1911، التحق الشاعر بالأزهر، وانتظم في الرواق الشامي، ولقب حينها بالشيخ الفراتي، لأنه كان ينظم القصائد الشعرية ويذيلها باسمه فما كان من زملائه إلا أن أطلقوا عليه اللقب، وعرف بهذا اللقب فيما بعد. تعرف خلال هذه المرحلة على نخبة من الطلبة الذين سيصبحون فيما بعد من أهم ركائز الأدب العربي المعاصر مثل طه حسين، وزكي مبارك، وعبد القادر المازني وغيرهم. في عام 1914 أجيز للفراتي، الافتاء والتدريس، ولكنه بقي في مصر، ولم يغادرها إلا حين انطلقت شرارة الثورة العربية حيث سافر إلى الحجاز لينخرط في صفوف الثوار. في مصر تفجرت قريحة الفراتي الشعرية، وفيها كانت أولى وقفاته الرسمية على منابر الشعر، حيث شارك بأمسية في دار الأوبرا، دعا فيها الشعراء لإغاثة الطلاب الشوام الذين تسببت الحرب العالمية الأولى في انقطاع صلاتهم مع أهلهم وأوطانهم، وقد شارك في هذه الأمسية عدد من الشعراء المصريين البارزين في تلك الفترة كان من بينهم الشاعر حافظ إبراهيم. في عام 1920 عاد محمد الفراتي إلى مسقط رأسه ليحارب الجهل والأمية، ببناء المدارس والانخراط في سلك التعليم، ومحاربة الاستعمار بالنضال المباشر عن طريق تشكيل خلايا المقاومة، حارب الخراب ويباس الروح، فطرح القيم الفنية والجمالية عبر الشعر والرسم لذلك قاسى الفراتي الاضطهاد والملاحقات والمنافي، فعاش مع عائلته سنوات من الحرمان والتشرد قضاها في العراق والبحرين وإيران. وأثناء إقامته في العراق، ارتبط الفراتي بصداقة قوية مع شعرائها البارزين وخاصة، الرصافي والزهاوي. ومن أصدقائه في سورية بدوي الجبل، وعمر أبو ريشة وأنور العطار. سُميت قصائد الفراتي بأسماء الأماكن التي كُتبت فيها، فالقصائد التي كتبها في مصر سميت «المصريات» والقصائد التي كتبها في الحجاز أيام الثورة العربية سماها «الحجازيات» وما كتبه في البحرين أسماه «البحرانيات» إضافة إلى ما كتبه في دمشق ودير الزور أسماه «السوريات». خاض الفراتي في كل مجالات الشعر وقضاياه، فكتب القصائد الوطنية والقومية وأجاد في تجربة الشعر السياسي الحديثة فالتحم بقضايا وطنه، وفي المنفى بكى الفراتي وطنه بكاءً مريراً، وانشغل بأحواله إلى الحد الذي كان ينسى فيه عائلته. على الرغم مما وفره له المنفى من أمن وسلامة. منعه من مشاركة أهله وإخوانه مصائبهم ومعايشة أحوالهم. فاحتلَّ الاتجاه الاجتماعي في شعره حيزاً كبيراً، عززه الفقر المدقع الذي لا حق الشاعر طوال حياته، والحرمان الذي لازم عائلته، إضافة إلى مظاهر الجهل والبؤس والاستغلال والإهمال الذي ساد المجتمع الفراتي عموماً. كل هذا أثر في شخصية الفراتي، وحساسيته الفنية الأمر الذي دفعه للتأثر بالاتجاهات الواقعية التي نشطت في تلك المرحلة، وهذا ما يفسر الآراء التي نسجت حول ميوله اليسارية- العلمانية. كتب الفراتي في معظم الاتجاهات الشعرية التي اتسمت بالحب، والتأمل، والفلسفة، والطبيعة، شغل فكره في تأمل الوجود، فلم يجد طول النظر فرقاً بين الوجود والعدم، ولا بين الظلام والنور، الكل عنده تساوى في المنزلة، وهذا ما ميز شعره عن شعراء عصره، ويمكن أن ينسب ذلك إلى العامل البيئي وضيق العيش اللذين لازما حياته، ففجرا في ذهنه هذه النزعة التأملية، ما جعله يستغرق في طبيعة الحياة، ويعيد النظر فيها، ولهذا سارت تأملاته في شعاب الظنون حتى اضطربت بين يديه المقاييس، حيث كان وعيه لحقائق الحياة عميقاً، وهو الذي عاش حياة اغتراب، هنا أتت موضوعاته تأملية موزعة في البحث عن ماهية القدر، وعلاقة الإنسان بالقدر، وفي البحث عن حقيقة الإنسان، وقضية الوجود والعدم، والموت والحساب، وتأمل الكون..
. توفي الشاعر محمد الفراتي في 17 حزيران 1978 وقد رافقه في جنازته ثلاثة وستين رجلاً فقط .
المصدر - شرفات الشام