مسجد السطان أحمد في تركيا
تمهيد
أصبحت استنبول بعد الفتح الإسلامي لها على أيدي العثمانيين عام 1453هـ متحفاً واسعاً للمساجد الفخمة النادرة المثال. تلك المساجد التي لا يزال معظمها شامخاً في سماء استنبول بمآذنة الرشيقة العالية وقبابه الفخمة الواسعة، والملاحق والساحات التابعة له مما يأخذ بألباب الناظرين من جهة ويشهد ببراعة المعماريين المسلمين من جهة أخرى..
نعم إن استانبول عاصمة الخلافة الإسلامية خير شاهد على قدرات وابداع المهندس المسلم، وجمعه بين الجمال والمهابة، وقدرته على التجديد مع الأصالة ، ومزجه أطراف الدين بالحياة المتطورة، والتعبير بالبناء والحجر والطين عما يعجز القلم عن وصفه والإحاطة به بالحرف والكلمة والعبارة.
كنيسة آيا صوفيا... وآثار خالدة:
وإذا كانت استنبول تفخر ـ قبل الفتح الإسامي لها على يد السلطان محمد الفاتح ـ بأعظم كنيسة بنتها الأيدي البشرية على الأرض، وهي كنيسة آيا صوفيا ( بنيت في قمة روعتها عام 537 م) في عهد الامبراطور جوستيان، بعد أن جمع لها ورثة الامبراطورية الرومانية كافة، من معماريين وآثار وأموال. فاستقدم آرتموس أحسن معماري آسيا من أهالي تريللس، وايسادور من ميلانو، وهما أشهر معماريي عهدهما وأذكاهما وجلب الأحجار والأعمدة والرخام من مصر وبعلبك وأوبْوا وأثينا وروما، وأنفق عليها 360 مليون فرنك ذهبي واستخدم فيها 10.000 عامل، حتى قيل: إن هذه البناية لم يشهد مثلها منذ آدم، ولا يمكن تشييدها بعد الآن.
أقول: إذا كانت استنبول قبل الإسلام تفتخر بآيا صوفيا، فإن الخلفاء العثمانيين والأمة الإسلامية نجحت في تحدي الامبراطورية الرومانية، وجوستيان بالذات فأقامت على أرض استنبول روائع أكبر وأعظم وأبقى من آيا صوفيا مثل مسجد السلطان أحمد، ومسجد السليمانية، ومسجد الفاتح وغيرها من آثار مدهشة باهرة فاقت آيا صوفيا سعة ورقة ودقة وزخرفة وفنا. على الرغم من تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد بعد الفتح.
ولنشرح تلك الحقيقة من خلال الحديث عن مسجد السلطان أحمد المعروف بالمسجد الأزرق في استانبول .
لكل خليفة مسجد يخلده:
بعد وفاة السلطان العثماني مراد الثالث عام 1603م، تولى السلطنة من بعده السلطان أحمد الأول ( 1603 ـ 1617 م) وكأسالفة الذين سبقوه فقد أمر ببناء مسجد يضم مجمعاً كبيراً للخدمات المدنية والعلمية والاجتماعية في عاصمته، يُجمع فيه أقصى ما يمكن من الفخامة الخارجية والداخلية، بحيث ينافس آيا صوفيا ويزيد عليها.
فاشترى قطعة أرض كبيرة بمبلغ ضخم من صاحبها، بعد أن أعجبه فيها قربها من قصر الخلافة ( طوب قباي ) وإشرافها الرائع على البحر، وكلف أشهر مهندس عصره المهندس محمد آغا، الذي تلقى تدريبه على يد أكبر بناء في التاريخ الإسلامي العثماني ( سنان باشا ) وعلى يد المهندس الكبير ( داود آغا ) وأمره أن يضع بين يديه تصوراته الفنية الممكنة لهذا العمل الفريد المتميز...
وكان المهندس محمد آغا قبل ذلك قد بدأ هواياته بتعلم الموسيقى فأتقتها، وأتقن معها فن التطعيم بالصدف، وبلغ فيه درجة عالية من المهارة، مما كان له أثر واضح في رقة أعماله وجمالها وتناسقها.
ست مآذن شاهقة... ومئذنة للحرم:
وأراد اسلطان أحمد أن يبالغ في تعظيم شأن مسجده فأمر ببناء ست مآذن له تناطح السحاب، وكإشارة منه على تواضعه أمام بيت الله الحرام في مكة المكرمة ـ الذي كانت فيه ست مآذن حينذاك ـ ورغبة منه في أن تتميز الكعبة الشريفة وحدها دون سواها على مسجده، فقد أمر أن يضاف إلى مآذن المسجد الحرام البديعة مئذنة سابعة هدية منه لبيت الله المعظم، كما أمر بكسوة الكعبة بصفائح من الذهب، وركب لسطح الكعبة ميزاباً من الذهب وأحاط أعمدة الحرم بحلقات مذهبة، ورمم جميع قباب المسجد الحرام وعددها آنذاك 260 قبة.
الصورة العامة، وسبع سنين من العمل المتواصل:
بدأ العمل في مسجد السلطان أحمد في استنابول عام 1609م، واستمر طيلة سبع سنين إلى أن انتهى وافتتح عام 1616م، قبيل وفاة السلطان أحمد بعام واحد، وأصبح معلماً من معالم العمارة الإسلامية، يلوح في الأفق بمآذنه الرشيقة للناظرين من بعيد، خاصة القادمين على سطح بحر مرمرة أو مضيق البوسفور كأوسع مجمعات استنابول الإسلامية، وأرحب ما انشئ من المساجد السلطانية وأكثرها مآذنا،
ويشبه هذا المسجد مسجد شهزاده، والمسجد الجديد ( يني جامع ) الذين بناهما المهندس داود آغا من قبل.
والصورة العامة لمسجد السلطان أحمد: قاعة للصلاة يسبقها صحن من حوله أروقة من ثلاث جهات.
وتحيط بالمسجد هذا أبنية ملحقة به منها مدرسه للتعليم الإبتدائي ( الأولي ) ومستشفى متخصصاً في علاج الأمراض، وسوق وقسيارية، ودارٌ للمرق ( أي مطعماً) للفقراء، وسبيلُ ماء للعطاش، ومحلاتٌ تدرّ ريعا ومورداً ما لياً للمسجد، وضريح السلطان أحمد يرقد فيه إلى يوم الدين .. هذا كله وسط حديقة غناء تغمر أرضها الخضرة وتظللها الأشجار الباسقة وتزينها الورود الملونة.
قاعة الصلاة ومعالم رائعة:
فأما قاعة الصلاة في مسجد السلطان أحمد ( أو المسجد الأزرق ) فمساحتها مستطيلة قريبة من التربيع، إذ أن طولها 72 متراً وعرضها 64 متراً، وهي بذلك من أوسع قاعات الصلاة، ويدخل إليها من صحن المسجد ( الفناء الخارجي ) بواسطة ثلاثة أبواب برونزية، الأوسط منها هو الأوسع، وهي ثلاثتها صنعها المعلم زكي شلبي في قمة الإبداع الفني، ولها عتبات رخامية مرمرية.
وترتفع وسط بيت الصلاة القبة الفخمة التي أراد لها السلطان أحمد أن تزيد على قبة آيا صوفيا فكان قطرها 33.5 متراً. بزيادة عليها قدرها متران ونصف تقريباً وهذه التي ترتفع 43 متراً على أربعة قناطر ( عقود ) كبيرة تتكئ على أربعة أكتاف ضخمة يطلقون عليها اسم ( أرجل الفيل ) يبلغ قطر الواحدة منها خمسة أمتار، وتلتف حولها جدران المسجد.
ويحف بالقبة الكبيرة أربعة أنصاف قباب، وقد أضفى استخدام أنصاف القباب حول القبة الكبرى على داخل المبنى احساساً بالانطلاق والإنسيابية حتى أصبحت الرحابة ـ وهي ذات منهج وتأثير أخاذ ـ صفة من صفات المهندس محمد آغا، استطاع أن يطور أفكار أستاذه العظيم سنان باشا في الجمع بين سلاسة الداخل وجمال المظهر الخارجي، بما نثره حول القبة الكبرى والقباب الصغرى من نوافذ، أحسن صنعها وأتقن عقودها وقدر نِسَبها وأبعادها، فأصبح المسجد يتلألأ بالضوء من خلال 260 نافذه موزعة على خمسة صفوف ومحلاة بالزجاج الملون، حتى ترى المسجد وكأنه القصر الذي يتحلى بأبدع الزخرف.
خاصة إذا علمنا أن نور تلك النوافذ ينسكب على 21043 بلاطة خزفية لماعة، تجمع أكثر من خمسين تصميماً، منها تصاميم زهور التوليب والقرنفل والفروع النباتية، وهي تغطى الجدارن بلونيها الأزرق والأخضر، كما تغطى ثلث كل عمود إلى ارتفاع الممرات.
وقد قام على صناعة تلك البلاطات الخزفية المعلم الخزاف (حسين) وهي تعتبر من أغنى مجموعات الخزف التي ما تزال في أماكنها، بعد تلك الموجودة في القصر الملكي العثماني طوب قابي سراي.
ومن النماذج التي لا نظير لها في المسجد أيضاً البلاطات الفيروزية اللون ذات الكتابات القرآنية المذهبة التي تزين الجناح السلطاني في المقصورة، وهذه الكتابات من ابداع الخطاط أحمد غباري.
وكذا الزخارف المتعددة الألوان الموجودة أسفل تلك الكتابات، وتشغل الزخارف المدهونة كل جزء من أجزار المبنى ، سواء في ذلك الدعائم المصبعة أو القباب.
وقد اضفى لونها الأزرق على المسجد من الداخل احساساً قوياً لسيطرة هذا اللون مما دفع الناس إلى تسميته بالجامع الأزرق.
ونلمح فوق ذلك ابداعت من روائع المهندس المشرف على المسجد (محمد آغا) الذي هو في الأصل متخصص في الصدف، فيما هنالك من تطعيم بالصدف على كل الأبواب ومصاريع النوافذ.
منبر ومحراب من مرمر نفيس:
ويلفت النظر في مسجد السلطان أحمد ( المسجد الأزرق ) في قاعة الصلاة المنبر المتصدر لجدار القبلة مع المحراب المجاور له/ وهما من المرمر النفيس، ويمثلان قمة الجمال والإبداع في الزخارف والنقوش المغطية لهما، ويحف بالمحراب شمعدانان كبيران.
المقصورة السلطانية :
كما تلفت النظر في قاعة الصلاة مقصورة السلطان الواقعة في الزاوية اليسرى من قاعة الصلاة . ولها محراب خاص بها، مزخرف بأعمال الموزاييك، ومطعم بالأحجار الكريمة.
وباب تلك المقصورة من نوع فريد يقال له عرق اللؤلؤ، وهو مطعم بأعمال خزفية مكسوة بالذهب.
أما الحواجز المرمرية المؤدية إلى المقصورة ففيها من أعمال النحت والنقش ما يمكن أن يضرب به المثل في روعة أعمال الإبداع البشري على صفحات الحجر الإصم .
صحن فسيح واسع:
وأما صحن المسجد فهو فناء كبير تحيط به أروقة أربعة فيها صف من البوائك محمول على 26 عموداً من الغرانيت ولهذا الأعمدة تيجان من الرخام تزخرفها مقرنصات وتحمل بوائك الأروقة 30 قبة تدور حول صحن المسجد.
كما تتوسط صحن المسجد ميضأة سداسية الشكل تقوم على سته أعمدة رخامية في زواياها الستة وفيها نماذج من النقش جميلة .
وتتضمن المسجد ثماينة أبواب من جهاته الثلاث.
المآذن العثمانية الشهيرة :
ولا تستطيع العين أن تتجاهل منظر المآذن الست المنتشرة في أطراف المسجد أربعة منها في زوايا قاعة الصلاة، واثنتان في زاويتي صحن المسجد، وهي تشبه السهم الصاعد إلى السماء، أو قلم الرصاص المبري جيداً . وتلك صفة عامة في المآذن العثمانية.
وفي كل من المنارات الأربع المحيطة ببيت الصلاة ثلاث شرفات، أو ثلاث مواقف للمؤذنين، بينما في كل من الاثنتين اللتين في ركني صحن المسجد موقفان أو شرفتان فقط..
وإذا كانت الدعوة إلى الصلاة اليوم تتم من خلال مكبرات الصوت، فإنه في الماضي كان المؤذنون يصعدون على الشرفات الستة عشر خمسَ مرات كل يوم.
مجمع متكامل لا مسجد فقط:
وليس صحن المسجد مع بيت الصلاة مع المنائر ليس هذا كله جميع مسجد السلطان أحمد .. ذلك أن هذا السلطان بنى مجمعا كاملاً يؤدي غرضاً دينيا ًواجتماعياً واقتصادياً وحضارياً. في قالب جمالي آسر، جعل من المسجد الأزرق ( مسجد السلطان أحمد ) أجمل جوامع استانبول بلا ريب.
وزارة الاوقاف الكوتية