المناعة كنز لا يفنى
المـقـدمــة:
كل الكائنات الحية تمتلك – في داخل أجسامها وتكويناتها – خطوطاً قوية للدفاع عن وجودها، وفي الظروف الطبيعية المعتادة ليس من السهل إصابة جسم حي لإنسان أو حيوان أو نبات بعدوى مرضية.. ولو تناولنا في حديثنا خطوط دفاع جسم الإنسان – كتكوين أمثل لكائن حي من حيث التطور- فإننا نجدها كثيرة ومتنوعة وخلاقة في مواجهة أي اجتياح أو غزو ميكروبي، بداية من خطوط الدفاع الطبيعية التي تتمثل في أشياء كثيرة مثل الجلد وعدم قدرة الميكروبات على اختراقه، أو إفراز العرق أو الدموع التي تحتوي على مواد قاتلة للميكروبات، أو المواد المخاطية التي تفرزها الخلايا المبطنة للجهاز التنفسي، التي تعمل كمصيدة ومادة لاصقة للميكروبات المتسللة إلى هذا الجهاز، أو درجات الحموضة أو القلوية في السوائل التي تفرزها الأغشية المبطنة للجهاز الهضمي، بالإضافة إلى المواد الكيميائية التي يشتمل عليها سائل الدم التي تعمل كمحاربة وقاتلة لأي عدو ميكروبي يتسلل إلى داخل الجسم.
خطوط الدفاع في جسم الإنسان
أما في حالة حدوث "تسلل" ميكروبي إلى داخل الجسم؛ فإن الجسم يواجهه بخطوط دفاعية مختلفة.. فعند دخول أي جسم غريب إلى جسم الإنسان – سواء أكان خلايا بكتيرية أم مكونات وإفرازات ميكروبية أو حتى شريحة من الخشب – فإن قوات الدفاع الداخلية المتمثلة في خلايا الدم البيضاء الملتهمة (phagocytes) يتم توجهها إلى مكان الجسم الغريب بخاصية الانتحاء الكيميائي الفسيولوجي (chemotaxis) الذي يجتذب هذه الخلايا لمكان الإصابة إلى الالتهاب، حيث تتجمع وتحاول أن تلتهم هذا الميكروب أو الجسم الغريب وتخلص الإنسان منه بنفس الطريقة التي يلتهم بها حيوان الأميبا – المكون من خلية واحدة – غذاءه.. ولو كان الجسم الغريب – المعترض أنسجة الجسم وتيار الدم – بروتيني التكوين؛ فإنه يعمل كأنتيجن Antigen، أي مولد ومحفز – للجهاز المناعي – لإنتاج أجسام مضادة، هذه الأجسام المناعية المضادة تحارب وجود الجسم البروتيني الغريب بالاتحاد معه، والعمل على تخليص جسم الإنسان منه في حالة تعرض الإنسان للعدوى بنفس الميكروب للمرة الثانية.. فنحن نلاحظ أن بعض الأمراض الميكروبية المعدية، التي تسببها البكتيريا أو الفطريات أو الفيروسات أو الحيوانات الأولية مثلاً؛ لا يصاب بها الإنسان إلا مرة واحدة في عمره.. مثل مرض الحصبة والغدة النكفية والسعال الديكي والكوليرا والطاعون وغيرها من الأمراض المعدية.. والذي يحدث هنا هو أنه عند حدوث عدوى بأحد هذه الميكروبات للمرة الأولى فإن دخول الميكروب المكون من بروتين غريب (foreign or non-self protein) مختلف عن بروتينات الجسم (self protein) يكون محفزًا ومستفزًا للخلايا الليمفاوية المناعية في الجسم لإنتاج أجسام مضادة – بتحوير خاص لأجزاء من بروتين البلازما- لمهاجمة الجسم البروتيني الغريب الذي أحدث وجودها، وتخليص جسم الإنسان منه بمعادلته وإلغاء فعاليته بالاتحاد به وبأذرعه الجانبية الفعالة، أو بالامتصاص على سطحه وتجميعه؛ ليكون فريسة سهلة لخلايا الدم البيضاء الملتهمة (phagocytes).. وبطريقة أو بأخرى فإن الأجسام المضادة (antibodies) تؤدي وظيفتها – في النهاية – لحماية الجسم كمضادات للسموم (antidotes).
الحرب ضد الأجسام الغريبة
إن التفاعل المناعي – بين الأنتيجن (antigen) أو البروتين الغريب (foreign protein) وبين الجسم المضاد (antibody) – هو تفاعل شديد الخصوصية.. بمعنى أن الجسم المضاد لا يتفاعل إلا مع الأنتيجن الذي أحدث وجوده فقط.. فعندما يصاب إنسان ما بمرض مثل الحصبة فإنه تتكون في جسمه – نتيجة لذلك - أجسام مضادة لميكروب الحصبة تواجه وتحارب أي اجتياح آخر للجسم من نفس الميكروب، فلا يصاب نفس الإنسان بمرض الحصبة مرتين.. ويقال هنا إنه اكتسب مناعة (immunity) ضد الحصبة.. لكن وجود هذه الأجسام المضادة في جسم هذا الإنسان لا تكفل له مناعة ضد الإصابة بعدوى ميكروبية أخرى غير الحصبة.. فقد يصاب مثلاً بالغدة النكفية أو بالسعال الديكي أو غيرها من العدوى والإصابات الميكروبية المختلفة.. فإن الإصابة بمرض ما تكون محصنة للجسم ضد نفس الميكروب (الأنتيجن)،إلا إذا كان هناك ميكروب آخر شديد الشبه في تكوينه بالميكروب الذي أحدث تولد الجسم المضاد.. في هذه الحالة يتفاعل الجسم المضاد مع البروتين – الشبيه - الآخر بكفاءة تتوافق مع درجة تشابهه وتقاربه من الأنتيجن الذي أحدث وجود الجسم المضاد في البداية.
هذه الأجسام المضادة (antibodies) تتولد في الجسم نتيجة تعرف الخلايا الليمفاوية الخاصة على بروتين غريب في داخل الجسم (the recognition of non-self or foreign protein)، أما في حالة حدوث خلل ما في التعرف المناعي المميز لبروتين الجسم عن البروتين الغريب عنه، فقد تقوم الخلايا المناعية بإعداد جيش من الأجسام المضادة الذاتية (autoantibodies) لمحاربة أحد بروتينات الجسم (self protein)، وينشأ عن ذلك أمراض يسببها هذا الخلل في الجهاز المناعي (immunologic diseases). لكن هذا مخالف للطبيعة التي تعمل من خلالها الخلايا الليمفاوية المناعية في الحالات العادية من أجل مهاجمة وإزالة السموم والأجسام الغريبة التي تجد طريقها إلى الجسم عن طريق العدوى أو الحقن أو عض الحشرات أو غيرها.
التعرف على المتسللين
إن عمل الجهاز المناعي في الدفاع عن الجسم يعتمد في الأساس على التعرف على البروتين الغريب المخالف لبروتينات الجسم.. وتوليد أجسام مضادة من بروتين البلازما بواسطة خلايا ليمفاوية خاصة.. وفي حالة دخول نفس البروتين الغريب – أو نفس الميكروب - مرة ثانية للجسم فإن الذاكرة (memory) المناعية تتعرف على هذا البروتين أو الميكروب الغريب، وتعمل الأجسام المضادة الخاصة به على الاتحاد معه وإزالته، فلا تحدث العدوى مرة ثانية.. وتظهر هذه الآلية في التفاعل المناعي بالجسم الحي عندما يتم حقن حيوان تجارب للمرة الأولى ببروتين غريب عنه (أنتيجن) وتقدير كمية الأجسام المضادة المتولدة عند الحيوان في سائل الدم (serum).. فبعد الحقنة الأولى يبدأ تكون الأجسام المضادة التي تصل إلى كمية كافية لحماية الجسم بعد فترة زمنية (refractory period) تقدر بحوالي أسبوعين.. فإذا تركنا الحيوان (أرنبًا مثلاً) بعد ذلك لبعض الوقت، ثم عاودنا الحقن بنفس الأنتيجن للمرة الثانية؛ فإننا نلاحظ ارتفاع معدل كمية الأجسام المضادة في سائل الدم (serum) عند الحيوان بسرعة وبكمية كبيرة.. وقد تمت الاستفادة من ذلك في تحصين الجسم باللقاحات والأمصال المجهزة من ميكروبات مضعفة أو ميتة، أو من سموم ميكروبية مثبطة.. هذه الأمصال عند حقنها في الجسم – بجرعات محسوبة وغير ضارة – تكون لها المقدرة على استفزاز الخلايا الليمفاوية المناعية لإنتاج أجسام مضادة لها.. هذه الأجسام المضادة تمنح الجسم مناعة وتحميه من العدوى بنفس الميكروب.
وقد امتدت فكرة اللقاحات والأمصال لتدخل بعض الميكروبات المضعفة في تركيب أنواع من الأدوية يتناولها المريض في بعض الحالات – حسب إرشاد الطبيب - بغرض تنشيط الجهاز المناعي وتحفيزه؛ لتكوين أجسام مضادة لهذه الأنواع الميكروبية، يواجه بها الجسم العدوى الخارجية التي تسببها هذه الميكروبات.
ففي حالة الإنسان العادي – الذي لا يعاني من مشاكل مناعية - سوف يتعرف جهازه المناعي بكفاءة على أي جسم غريب يتسلل أو يجتاح الجسم بصورة أو بأخرى، وسوف يعمل على تخليص الجسم من ذلك "الدخيل".. وهذه العملية التي تتم من أجل حماية الجسم في الظروف العادية للإنسان قد يقوم بعض الأطباء بتثبيطها في حالات علاجية خاصة (immunosuppressive treatment) مثل حالات زرع الأعضاء (transplantation)، أو يحاول الأطباء مجاوزة حالة المقاومة المناعية في الزرع باستخدام أنسجة من نفس الجسم لزرعها في أماكن أخرى لنفس الشخص؛ لكي لا يتم رفضها ومحاربتها من الجهاز المناعي.. أما في حالة زراعة أعضاء من أجسام أخرى؛ فإن الشخص المستقبل للزرع يكون عرضة لأنْ يعمل جهازه المناعي على محاربة العضو الجديد – أو النسيج المخالف - المزروع في الجسم.. لهذا فإن الأطباء يحاولون التحكم في تفاعلات الرفض من جهة الجسم باستخدام جرعات علاجية مثبطة لعمل الجهاز المناعي بصفة عامة في مواجهة أي نوع من أنواع البروتين المخالف لبروتينات الجسم (non-self or foreign protein).. ولكن هذه المعالجة التثبيطية للجهاز المناعي تتجه – مع المعاملات الطبية الحديثة - إلى محاولة جعلها متخصصة، ومثبطة للتوجه المناعي المقاوم لبروتين معين، وهو البروتين المختص بعملية الزرع، مع احتفاظ بقية توجهات الجهاز المناعي بفاعليتها.. وذلك باستخدام التقنيات الحديثة للهندسة الوراثية..
الـخــاتـمـة:
رغم أن التعامل الطبي هنا يتوجه – بصفة مؤقتة - نحو تثبيط الجهاز المناعي، أو تسكين الرفض المناعي للعضو الجديد المزروع في داخل جسم الإنسان؛ إلا أننا قد ندرج هذا التعامل الطبي تحت مسمى العلاج المناعي، أو المعالجة المناعية لحالة عارضة.
المــصـــادر:
http://www.islamonline.net/iol-arabi...26/scince1.asp