أزمات المثقف العربي – 6/6
علاقته بالمجتمع والسياسة
=================
من المؤكد أن الوضع المأزوم في علاقة المثقف العربي : بنفسه ، وبالمثقفين الآخرين ، وبالجماهير ، وبالثقافات الأخرى ، ماهو إلا إنعكاس ( لوضع إجتماعي وسياسي مأزوم ) ..
وهذا يوصلنا إلى ملامسة " علاقة المثقف بالسلطة " وصانع القرار .. أي : علاقة ( المثقف ) .. ( بالسياسي) ، والذي هو ضمنآ ( السلطة ) .
وعندما نقول أن الثقافة ليست مجرد نتاج فكري ، ولا مجرد أفكار متداولة ، فهذا يعني التأكيد على السيرورات العميقة التي تنشأ الثقافة بها ومن خلالها . وهي سيرورات رمزية ومعمارية وعقلية أكبر من مجرد النشاط العقلي الهادف ، وأكثر من النشاط العقلي المنظم . فهي :
[ تشكل ضمن النسق الإجتماعي ، نسقآ فرعيآ متميزآ و " مستقلآ بتفاعل " مع بقية الأنساق الأخرى ويتطور معها وبها ، يقوم في إطار إعادة إنتاج الإجتماع البشري كإجتماع مدني ] = برهان غليون = .
والأصل في المجتمع .. أنه يكوّن كلآ واحدآ لاتنفصل فيه " الثقافة " عن " السياسة " عن " الإقتصاد " . فهو النتيجة للتفاعل المتبادل بين مختلف هذه النشاطات والفعاليات : الروحية ، والعقلية ، والسياسية ، والإنتاجية . وإن إعترفنا بأن الثقافة وميدانها ، يختلف عن السياسة وميدانها ، ويختلف عن الإقتصاد وميدانه أيضآ .. إلا أن هذا " الإختلاف " لايعني " القطيعة " ، بقدر ما يعني تعدد آليات ونظم التوازن الإجتماعي بما يحقق نسق إجتماعي مستقر .
وعندما نتكلم عن المثقف العربي ، وعن السياسي العربي ، فلابد من وضع هذا التوجه ضمن إطار واضح ومحدد معبر ، يتمثل بكلمة : ( الوطني ) .. و " الثقافة الوطنية " هي مجموعة من الأفكار والقيم والصيغ والتعبيرات التي لايجب أن ( تقتصر على الكتابة والنصوص ) ، إنما يجب أن تشمل أيضآ " المعايير القيمية والسلوكية " التي تُعتمد وتُوجه ، مضافآ إليها الطاقات والنشاطات التي نمارسها " تعبيرآ عن موقف " ، أو تحديدآ لعلاقة بيننا ، أو مع الآخر . أي : بمقدار ماهي في مكونها " فكرآ " ، فهي " ممارسة " أيضآ .
وبكونها ( وطنية ) أي أنها " مقاومة " للظلم أيآ كان مصدره ، مدافعة عن الأرض والكرامة الوطنية تجاه أي قوة خارجية غازية عسكريآ أو سياسيآ أو ثقافيآ . وهي تعبير عن الحق في الوطن والحرية ، ومسؤولة عن الدفاع عن الوطن والحرية .
إن العلاقة بين : الثقافة / المثقف ، وبين السياسة / السياسي ، لاتظهر سلبياتها في الأغلب الأعم في فترات النهوض والتقدم ، بل تظهر أكثر في فترات التراجع والإنهيارات ، الأمر الذي يدفع لظهور بعض القناعات الخاطئة والمغرية ، كحل لهذه الإشكالية . ولا بد هنا من التوضيح بأن : " العمل السياسي " له منطلق وآليات ومتطلبات تجعله مختلفآ عن " العمل الثقافي " ، كما أنه يتصرف وخاصة في وطننا العربي وبكل المراحل التي مررنا بها .. بالبدائية ، والغوغائية في كثير من الأحيان ، إضافة إلى أنه قد يخضع في أغلب الأوقات " لإعتبارات آنية مؤقتة"، وإلى رغبته وتوجيهه في إخضاع كل النشاطات والمواقف لخدمة حاجاته اليومية المؤقتة . لذلك ينشأ من هذا تناقضات ناتجة عن إختلاف النظرة ، أو عن عدم تحديد طبيعة العلاقة والدور الذي يمكن أن يلعبه كل من المثقف والسياسي .
ومن المؤكد أن هناك ( علاقة جدلية ) بين المثقف وبين السياسي . إذ لايمكن أن تكون هناك سياسة بدون ثقافة . كما إن لم تتبن الثقافة دور ووظيفة تدعم فيها السياسة ، وتكون تجسيدآ يتبناه السياسي في عمله وممارساته .. لايعود للثقافة من معنى أو تأثير . فهما دوران مختلفان في وظائفهما ، إلا أنهما ( متكاملان ) في المضمون الهادف لخدمة المجتمع وتطوره وبنائيته . إذ ان العلاقة بين الثقافة والسياسة هي علاقة إختراقية تخترق كل منهما الأخرى وتؤثر بها .
فإنفتاح المثقف بوعي وإلتزام على ذاته وعلى مجتمعه ، وبالتالي على المجال السياسي .. الفاعل والممارس ، وإنتباه السياسي وأخذه بوعي وإنفتاح على الثقافي ، لابد أن ينتُج عن تلك العلاقة الجدلية متغيرات منتجة وفاعلة " أكثر صحة " ، قد تؤدي إلى تعديل السياسي بإنفتاحه هذا على الثقافة ، تصويب وتصحيح فكره السياسي ، وتوفر خلق إمكانيات جديدة تساعده على تصويب ممارساته وأنماط تفكيره وقراراته . فهذه العلاقة هي علاقة تبادل وعطاء وتفاعل ، لابد أن تؤدي عند إنتهاجها بإنفتاح وموضوعية وعقلانية ، إلى تغيير أو خلق أو تطوير لسياسة الفكر ، وتسهم في تغيير وتطوير الواقع الفكري ، والواقع السياسي ، وتعود بنتائج إيجابية وصحّية على المجتمع..الوطن والمواطن .
وأخيرآ .. فإنه لايمكن هنا عزل ما سبق ، عن الأزمات الثقافية والأيديولوجية وتوالدها في العالم . فالزمن الجديد ومعطياته : السياسية والإقتصادية قد أنتج ( ظاهرة العولمة ) التي تطغى في مسارها على جميع مناحي ومفاصل الحياة ، ومنها على ( الثقافة ) .. ونستطيع ملاحظة أن معظم المفكرين والباحثين والمحللين في ملامستهم للعولمة،إعتبروا ( الثقافة ) المتأثر الأكبر بتلك العملية التاريخية الطويلة والمعقدة ، والتي يتشابك فيها : السياسي والإجتماعي والإقتصادي . مما أوصل هذا السياق إلى وضع " الثقافة " كرديف وممثل ( للهوية ) والمدافع الأصيل عنها أمام هجوم ( العولمة ) والذي سيقضي على الثقافات الأضعف ، ويفتت رويدآ رويدآ مكوناتها المختلفة بدءآ من : معتقداتها الأساسية ورؤيتها للعالم ، وصولآ إلى الأساليب الحياتية مثل : المأكل والملبس والمسكن والعادات والعلاقات الإجتماعية . وهذا يعني أننا أمام ( منظومة متكاملة ) تبحث عن المغاير / المختلف ، لتعرّف نفسها من خلال : " الأنا " و " الآخر " .
وهنا تبرز للمثقف وظيفة ومهمة جديدة تتمثل بمسار خطين يجب أن يكون قادرآ على الموازنة بينهما بدون : إفراط أو تفريط .. فالتأثير العولمي على الثقافة تحديدآ لايمكن نكرانه أو غض الطرف عنه أو تجاهله ، فهو فارض نفسه شئنا أم أبينا . ومن هنا يأتي دور المثقفين والمتنورين بضرورة التعامل مع العولمة بمنطق عقلاني يحجب تأثيراتها السيئة على ثقافتنا ومجتمعاتنا وهوياتنا ، ويحيد أو حتى يجير إيجابياتها التي يجب أن تترجم إلى خصوصيات لنا ، بإدارة صراع حضاري معها وتجنب الصدام القسري معها . إن هذا ولا شك سيدفع أكثر إلى تأكيد إنفتاح موضوعي لهويتنا التي يجب أن تطور مضامينها من خلال عوامل ( الثابت .. والمتغير ) ، وإلا تحولت هويتنا / هوياتنا نتيجة التقوقع والتحجر ، إلى مرحلة صدام تفرز من خلاله هويات قاتلة .
كما أن هناك مفهومين قد إختلطا ببعضهما عند بعض المثقفين العرب ، وهما مفهوم ومضمون ( الحداثة ) و (العولمة ) .. مع ان هذا " الخلط " غير موضوعي خاصة إذا أحلنا كل تعبير إلى فلسفته وتاريخيته .
ففلسفة العولمة تقوم على محاولة القطيعة وإلغاء كل الخصوصيات المرتبطة بشعوب العالم في جميع مناحيها ومضامينها ، وتحاول الوصول إلى : عالم واحد ، وشعب واحد ، وأساليب حياة واحدة ، أنماط تفكير واحدة ، مرجعية واحدة – الهيكلية التبعية العامة - .
أما " فلسفة الحداثة " فهي مستمرة ومتراكمة لاتحمل القطيعة مع ما قبلها ، بل تسعى إلى تطوير وتجديد الرؤى : الإجتماعية والسياسية والفكرية والإقتصادية والبنائية على طريق التطوير والتجديد . إنها " عملية مستمرة " منذ نشوء المجتمعات ، ومطروحة بشكل دائم وفق تراكمات غير قابلة " للقطيعة " المعرفية مع جميع مراحل تراكمها الإنساني التاريخي الواعي .
وبرأيي .. أن كل مايقال عن : ماقبل الحداثة – الحداثة – مابعد الحداثة ، هو تزوير فلسفي ينحو لتحقيق أغراض مختلفة خارجة عن المضمون الحقيقي لمصطلح ومضمون ( الحداثة ) .. التجديد والتطوير والتحديث الدائمين . وبكل بساطة وإيجاز لايخلان بمضمون الفكرة والنتيجة .. وطالما هناك إتفاق أن المراحل العليا للمثقف لابد أن توصل إلى مرحلة ( الإبداع ) .. فإنه يمكن أن نفهم دور المثقف من خلال إبداعه – والإبداع في أهم مناحيه ، تصورات وأطروحات تتجاوز الواقع القائم – أنه ينحو دائمآ إلى ( الحداثة ) والتحديث والتطوير ، حتى لو كانت تلك الأطروحات متجاوزة للإدراك والتقبل المعاش في زمان ما ، ومكان ما ، ومعطيات محيطة ، وبما يمكن أن يطرح هذا الإبداع من : رؤى جديدة ، ووعي أوسع وأعمق ، وحلول مبتكرة للمشكلات والإشكاليات التي تعيشها مجتمعاتنا .
وأخيرآ .. ومع ظهور ظاهرة " التشكيك بأهلية المثقفين " في إمكانياتهم لرفد حركة التغيير التاريخية بأي قيمة إيجابية ، هذه الظاهرة الآنية ومع إرتباطها بظروفها الذاتية والمحيطة ، قد تكون مفهومة في الواقع الداخلي بسبب بعض الإستقالات ، وضعف التفاعل الجماهيري ، وأزمات المثقفين ، إلا أنها ( مرفوضة كليآ ) بمنطلقها التشكيكي والدعوة إلى التخلي عن ثقافتنا وهويتنا العربية ، و القبول بالإستلاب .. عن تحرير الثقافة العربية من "هيمنة" الروافد الخارجية الأجنبية ، يجب أن يترافق مع " عدم المغالاة " في رفع جدران الحمايات الذاتية .
======================
فائز البرازي
24/6/2009