مقامات طريد الزمان الطبراني/ المقامة الأولى/ د. يوسف حطيني
مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني(1)
المَقَامَةُ الأُولَى: عَطَا الزِّيْر لا يَأْكُلُ لحْمَ الخِنْزير
د. يوسف حطيني
إلى خالد موعد الذي لم يشرب من ماء الزجاجة
كُنَّا في إِحْدَى لَيالي رَمَضان، في مَجْلِسِ طَرِيدِ الزَّمَان، فوَجَدْناه مُغْتَمّاً في غَاية الكَآَبة، إذْ رَاحَ يَنْظُرُ إليْنَا نَظْرَةً مُرْتابة، ثم انتَفَضَ بنا فَجْأةً وسَأَلَ في صَوْتٍ يُشْبِهُ الهَدير:
هَلْ تَأْكُلُونَ لَحْمَ الخِنْـزير؟
قُلْنَا: نَعُوذُ بالله.. الخِنْـزيرُ لا يغار، إذا نَزَا عَلى خِنْـزيرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، ولَحْمُهُ يَخْفِضُ مَنْسُوبَ الشَّهَامَةِ في دِمَاءِ النَّاس، وَيَقْتُلُ فِيْهِم المُرُوءَةَ والإِحْسَاس، ويَتَغَلْغَلُ في الدَّمِ والدَرَقِ والبِنْكِرْيَاس، فَكَيْفَ نَكُونُ لَهُ آكِلين؟
قَالَ: مَا أَظُنُّكُم إلا فَاعِلين.
قُلْنا، وَقَدْ رَكِبَنَا شَيْطَانُ القَلَق، وسَارَتْ في دِمَائِنا حُمَّى النَـزَق: كَيْف؟
قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
كُنَّا قَبْل ثَلاثِ لَيالٍ نحُثُّ عَجَلاتِ المَرسيدس نحْوَ أَحَدِ الخَانَات الحَدِيثَةِ في المَدينَة، حَيْثُ دُعِينا إلَى تَنَاوُلِ طَعَامِ الإِفْطَار، تِلْكَ السَّيَارَةِ التي وَرِثَهَا صَدِيقُنا أبو الجماجم عَنْ أَبِيْهِ المِغْوَار، الّذِي حَصَلَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الثوّار، فَقَدْ تَدَرَّجَ أبُوهُ في الكَرَاسِي، حَتّى صَارَ عُضْواً في المَكْتَبِ السِّيَاسِي؛ ولأنَّ صَاحِبِنا لم يَكُنْ يَحْفَظُ دُعَاءَ السَّفَرْ، فَقَدْ أَوْجَسْتُ مِنَ الخِيْفَةِ والحَذَر، ورُحْتُ أُتَعَوَّذُ وأُبَسْمِلُ وأُصَلّي عَلَى النَّبيِّ العَدْنَان، مُنْذُ انطَلَقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلى المَكَان، بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَان ، فَإِذَا بِنَا وَقَدْ اِبْرَنْقَشَتِ الأَرْضُ، وإِذَا بِنَا أَمَامَ مَرْجٍ أرِيْض ، طَوِيلٍ عَرِيْض، أُقِيمَ عَلَيْهِ صَرْحٌ يَتَحَدَّى الآبَاد، وعَلَى أَبْوَابِهِ حَرَسٌ أكْثَرُ أَنَاقَةً مِنَ الرُّوَّاد.
وإذْ دَخَلْنَاهُ ضِعْنا في مَدَاخِلِهِ، وأَخَذَتْنَا دُرُوبٌ ودُرُوب، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنا وَقْتُ الغُرُوب، فأَتَيْنَا قَاعةً كَبيرة، طَاوِلاتُها كَثيرة، فَأَدْرَكتُ أنّا وَصَلْنا إلى الطَّعَام، ولم نَجِدْ الفُرْصَةَ لنُسَلِّمَ عَلَى مَعَارِفِنا مِنَ الأَنَام، فَأَسْرَعَ أبو الجَمَاجِم، وتَنَاوَلَ ثَلاثَ تَمَرَاتٍ عَنِ المَائِدة، وَحَشَاهَا في فَمِهِ دُفْعَةً وَاحِدَة، وحينَ مَدَدْتُ يَدي لآكُلَ تَمْرَاً، ذَكَّرَني أنْ أَجْعَلَهُ وِتْرا.. وَهَكَذَا فَعَلْتُ، ثم غَبَّ وغَبَبْتُ، وكَرَعَ وكَرَعْتُ.
ثمَّ نَظَرْتُ إلى الطَّاوِلاتِ فَوَجَدْتُها شِبْهَ خَالِيَة، فَاسْتَفَزَّتني مَعِدَتي الخَاوِيَة، وقُلْتُ لأَبي الجَمَاجِم: لعلَّنا مَدْعُوونَ إلى أَكْلِ التَّمْرِ وشُرْبِ المَاء، فَسَخِرَ مِنّي وَقَالَ بِلَهْجَةِ خَبِيرِ الخُبَرَاء: أَلَمْ تَرَ مِنْ قَبْلُ مَائدةً مَفْتُوحَة..
ضَحِكْتُ ضِحْكَةً مَجْرُوحَة، فَاقِداً اتِّزَاني وهُدُوئي، حَتَّى كِدْتُ أَسْتَلْقِي عَلَى قَفَايَ لَوْلا خَشْيَتي مِنَ اِنْتِقَاضِ وُضُوئي، وَقُلْتُ: الحَمْدُ لله عَلَى نِعَمِهِ السَّائِدَة.. لَقَدْ أَصْبَحَ كُلُّ شَيْءٍ مَفْتُوحَاً حَتَّى المَائِدَة..
عَبَسَ أَبُو الجَمَاجِمِ في وَجهي ثم تَجَهَّم، وسِرْتُ وَرَاءَهُ كالمسرنم، أقلّده في كُلِّ شَارِدَةٍ ووَارِدَة، مَالِئاً صُحُوني مِنَ الأَطْعِمَةِ السَّاخِنَةِ والبَارِدَة، وزَلَحْتُ الطَّعَامَ فَوَجَدْتُهُ لذيذاً، فأكَلْتُ حتَّى حَمِدْتُ العَلِيَّ القَدِير، وَقَدْ لَفَتَني رَجُلٌ يَعْذِفُ مِنَ الطَّعَام الشَّيْءَ اليَسِير، وإِذْ سَألْتُ عَنْهُ أبَا الجَمَاجِمِ قَالَ في خُيَلاء: إنَّهُ وَالِدُ أَحَدِ الشُّهَدَاء، وَقَدْ دَعَوْنَاهُ إِكْرَاماً لابنِهِ الشَّهِيد. أَنْتَ تَعْرِفُنَا أيُّهَا الطَّرِيد، فَنَحْنُ لا نُهْمِلُ أُسَرَ الَّذينَ ضَحَّوْا بالمَالِ والبَنِين، مِنْ أَجْلِ فِلَسْطِين، فَفِي كُلِّ وَلِيمَةٍ ندْعُو واحداً مِنْهُم، يَأْتي لِيَفْثَأَ بِزُجَاجَةِ كولا مَشَاعِرَهُ الحَرَّى، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ حَتَّى يأتيَ دَوْرَهُ مَرَّةً أُخْرَى، قُلْتُ: يَا أبَا الجَمَاجِم، وَمَاذَا عَنْ أُمَّهَاتِ الشُّهَدَاء، وَمَنْ سَيَدْعُوهُنَّ إلى الوَلائِم؟ قَالَ: بَسِيطَة، تَتَكَفَّلُ بهِنَّ أُمُّ الجَمَاجِم..
وبينما كنّا نأكل وجَّه أبو الجماجم خطاباً إلى والد الشهيد:
كُلْ يَا أَخِي.. كُلْ واشْرَبْ هَنِيئاً مَرِيئاً، فَإِنَّ مَالَ الثَّوْرَةِ للثُّوَار.. ثمَّ صَبَّ لَهُ أَبُو الجَمَاجِمِ، بِتَوَاضُعِ الكَريمِ المِعْطَاءْ، كَأْساً مِنْ زُجَاجَةِ المَاء، ولكِنَّ الرَّجُلَ رَفَضَ أَنْ يَكُونَ لهَا شَارِبَا، وحِيْنَ أَصَرَّ اِنْصَرَفَ الرَّجُلُ إلى مَائِدَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ أبُو الجَمَاجِمِ غَاضِبَا:
"برُولِيتَارية قَذِرَة"!!
قَالَ لي أبُو الجَمَاجِم: ما رَأيُكَ أنْ تَقُومَ مَعِي لتَأخُذَ بَعْضَ الحلوى؟
قلت: "إذا الأكل مُو إلَك بطنك مُو إلَك ؟؟"
فَحَدَجَني بِنَظْرَةٍ قَاسِيَةٍ حَدْجَا، ثمَّ انْطَلَقَ يُغَنِّي مُحْتَجَّا :"طَالِعْ لَكْ يا عَدُوّي طَالِعْ.. مِنْ كُلّ بِيْت وحَارَة وشَارِع".
قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
وّحِيْنَ لَمَحْتُ وَالِدَ الشَّهِيدِ في إِحْدَى زَوَايَا الدَّجْمَةِ اقْتَرَبْتُ مِنْهُ وَسَأَلْتُهُ:
لمَاذَا لم تَشْرَبْ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَة؟
قَال: قِصَّةٌ فِيْهَا لجَاجَة.
قلت: اروِهَا الآن.
قَالَ: لا بَأسَ يا طَرِيْدَ الزَّمَان، عَلَى أَنْ يَسْمَعَهَا "فَارِسُ الفُرْسَان".
ثُمَّ إِنّي ذَهَبْتُ إِلَى أَبي الجَمَاجِم مِنْ فَوْرِي، وَشَرَحْتُ لَهُ أَمْرِي، وَرَجَوْتُهُ أَنْ نَسْمَعَ حِكَايَةَ الزُّجَاجَةِ في بَيْتِهِ الفَسِيح، بَعْدَ أَنْ أَصَابَتْني مِنَ الشَّوْقِ إلى سَمَاعِهَا التَّبَارِيح، فَقَال: إذاً سنَسْمَعُهَا بَعْدَ صَلاةِ التَّرَاوِيح.. وهَكَذَا كَان.
قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد، وَهُوَ يَجْلِسُ عِنْدَ العَتَبَة: حِكَايَتي مُقْتَضَبَة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ تَنَاوُلَ لحْمِ الخِنْـزِير يُذهِبُ المُرُوءَةَ، وأنَّ الخِنْـزيرَ لا يَغَار، إذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيْرَتِهِ جَحْشٌ أو حِمَار، وسَمِعْتُ أنَّ الجِيْلَ السَّابِق قد هَنِئَ بمُجُافُاتِه، وأنَّ عَطَا الزّيْر لمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ في حَيَاتِه.
قلتُ: عطا الزير فقط..
قال: عَطَا الزِّير ومحمَّد جَمْجُوم وفُؤَاد حِجَازي والقَسَّام وأَحْمَد يَاسين وصَلاح خَلَف وأبو عَلِي مُصْطَفَى، وغَيْرُهُم كَثير، وَلَكِنَّ الّذينَ أكَلُوا مِنْهُ كَثِيرونَ أَيْضاً.
قَالَ أبو الجَمَاجِم: وَهَلْ تُصَدِّقُ أنَّ كَثيراً مِنّا أَكَلَ لَحْمَ الخِنْـزِير؟
قَالَ وَالِدُ الشَّهِيْد: نَعَمْ أُصَدِّقُ.. فَلَيْسَ هَذَا عَلَى أَمْثَالِنَا بِكَثِير.
انتَفَضَ أبو الجَمَاجِمِ كَمَا لم يَنْتَفِضْ يَوْمَ مَذْبَحَةِ جِنِين، قَائِلاً: "كلام عَدُوّين"، ثُمَّ أَضَافَ، بَعْدَ أنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِه، واتّكَأَ عَلَى جَاعِرَتِه: عَلَيْكَ أنْ تَأتِيَ بالبُرهَان، لا أنْ تَتَّهِمَنَا اِسْتِنَاداً إلى الزُّورِ والبُهْتَان، بَعْدَ أنْ حَارَشْنا الأعْدَاء رَدَحاً مِنَ الزَّمَان؟
قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد: العِرْض عِنْدي لا يَتَجَزَّأ.. فالأرْضُ صِنْوُ العِرْض، وَمَنْ تَجَرَّأ عَلَى بَيْعِ الوَطَن، وَقَبَضَ الثَّمَن، ونَسِيَ الألمَ، ووَقَّعَ وَبَصَم، وَمَنْ رَأَى فِلَسْطِينَ تُبَاعُ في سُوقِ النِّخَاسَة، فَفَضَّلَ ألا يَتَدَخَّلَ في السِّيَاسَة، يُسَاوِي عِنْدِي خِنْـزِيراً لا يَغَار، إِذَا نَزَا عَلَى خِنْـزِيرَتِه جَحْشٌ أو حِمَار.
قُلْنَا، وقَدْ ألهَبَ عُرُوقَنا هَذَا الكَلام : هَلْ تَضَعُنَا جَميعاً في قَفَصِ الاتِّهَام؟
قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الأعْدَاءَ صَارُوا يَضَعُونَ لَحْمَ الخِنْـزِير في كُلِّ شَيْء.. في الكُولا، وفي سَائِرِ الخَلْطَات، حتَّى إِنَّهُم يَحُلُّونَ مَسْحُوقَهُ في المَاءِ المُعَبَّأ في زُجَاجَات.
قَالَ أبو الجَمَاجِم، وَقَدْ خَلَعَ ثَوْبَ الأَدِيْب: مَاذَا تَقْصِدُ يَا قَلِيْلَ التَّهْذِيب؟
قَالَ: الكُلُّ مُصَاب، مِنَ الشَّبَابِ والشُّيَاب، عَدَا أولئِكَ الفُقَرَاء، الّذِيْنَ لا يَسْتَطِيعُونَ شِرَاءَ الوَجَبَاتِ السَّرِيعَةِ وعُلَبِ الكُولا وزُجَاجَاتِ المَاء..
قَالَ أبُو الجَمَاجِم: وَأَنَا؟
قَالَ وَالِدُ الشَّهِيد بهُدُوءٍ: وَأَنْت.
أَرْغَى أَبُو الجَمَاجِم وأَزْبَد، وغَلُظَ طَبْعُه، واِرْبَدَّ وَجْهُه، وَمَلأَ الجَوَّ بالصُّرَاخِ والطِّنَان، وَطَرَدَنا جَمِيعاً خَارِجَ المَكَان..
وإِذْ ذَاكَ لَحِقْتُ وَالِدَ الشَّهِيد، وَقُلْتُ لَهُ فِي ذُهُول: أُصّدِّقُكَ فِي كُلِّ مَا تَقُول، وَلَكِنّي شَرِبْتُ الكَثِيرَ مِنَ الزُّجَاجَات، وَأَكَلْتُ المُتَنَوِّعَ مِنَ الخَلطَات، فَكَيْفَ أنجُو مِنْ هَذَا البَلاء، وأنْتَ أدْرَى بالبِئْر والغِطَاء؟
قَالَ: تَشْرَبُ مِنْ بُحَيْرَة طَبَرِيَّة.
قُلْتُ: العَيْنُ بَصِيْرَة واليَدُ قَصِيْرة.
قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ حَيْفا.
قُلْتُ: هَذِهِ أَصْعَبُ.
قَالَ: فَمِنْ بَحْرِ غَزَّةَ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيْمَان.
قُلْتُ: هَذِهِ سَهْلة، إلا إِذَا حَوّلَهُ الجَيْشُ الإسْرَائِيليُّ بَحْراً مِنَ الدِّمَاء، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ قَتَلَ عَلَى الشَّاطِئِ أباً وَسَبعَةَ أَبْنَاء.
قَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
والآنَ بَعْدَ أنْ سَمِعْتُم الحِكَايَة، وَفَهِمْتُم الغَايَة، مَا أنْتُم فَاعِلُون؟
وَإذْ ذَاكَ لم يَنْطِقْ أيٌّ مِنّا بكَلِمَةٍ أَوْ حَرْف، وَحَطَّ عَلَيْنَا طَائِرُ الفَزَعِ والخَوْف، وَصِرْنَا مِنْ أَمْرِنَا في حَيْصَ بَيْص، ولم نَدْرِ مَا نَفْعَلُ في اللَّيَالي الدَّجُوجِيَةِ القَادِمة، بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَتْنَا الحَيْرَة: أَنَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الزُّجَاجَاتِ، أَمْ مِنْ مَاءِ البُحَيْرَة؟
أَمَّا طَرِيدُ الزَّمَان فَقَدْ وَدَّعَنَا إلى البَاب، تَوْدِيعَ الأحباب، قائِلاً بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتَّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: وَمَا عُنْوَانها، قَال: "العَمّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ في غَزَّة"
مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ(2)
المَقَامَةُ الثَّانِيَةُ: العَمُّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ فِي غَزَّة
د. يوسف حطيني
إلى الدكتور أحمد عطيّة السّعودي امتناناً لأحماضه الأدبيّة
حّدَّثَنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني قَال:
كّنْتُ فِي أَحَدِ شَوَارِعِ المُخَيَّم، قُرْبَ سُوقِ الخُضَار، عِنْدَمَا انتَبَهْتُ إِلَى أنّ الظَّلامَ قَدْ خَيَّم، وطَارَتْ بَرَكةُ النَّهَار، وإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابي الَّذينَ بَاوَكْتُهُم فِي المُؤْتَمَرَاتِ زَمَناً طَوِيْلاً، يَحُثُّونَ نَحْوِي المَسِير، وكَأَنَّهُم مُقْبِلُونَ عَلَى شَيْءٍ خَطِير، فَحَكَّ في خَاطِري فَأْلٌ سَيِّئ، فَقُلْتُ بِصَوْتٍ وَاجِل: أَجَارَنَا اللهُ مِنْ خَبَرٍ عَاجِل، قَالُوا: الإخْوَةُ يجتَمِعُونَ عَلَى طَاوِلَةِ الحِوَار، وَأنْتَ مَشْغُولٌ بالبَنْدُورَِة والخِيَار؟ قُلْتُ: أَوْجِزُوا، فَإِنّي مُكَلَّفٌ بمُهِمَّةٍ رَسْمِيَّة، مِنْ قِبَلِ وَزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة ، قَالُوا: سَوَّدَ اللهُ وجْهَكَ. نَدْعُوكَ لغَايةٍ سَنِيّة، فَتُحَدِثُنَا عَنْ شُؤونِكَ الأُسْريّة. ثمَّ أَضَافُوا سَاخِريْن: أَتَذْهَبُ مَعَنَا في الحَال؟ أَمْ تَعُودُ إِلَى أُمِّ العِيَال؟ فَاسْتَفَزَّني هَذَا التَّحَدِّي السَّافِر، وَقُلْتُ: أَذْهَبُ مَعَكُم دُوْنَ اِسْتِخذَاء، وَأَضْمَرْتُ الاِسْتِعْدَادَ لِلَيْلَةٍ سَوْدَاء.
ثمَّ اِنْطَلقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلَى المَكَانِ، فَوَجَدْنَا فِيْهِ خَلْقاً كَثِيراً، وإِذْ نَظَرْتُ فِيهِ نِظْرَةَ المُرْتَاب، طَالَعَني مِنَ الأَوْضَاح عَجَبٌ عُجَاب، مِنَ الشِّيبِ والشَّبَاب، بالإِضَافَةِ إلى سَافِرَاتٍ وَمُحَجَّبَات، نَامِصَاتٍ وغَيْرِ نَامِصَات، يَتَدَرَّجْنَ مِنَ المَوْجُوْنَاتِ المُستَتِراتِ بِالبَرَاقِع، إلى المُرْتَئِدَات اللائِي يَتَبَرَّعْنَ بِأُنُوثَتِهِنَّ لِعُيُونِ الجَائِع، وَثمَّةَ صُرَاخٌ وَصَفِير، وحَمْحَمَةٌ وزَئِير؛ لِذَا فَقَدْ تجَرْثَمْتُ فِي مَكَاني، ولم أُغَادِرْه، وَنذَرْتُ للرَّحمنِ الصِّيَام، لأنّ الاِسْتِمَاعَ فِي مِثْلِ هَذِه الأَحْوَالِ أقْرَبُ إلى التَّقْوَى مِنَ الكَلام.
وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان، مُفْتَتِحاً جَلْسَةَ الحِوَار، بِبَيْتٍ مِنْ أَجْمَلِ الأَشْعَار، فَقَال:
وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا يَظُنَّانِ كُلَّ الظَنِّ ألا تَلاقِيَا
قَالَ رَجُلٌ نَظِيفُ الوَجْهِ واللِّسَان، وقَدْ زعبَلَ ، وامتَدَّ كِرْشُهُ في غَيْرِ اِتِّزَان: عَلَى الجَمِيعِ أنْ يَعُودُوا إلى حِدُودِ مَا قَبْلَ حَرْبِ حَزِيْرَان.
بَيْنِي وبَيْنَكُم ظَنَنْتُ الرَّجُلَ يَتَحَدَّثُ عَنْ حَرْبِ سَبْعَةٍ وَسِتِّين، غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ لم يَكُن صَحِيْحاً، إِذْ أشَارَ إلى عَامِ 2007، يَوْمَ آلَتْ الأُمُورُ في غَزَّةَ إلى حَمَاس، بَعْدَ أنْ تَفرّثَتْ شَرِطَةُ عَبّاس.
قَالَ آخَرُ بِاسْتِخْفَاف:
- وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟
فَعَلا الهِيَاجُ والوَعْوَاع ، وكَثُر الوِيعُ والوَاع، لَوْلا أنِ اقتَحَمَ رَجَلٌ مُرَقَّعُ الثِّيَابِ، أَوْذَمَ عَلَى السِّتّين، جُمُوعَ المحتَشِدِين، وَهُوَ يحْمِلُ صِينِيَّةَ الشَّاي، فَاكْتَسَت وُجُوهُ الجَمِيعِ بالحُبُور، وَزَالَ التّوَتُرُ والنُّفُور، وَأَقْبَلُوا عَلَى الشَّايِ يَكْرَعُون، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الأَشْرِبَات، يَقُومُ بجَمْعِ الشَّتَات، ويُمَهِّدُ الأَرْضِيَّة، لِتَحْقِيقِ الوحْدَةِ الوَّطَنِيّة، وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ حَسَّان:
إِذَا مَا الأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْماً فَهُنَّ لِطَيِّبِ الشَّايِ الفِدَاءُ
قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي أَكْرمَ شَارِبَيْه بِصَوتٍ مُرْتَفِع: شُكْراً لَكَ يا عَمّ حَمْزَة..
ثمَّ أَضَافَ سَاخِراً: لَعَلَّكَ تُريد مُشارَكَتَنَا الحَدِيث.
- لا.
- وَمَاذَا فَعَلْتَ باللَّيْرَاتِ الخَمْسِين، الّتي أعْطَاكَ إِيَّاها أَبُو الأَمِين؟
- تبرّعْتُ بِهَا لأَهْلِ غَزّة.
- بهذِهِ السُّرْعَة؟
- تَبَرَّعْتُ بها حَالمَا رَأَيْتُ لجْنَةَ التَّبَرًعَات.
- وَهَلْ لَدَيْكَ كَثِيرٌ مِنَ الخَمْسِينَات؟ أنَا أَعْرِفُ أنَّكَ مُثْقَلٌ بالدُّيُونِ الوَالِثَة، وَهَذَا التَّهَوُّرُ قَدْ يَقُودُكَ إلى كَارِثَة.
- إنَّهُم يُدَافِعُونَ عَنِّي وَعَنْك.
وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِغَزّةَ مِن أرْوَاحِنا مَا اسْتَحَلَّتِ
قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيْف:
- ألا تَخْشَى ألا يَصِلَ تَبَرُّعُكَ إِلَى أَهْل غَزَّة، أَنْتَ تَعْرِفْ يَا عَمّ حَمْزَة، أَنَّ هَذِهِ التَّبَرُعَاتِ قَدْ يُصَادِرُهَا الأعْدَاء، وأَنَّ جَهْدَكَ قَدْ يَضِيعُ في الهَوَاء.. ثمَّ مَاذَا سَيَفْعَلُ الغَزِّيُّونَ يَا مِسْكِين، بِلَيْرَاتِكَ الخَمْسِين، وهَل سَتَكْفِي للغِذَاء والدَّوَاءِ والبَنْزِين؟
- أَقُومُ بِوَاجِبي، وَلا يهمُّنِي فِعْلُ الآخَرِين.
سَأَلَتْ امرأةٌ ذَاتُ مِنْديلٍ مُزَرْكَشٍ بِصَوْتٍ مَمْطُوط:
وَلمَاذَا لا تُقَدّم تَبَرُعَاتِكَ إِلَى المَسْؤُولِين، يَحْمِلُونَهَا مَعَهُم إِلَى المُحْتَاجِين.
انْتَفَضَ رَجُلٌ مِن الجَالِسِين قَائِلاً:
- تُصَادِرُهَا شَرِطَةُ عَبّاس؟
قَالَ آَخَر:
- رَحِمَ اللهُ شَرِطَةَ عَبَّاس، فَقَدْ آَلَتْ الأُمُورُ إِلَى حَمَاس.
قَالَ الرَّجُلُ بِاسْتِخْفَاف، وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟ وشَرِطَةُ عَبَّاس؟
- تَدَخَّلَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
- ألا تَعْرِفُ عَبَّاس بنَ فِرنَاس، ذَلِكَ القَائِدَ الدِّرْبَاس، الَّذِي أَرَادَ أنْ يَطِيرَ مِنْ رَام الله إِلَى القُدْسِ بِنِصْفِ جَنَاح.. فِعْلةَ مَنْ يَسْعَى إِلَى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاح.
قَالَ العَمّ حَمْزَة قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ: لا تَغْبَجُوا الشَّاي عَلَى مَهَل، فَالعَشاء الّذي طَلَبْتُمُوهُ سَيَصِلُ في العَجَل.
قَالَ الرَّجُل الَّذي أَكْرَمَ شَارِبَيه: العَمّ حَمْزة نَمُوذَجٌ حَيٌّ للبْرُولِيتَاريَا الرَّثَة.
وَضَعَتْ بَعضُ السَّيِّدَاتُ فَوقَ أُنُوفِهِنَّ الكَمَّامَات، حَتّى لا تُزْكِمُهُنَّ رَائِحَةُ الكَلِمَات، غَيْرَ أنَّه أضاف:
لَعَلَّكُم لا تَعْرِفُونَ أنَّ العَمَّ حَمْزَة مَا زَالَ يحتَفِظُ بمَفَاتِيحِ بَيْتِه في فِلَسْطِين، وَأَنَّ "كُوشَان" بيتِهِ وحاكُورَتِه مِا زِالِ مِعِهُ في حِرْزٍ مَكِين.
قَالَتْ إِحْدَى الحَاضِرَات: يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يُصْبِحُ فِيْهِ القَابِضُ عَلَى المِفْتَاحِ والكُوشَان، كالقَابِضِ عَلَى جَمْرَةٍ مِنَ النِّيرَان.
قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيف:
إذا كَانَ مِنْ أَهَالي الـ48 فَأَنْصَحُهُ أنْ يَخْلُدَ إلى الجَمَامَة ، وَأنْ يُلْقِي المِفْتَاحَ والكُوشَان في القُمَامَة.
رَدَّ الرَّجل الّذي أَكْرَمَ شَاربَيْهِ ولِحْيَتِهِ: لَنْ يُلْقِيَ المِفْتَاح، لأنَّ حُدُودَ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ النَّهْرِ إِلَى البَحْر.
قلتُ في نَفْسِي: حُدُودُ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ الجُرْحِ إِلَى السِّكِّين، غَيْرَ أَنّي خِفْتُ أنْ أَتَدَخَّلَ بالحَدِيْث، فَأَزِيدَ بِلَّةًَ فَوْقَ الطِّيْن، لأنَّ الرَّجُلَ النَّظِيف خَرَجَ عَنْ طَوْرِه، وكَادَ يُحَاصِب المُتَحَاوِرِين.
هَمَسَ صَدِيقٌ في أُذُني قَائِلاً:
أُفَكِّرُ في أَنْ أحْتَاصَ للأَمْرِ، حَتَّى لا تَضِيعَ القَضِيَّة.
قُلْتُ: كَيْف؟
قَالَ: أَنْشَقُّ مَعَ مجْمُوعَةٍ مِنَ الرّفَاقِ، ثمَّ أُطَالِبُ بالوحْدَةِ الوَطَنِيّة..
بَعْدَ أنْ أُفْرِغَتْ كُؤُوسُ الشَّاي ارتَفَعَت الأَصْواتُ مِنْ جَدِيد، بالاتهَامِ والقَذْفِ والتَّنْدِيد، وَخِيَانَةِ المِيثَاقِ وَتَضْييعِ الهُوِيَّة، وَلم نَتَّفِقْ إلا عَلَى مُقَاطَعَةِ البَضَائِعِ الأمْرِيكِيّة، في اللَّحْظَةِ الّتي وَصَلَتْ فِيْهَا وَجَبَاتٌ مِنْ مَطَاعِمِ مَاكدُونُالْدز، فَقَرَّرْنَا أنْ نَأْكُلَ الطَّعَامَ اللَّذِيْذ، قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ قَرَارُ المُقَاطَعَةِ حَيِّزَ التَّنْفِيذ.
ثُمَّ إنَّ الخَطِيبَ بنَ لِسَانٍ بَادَرَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الطَّعَامِ إِلَى القَوْل:
ولا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضةً فَإِنّ الخَوَافي قُـوَةٌ للقَـوَادمِ
وَقَدْ فَاجَأَني أنَّ قَوْلَه لاقَى تَصْفِيقاً وَاسْتِحْسَاناً مِنْ جَمِيعِ الإِخْوَةِ والرِّفَاق، فَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الاتِّفَاق، إِلا أَنَّنِي اكتَشَفْتُ بِسُرْعَةِ البَرْقِ وَهْمَ الصّفاء، فَجَئِزْتُ بِكَأْسِ المَاء، إِذْ سَرْعَانَ مَا عَادَ الخِلافُ والتَّجَافي ، عِنْدَ تَحْدِيدِ القَوَادِمِ والخَوَافي، لِكَيْ يَسْتَطِيعَ عَبّاسُنا أنْ يَطِير، فِي دَرْبِ الاسْتِقْلالِ والتَّحْرِير. فَالجَمِيعُ هُنَا مِنَ القَوَادِمِ القَاسِيَة، ولَيْسَ ثَمَّةَ أيَّةُ خَافِيَة، اللهمّ إلا العَمّ حَمْزَة، لِذَلِك سَارَ الحِوَارُ مِنْ جَدِيدٍ إلى الهَاوِيَة، ولم يُفْلِح الشَّايُ في تَصْفِيَةِ الأَجْوَاءِ مَرَّةً ثَانِيَة.
واشْتَدَّ الهِيَاجُ والصِّيَاح، حتَّى طَلَعَ الصَّبَاح، وسَكَتَ المُتَحَاوِرُونَ عَنِ الكَلامِ المُبَاح، مَا عَدَا العمَّ حِمْزة الّذِي قَالَ لَنا: "تُصْبِحُونَ عَلَى وَطَنٍ مِنْ سَحَابٍ وَمِنْ شَجَر" ، ثمَّ وَدَّعَنا مُلَوِّحاً بمِفْتَاحِهِ وكُوْشَانِهِ وابتِسَامَتِهِ الرَّائِقَة، وَانْطَلَقَ خَارِجَ سِجْنِ المَكَانِ بخُطْوَتِهِ الوَاثِقَة.
ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان الطَّبَرَاني قَامَ ليُوَدِّعَنَا تودِيعَ الأَحْبَاب، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ تَتِمَّةِ الحِكَايَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ زَوْجَتِي تَنْتَظِرُني بِالمِكْنَسَةِ وَرَاءَ البَاب، ثمَّ أضَافَ بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: ومَا عُنْوَانُها، قَالَ: "اقْتِرَاحَاتُ زِرْيَاب.. لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب"
مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانيّ(3)
المَقَامَةُ الثَّالِثَة: "اِقْتِرَاحَات زِرْيَاب لِتَجْفِيفِ مَنَابِع الإِرْهَاب"
د.يوسف حطيني
إلى الفَنَّان الصديق محمود خليلي
وقد عانى كثيراً أذى إسحاق
دَخَلْنَا عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَاني هَذَا المَسَاء ، فَوَجَدْنَاهُ يَرُفَعُ عَقِيرَتَهُ بِالغِنَاء، وَأَصَابَنَا ممَّا نَرَى العَجَب، إذْ لم يَسْبِقْ أنْ آنَسْنَا مِنْهُ مَيْلاً إلى الطَّرَب، لِذَلِكَ بَادَرْنَاه إلى السُّؤَال: مَا الّذي دَفَعَكَ إلى ضَرْبِ المَوَّال، وَأَنْتَ لا تَمِيزُ المَقَامَ مِنَ المَقَال؟
تَبَسَّمَ طَرِيدُ الزَّمَانِ ضَاحِكاً مِن قَوْلِنا، وَأجَاب: ألم أعِدْكُم بالحَديثِ عَنْ زِرْياب، وَعَنْ اِقْتِرَاحَاته لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأنَا لا أَجِدُ أبدَعَ مِنَ اسْتِقْبَالِكُم بنَشِيد، كَانَ زِرْيَاب قَدْ غَنَّاهُ أمَامَ الرَّشِيد، ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان أَخَذَهُ الحَالُ فَصَاح، بِصَوْتٍ أقرَبَ إلى النُّبَاح:
يا أيُّهَا المَلِكُ المَيْمُونُ طَائِرُهُ هَارونُ رَاحَ إِلَيْكَ النَّاسُ وابْتَكَروا
قُلْنَا: هَلّا أرحْتَنَا مِنْ هَذَا العَنَاء، وَحَدَّثْتَنا عَنْ أَمِيرِ الطَّرَبِ والغِنَاء.
قَالَ: حَدِيثُنَا اليَوْمَ مَوْقُوفٌ عَلَى زِرْيَاب، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ ضَحَايَا الإِرْهَاب، اسمُهُ عَلِيُّ بنُ نَافِع، ولم يَكُنْ لَهُ في بَغْدَاد مِنْ شَافِع، إِذْ عَاشَ فِيهَا زَمَناً ثمَّ هَرَب، بَعْدَ أنْ أَدْرَكَتْهُ لَعْنَةُ الطَّرَب، قُلْنا: عَلَيْكَ التَّوضِيح، فَإِنَّنَا لا نَفْهَمُ الرَّمْزَ والتَّلْمِيح، فَقَالَ: حِيْنَ طَلَبَ هَارُونُ الرَّشِيد، أنْ يَأتِيَهُ إِسْحَاق المُوصِلي بمُغَنٍّ جَدِيد، لم يَجِدْ أفْضَلَ مِنْ تِلْمِيذِهِ زِرْيَاب، وَإِذْ غَنَّى زِرْيَاب طَارَ قَلْبُ الرَّشِيد طَرَباً وفَرَحا، وَطَارَ قَلْبُ إِسْحَاق غِلّاً وَتَرَحا، فَعَرَضَ عَلَى زِرْيَابَ أَنْ يَخْتَار إِحْدَى اِثْنَتَين: أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَاد، أَوْ أَنْ يُخْرِجَهُ إلى دَارِ المَعَاد، فَرَجَّحَ زِرْيَابُ أنْ يَفِرَّ إلى الأنْدَلُس، تَارِكاً بَغْدَاد والمَرَابِعَ والرِّفَاق، كي يَفِرَّ بجلِدِه مِنْ أذَى إِسْحَاق.
وَكُنْتُ قَدْ سَعَيْتُ إلى مجلِسِهِ لإِحدَى عَشْرَةَ خَلَوْنَ مِنْ سِبْتَمْبَر، وَجَلَسْتُ بَيْنَ تَلامِيذِهِ الّذِينَ يتَعَلَّمُونَ الأَشْعَارَ والأَوْزَان، فَسَمِعْتُ أبْدَعَ الأَصْوَاتِ والألحَان، وإِذْ اِنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ سَأَلَني: مَنْ أنْتَ؟
قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ.
- أَتَنْتَسِبُ إلى طَبَرِيّة؟
- اللّهُمَّ نَعَم.
واغرَوْرَقَتْ نَفْسِي بالكَدَرِ والأَحْزَان، وتَلَبَّسَني التَّوَحُّنُ والهَوَان، حِينَ ذَكَرَ طَبَرِيَّة الّتي فَطَمني الاِحْتِلالُ عَنْ سَمَكِ بَحَيْرَتها قَبْلَ الأَوَان، غَيْرَ أنَّه بَادَرَني:
- لا تَحْزَنْ يا طَريدَ الزَّمَان، فَكُلُّ طَريدٍ للطَّرِيدِ نَسِيب، وقَدْ عَانَيْتُ مِثْلَمَا عَانَيْتَ، حِيْنَ طَرَدَني إِسْحَاقُ مِنْ بَلَدِي الحَبيب، ونحْنُ جَمِيعاً ضَحَايَا الإِرْهَاب، ولا بُدَّ مِنْ يومٍ يَلْتَقِي فيهِ الصِّحَاب.
- أراكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ الإِرْهَاب؛ كَأَنَّ بَيْنَك وبَيْنَه ثَأرا، فهَلّا فَصَّلتَ في علاقَتِكَ مَعَهُ، وَقَدْ خَبِرْتَهُ دَهْرا.
اِعْتَدَلَ زِريَاب في جِلْسَتِهِ، وطَلَبَ لنا كَأْسَينِ مِنْ شَرَابِ الوَرْدِ، ثمَّ قَال:
لِكَلِّ دَوْلَةٍ الحقُّ في امْتِلاكِ قُوّةٍ رَادِعَةٍ تحقِّقُ بهَا كِيَانهَا، وتُقَوِّي سُلْطَانهَا، وتحمِي بهَا أصْدِقَاءَها، وتُرْهِبَ أَعْدَاءَها، ألم تَنْتَبِه لقَوْلِ اللهِ سُبْحَانه: "وَأَعِدُّوا لهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكم "؟. أمَّا أنْ تمتَدَّ يَدُ القَتْلِ إلى المَدَنيّين الآمِنِيْن، مِنَ النِّسَاء والأطْفَالِ والعَاجِزِين، فَهَذَا مَا لا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ ولا دِين.
قلتُ: وإنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِين؟
قَالَ: وإنْ، عَلَى ألا يَكُونَ المُسْتَهْدَفُ وَالِغاً في دِمَائِهِم الطَّاهِرَة، جَالِساً في أفيائِهِم، بينَمَا يُعَانُونَ وَغْرَ الهَاجِرَة ، والدَّاعِي إلى مُهَادَنَةِ المحتَلِّ خَائِب، لأنَّ قِتَالَهُ فَرْضٌ وَاجِب ، وَلَوْ قَامَ بِهِ فِدَائيٌّ رَاعِف ، يَتَزَنَّرُ بحِزَامٍ نَاسِف.
قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ طَارَتْ مِنْ نَفْسِهِ الحَمِيَّة، فَسَمَّى ذَلِكَ عَمَلِيَّةً انتِحَارِيَّة؟
قَال: أصَابَتْه لُوثَةُ المُسَاوَمة، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الإرهَابِ والمُقَاوَمَة.
قُلْتُ وقَدْ أخَذَتني حُمَّى التَّشَرُّدِ وذِكْرَيَاتُ المَبيتِ في العَرَاء، وأزْكَمَتْ أنْفِي رائِحَةُ الدِّمَاء:
- من تَرَاهُ رَأْسَ الإِرْهَاب؟
- قال: اِقرأ الماضِي والحَاضِرَ يأتِكَ الجَوَاب. ألم تَقْرَأْ عَنْ العُلُوج ، الَّذينَ قَتَلُوا الهُنُودَ الحُمْرَ والزُّنُوج؟ وَعَنْ ذَلِكَ الخَـنـْزَوَان ، الأحمق اليهفوف ، الذي ألقَى قُنْبُلتَين ذَرِّيَّتَين عَلَى اليَابان، فَقَتَّل عَشَرَات الأُلُوف؟ وعَن المَدَنِيّينَ الّذينَ قَضَوْا نحْبَهُم في جَنُوبِ لُبنَان، وفي العِرَاقِ وأَفغَانِسْتَان؟ أوَلم تَسْمَع أيضاً بعِصَابَتَيْ آرَاغُون وشتِيرن اللَّتينِ رَوَّعَتَا الآمِنِين، في قُرَى فِلَسْطِين، وَامتَدَّ إرهَابُهُمَا إلى الوَسِيط الدَّولي فُولك برنَادُوت لأنَّه تَفَهَّم مَوْقِفَ العَرَب، ولمْ يَخْضَع لإغْرَاءِ الذَّهَب؟ وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّاعِرُ عَليّ الجَارِمُ في قَصِيدةٍ مِنْهَا:
حَسْرَتَا للكُونْتِ بِرْنَا دُوتَ لَوْ تَنْفَعُ حَسْرَهْ
رَامَ أنْ يَستَنْقِذَ الكَـوْ نَ وَيَسْـتَأْصِلَ شَرَّه
قتلُهُ جُـبْنٌ وخِــذْ لانٌ ولُـؤْمٌ ومَعَـرّهْ
خَرَقَ الهُدْنـةَ أبْنَـا ءُ يَهُـوذَا ألْفَ مَرّهْ
رُبَّـمَا يحفِـرُ ذو الآ مـَالِ بالآمَالِ قَبْرَهْ
قلتُ: هَلْ مْنْ مَزِيد؟
قَالَ: هَاكَ مَا تُرِيد: ألم تَسْمَعْ أنَّ الجيشَ الإسْرائِيليّ دِمَّرَ سَفِينةً حَرْبِيّةً لأَصْدِقَائِهِ الأَمْرِيْكَان، في خِلالِ عُدْوَانِ حَزِيرَان ؟، ثمَّ ألم تَرَ أنَّ دَمَ أبي عَمَّار ضَاعَ بينَ الفرَنْكِ والشِّيكل والدُّولار؟ أو لعلّك لم تَسْمَع بالحِقْدِ الّذي انهمَر، كَوَطْفِ المَطَر ، عَلَى دَيْرِ ياسِينَ وقِبْيَةَ وبحرِ البَقَر؟ أولم ترَ الفَتَاة الصَّغِيرة ، عَلَى قَنَاةِ الجَزِيْرَة، إذْ رَاحتْ تَنْدُبُ أبَاهَا عَلَى شَاطِئ بحرِ غَزَّةَ؟ حَتّى إنَّ شَاعِرَكُم الكَنْعَانيّ قَالَ فيهَا:
"عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ بِنْتٌ. وللبِنْتِ أَهْلٌ
وللأهْلِ بَيْتٌ. وللبَيْتِ نَافِذَتَانِ وبَابْ…
وفي البَحْرِ بَارِجَةٌ تَتَسَلَّى
بِصَيْدِ المُشَاةِ عَلَى شَاطِئ البَحْر:
أربَعَةٌ، خَمْسَةٌ، سَبْعَةٌ
يَسْقُطُونَ عَلَى الرَّمْل، والبِنْتُ تَنْجُو قَلِيْلاً
لأنَّ يَداً مِنْ ضَبَابْ
يَداً مَا إلهيةً أَسْعَفَتْهَا، فَنَادَتْ: أَبي
يا أَبي! قُم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لمْ يُجِبْها أبُوها المُسَجَّى عَلَى ظِلِّهِ
في مَهَبِّ الغِيَابْ"
ثمَّ إِنَّ زِرْيَابَ سَأَلَني: هَلْ وَعَيْتَ حَدِيثي؟ قُلْتُ: وَعَيْتُهُ وحَفِظْتُهُ مُنْذُ كُنْتُ في القِمَاط، وسَأبْقَى أَعِيهِ وأحْفَظُهُ حَتَّى يمشِيَ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاط، غَيْرَ أنّي أَحْبَبْتُ أنْ آنَسَ بِسِحْرِ لِسَانِك، وَعَذْبِ بَيِانِك.
وبَعْدَ أنْ تنَاوَلْتُ مَعَهُ الطَّعَام، سَأَلتُه: كَيْفَ يَنْتَصِرُ المَظْلومُونَ مِنَ الظُّلّام، قَالَ: بِإِرَادَةِ الحَيَاة، ثمَّ أَشَارَ إلى أَنَّهُ انْتَصَرَ عَلَى إِسْحَاق، حِيْنَ تَجَاوَزَ مِحْنَةَ الفِرَاق، وَنَأْيَ الرِّفَاق، وَطَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الآفَاق، إذْ حَسَّنَ شَكْل العُودِ، وَزَادَ لَهُ وَتَرَاً، وَجَعَلَ مِضْرَابَهُ مِنْ قَوَادِمِ النَّسْر بَدَلاً مِنَ الخَشَب، واِفْتَتَحَ مَعْهَداً مُتَخَصِّصاً في المُوسِيقَى والطَّرَب.
ثمَّ أضَافَ: ألا تَرَى الاِسْتِمْرَارَ في الحَياة اِنْتِصَاراً عَلَى الطُّغَاة؟ قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: تَتَحَدَّى الغَاصِبِين، وتَفْعَلُ فِعْلَ أجدَادِكَ المَيَامِين، ثمَّ قَرَأَ عَليَّ قَوْلَ شَاعِرِنَا الكَنْعَانيّ:
"عَالِمُ الآثَارِ مَشْغُولٌ بِتَحْليلِ الحِجَارَهْ
لِكَي يُثْبِتَ أني عَابِرٌ في الدَّرْبِ لا عَيْنينَ لي ..
لا حَرْفَ في سِفْرِ الحَضَارَهْ..
وأنَا أزْرَعُ أشْجَارِي عَلَى مَهْلي
وعَنْ حُبّي أُغَنّي"
قُلْتُ: فَمَا قَوْلُكَ في تَرْوِيعِ الآَمِنِين، وَقَتْلِ المَدَنِّيين؟
قَالَ: هُوَ أمرٌ لا تُقِرِّه الأعرَافُ والدَّيَانَات، حَتَّى لَوْ كَانَ المُسْتَهْدَفُونَ مِنْ سُكَّانِ الغَابَات، أو مِمَّنْ يَقْطُنُونَ في مَانهَاتِن، أو يَعْمَلُونَ في مَبْنَى التَّجَارَةِ العَالَميّ.
فاربدَّ وَجْهِي وازْوَرَرْتُ عَنْهُ، إذْ رَأَيتُهُ يَتَعَاطَفُ مَعَ الأمْرِيْكان الَّذينَ دَمَّرُوا الأَرْضَ وَحَقَّرُوا الإِنْسَان، غيرَ أنَّهُ غَنَّى لي صَوْتاً حَزِيناً، فَهَدَّأَ رَوْعِي، وأضَافَ:
لا غَرْوَ أنَّ كَثيراً مِمَّنْ قُتِلُوا لا يُضْمِرُونَ للشُّعُوبِ عَدَاوَةً أو صَدَاقة، فَلا جَمَلٌ لهُمْ فيمَا يجْرِي ولا نَاقَة، لَكِنَّني أُحَمِّلُ المُسْؤُوليّة لحُكَّامِ الأمرِيكَان، الَّذِينَ مَارَسُوا ألْوَانَ الإرهَاب في البُلْدَان، فَشَحَنُوا نُفُوسَ المَقْهُورين، ومَلَؤُوا الصُّدُورَ بحِقْدٍ دَفِين، قَدْ يَنْفَجِرُ في أَيِّ حِين، والأدْهَى مِنْ ذَلِكَ يَا طَرِيدَ الزَّمَان أنَّهُمْ يَتَّهِمُونَ المُسْلِمِين، وَيَصُبُّونَ عَلَيْهِم حِقْدَهُم، مِمَّا يُوَلِّدُ الكُرْهَ في النُّفُوسِ ضِدَّهُم، فَهُمْ يَتَّهِمُونَ الحَنَابِلَةَ والأحْنَاف، والحُفَدَاء والأسْلاف، والمُتَمَدِّنِينَ والأجْلاف، باتِّهَامَات مَا أنْزَلَ اللهُ بهَا مِنْ سُلْطَان، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أَنَّ الـ سي. آي. إيه تَتَّهِمُ الخَلِيفَةَ المُعْتَصِمَ بِتَفْجِيرِ بُرْجَيْ مَبْنَى التِّجَارَة العَالَميّ.
قُلْتُ وَقَدْ أَصَابَني الذُّهُول: وهَلْ لديهِم بيّنةٌ عَلَى مَا تَقُول؟
فَقَالَ زِرْيَاب: إنَّهُم يحتَجُّونَ بِشِعْرٍ لأبي تَمَّام يُخَاطِبُ فِيْهِ المُعْتَصِمَ، يَقُولُ فِيه:
رَمَى بكَ اللهُ بُرْجَيْها فَهَدَّمَهَا وَلَوْ رَمَى بِكَ غيرُ اللهِ لم يُصِبِ
ثمَّ إنّي قُلْتُ قُوْلَ الحَيْرَان: لَقَد تَعِبَ الحُكّام الأمرِيكَان، وأقَضَّتْ مَضَاجِعَهُم الهَجَمَات، فَوَبَشُوا الأَوْبَاشَ للحَرْبِ مِنْ كُلِّ الجِهَات، وَخَاضُوا الغَارَات، ودَمَّرُوا القُرَى والبَلْدَات، فهلّا أرشَدْتَهُم إلى فَصْلِ الخِطَاب في تَجْفِيْفِ مَنَابِع الإرهَاب؟
قَالَ: عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أنَّ النَّصِيحَةَ كَانَت بجَمَلٍ في سَالِفِ الأَوَان، فَإِنَّني أُقَدِّمُها لهُمْ بالمَجّان، وعَلَى الرُّغْم مِنْ أنَّهُم سَيَبْقُونَ في غِيِّهِمْ سَادِرِين، وأنَّهُم يجْعَلُونَ أُذُناً مِنْ طِيْن وأُذُناً مِنْ عَجِين، فَإِنّي سَأَقُولُ لَهُم بِاخْتِصَار: حُلِّوا عَنْ ظَهْرِنَا، واخرُجُوا مِنْ بَرِّنَا وبحرِنَا، ولا تُسَانِدُوا البَاطِل بالمالِ والسِّلاح، ولا تَتَوَالَسُوا مَعَ أعدائِنَا لتثُخِنُوا صُدورَنا بالجِرَاح، ولا تأبَسُوا الأَوْفَاض ، ولا تهتِكُوا الأعْرَاض، ولا تَسْتَعبِدوا الشُّعُوبَ الَّتي أوْتَغَهَا الوَيْس ، فلا تُدْعَى إلى مَوَائِدِكم إذَا يُحاسُ الحَيس، ودَعُوهَا تَأْبش مِن خَيْرَات أرضِهَا، وتَمْرَحُ في طَولِهَا وعَرْضِها، ودَعوا لقَيْصَرَ مَا لِقَيْصَر، وإذ ذَاكَ تَنْجون، وتَصِلُونَ إلى الرَّاحَةِ الّتي تَنْشُدون.
قُلْتُ: وَمَاذَا عَنْ بَغْدَاد، وَهَاتِيك الرُّبى؟
عِنْدَهَا غَنّى لي صَوْتاً مِنْ مَقَامِ الصَّبا، مُتَذَكّراً أيَّامَ الصِّبا، وَفَاضَتْ عَيناهُ بِدَمْعٍ مِدْرَار، أنَّتْ لَهُ الأحْجَار، وفَاضَت الأنهَار، وامْتَلأَ بالحُزْن صَدْرِي، رَغْمَ مَا حُمّل من الخَنَاثير ، فخَرَجْتُ مِنْ فَوْرِي، وأوسَدْتُ في المَسير ، بجناحٍ مهيضٍ، وقَلْبٍ كَسِير.
قُلْنا: أوجَعتَ مِنّا القُلُوب، ونَكَأْتَ النُّدوب، فَادْعُ اللهَ أنْ يُفَرّجَ الكُرُوب، عَن بَغْدَاد وَفِلَسْطِين، وسَائِر بِلادِ العَرَبِ والمُسْلِمِين، قَالَ: اللَّهُمَ آمِين.
وحِينَ وَدَّعَنا طَرِيدَ الزَّمَان إلى البَاب، تَودِيعَ الأحبَاب، مَا زِلْنا بِهِ حَتّى وَاعَدَنا عَلى لِقَاٍء قَرِيب، يجُودُ لَنا فِيهِ بحَدِيثٍ عَجِيب، قُلْنَا ومَا رَأسُهُ، قَالَ: الشَّرَوي والغَرَوي في السِّلاحِ النّوَوي.
مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
د. يوسف حطيني
إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
- اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
- وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
- أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
- في نَوَى.
قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
- ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
- قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
1/11/2008
See Translation
مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
د. يوسف حطيني
إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
- اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
- وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
- أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
- في نَوَى.
قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
- ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
- قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
1/11/2008
مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
د. يوسف حطيني
إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
- اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
- وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
- أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
- في نَوَى.
قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
- ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
- قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
1/11/2008
مِنْ مَقَامَات طَرِيدِ الزَّمَان الطَّبَرَانِي(4)
الشَّرَويّ والغَرَويّ في السِّلاحِ النَّوَوِيّ
د. يوسف حطيني
إلى أطفال هيروشيما وناغازاكي
أرَدْنَا أنْ نَدخُلَ الليلةَ عَلَى طَرِيدِ الزَّمَان، فَطَلبَ مِنّا الانتِظَار، وحِينَ صِرْنَا داخِلَ الدَّار، عَاتَبْناه عَلَى فَسَادِ الطَّوِيّة، فَتَعَلَّلَ بأنَّه كَانَ يَقْرَأُ في الأربَعِينَ النّوَوِيّة، قُلْنَا وقَدْ أصَابَنَا العَجَبُ العُجَاب: "بَعد مَا شَاب، وَدّوه عَ الكُتَّاب"؟
قَالَ: سَوْفَ يَزُولُ عَجَبُكُم بَعْدَ أنْ أَرْوِيَ الحِكَاية.
قُلْنَا: مَا أَتَيْنا إلا لهذِهِ الغَاية.
فقَالَ طَرِيدُ الزَّمَان:
كُنْتُ في سَالِفِ الأَوَان، قَدْ ضِعْتُ في سُهُولِ حَوْرَان، فَأَصَابَني مَا أصَابني مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ والهلَك،حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الدّلَك ، وإذ وَقَبَت الشَّمسُ فَقَدْتُ الإحسَاسَ بالأمَان، واِسْتَبَدَّ بيَ الشَّوْقُ للمَاءِ والخِوَان، وشَعَرْتُ بالرُّعب إذ هَبَطَ عَليَّ الظَّلام، وهَدَّتني الآلام، فَقُلْتُ في نَفْسي بعدَ أنْ عَزَّ المأكَل، وأشغَرَ المَنْهَل: أخْشى أن أبيتَ عَلَى الطَّوَى فأُصْبِح مَعَ أهْلِ الأرمَاس، ثمَّ إنّه غَلَبَني الدُّكاس ، في ليلٍ دَجْدَاج، افترَشْتُ فيه البَسِيطةَ والتَحَفْتُ ذاتَ الأَبْرَاج، وإذ أيقظَتْني الشَّمْسُ، رأيْتُ عَلَى البُعْدِ أطلالاً، حَثَثْتُ نحوَهَا المَسِير، حتّى وصَلْتُ إلى بُيُوتٍ لَيْسَ فِيهَا شَهِيقٌ أو زَفِير، فَخِفْتُ أنْ أكُونَ فَريسَةً لوُحُوشِها، بعدَ أن خَوَتْ عَلَى عُرُوشِها، ومَا زالَ يَرْكَبي الخوفُ الرَّهِيب، حَتَّى وصَلْتُ إلى مَكَانٍ خَصِيب، فقُلْتُ في نَفْسي: لَعَلّي وَاجِدٌ فيهِ مَا أَسْتَوْكِثُ بهِ حتّى أَوَانِ الغَدَاء، وأَضْمَرْتُ أنْ آكُلَ أورَاقَ الشَجَر، وَوَطَّنْتُ نَفْسي عَلى شُرْبِ دَغْرَقِ المَاء الّذي أَصَابَه الكَدَر، غَيْرَ أنَّ السَّعادَةَ غَمَرَتني حِينَ لمحتُ ظِلَّ رَجُلٍ تحتَ إِحْدَى الأشْجَار، وإذ اقتَرَبْتُ رأيتُهُ ذَا هَيْبَةٍ وَوَقَار، فداخَلَتني رِعْدةٌ مُرِيبة، إذ رأَيْتُ هَيْئَتَهُ المَهِيبة، وَخَشِيتُ ألا يَبْتَسِم إذْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الشَّاعِر:
يُغضِي حَيَاءً ويُغضَى مِنْ مَهابتِهِ فَمَا يُكلَّمُ إلا حِينَ يَبْتَسِمُ
وخِفْتُ أنْ أقَارِفِه، ولولا العَطَشُ والجوعُ لفَضَّلْتُ أن أُجَانِفَه، فَوَقَفَ مُبْتَسِماً وسَأَلَني عَنْ شَأْني، ومَنْ أَكُونُ، فَقُلْتُ: رَجُلٌ هدّه السَّغَب، وأنهَكَهُ العَطَشُ والتَّعَب، فَأَجلَسني ثم تَنَاول قازُوزَة مُغلَقةً كَانَتْ قُرْبَه، فَأطَالَ دِفَاعَها، إلى أنْ نَزَعَ وِفَاعَها ، وأعطَانِيهَا قَائلاً:
- اِشْرَبْ هَنِيئاً مِنْ هَذا المَاء، ثم أحضَرَ لي خُبزاً وحَسِيَّةً مِنْ مَرَقٍ في وِعَاء، فَرَفَعْتُ الوِعَاء في يدي، ودَفَعْتُ مَا فيهِ بسُرعةٍ إلى مَزْرَدي، حتّى أّتّيْتُ عَلَى الحَسِيّة والخُبْزِ جَمِيعاً، وهُوَ يَبْتَسِم، وإذ شَبِعْتُ وحَمِدْتُ البَاري عَلَى نَعْمَائه، قَالَ: كَأنَّكَ غَرِيب، قُلْتُ: أنَا طَرِيدُ الزَّمَان الطَّبَرَاني، وقد تهتُ في اليَهْمَاء ، حَتّى أوصَلَني إِلَيْكَ غَريبُ القَضَاء.
- وهل تُحِبُّ سَمَكَ طَبَريّة؟
قلتُ ضَاحِكاً: تُحَدّثني حَدِيثاً لا يُغْنِي مِنَ الجُوعَ، ولا يسدُّ الرّمَق، ثمّ تُقَدِّمُ لي الخُبْزَ والمَرَق، فَقَال: قَدْ أخرَجْتُ إليكَ حَضِيضَتي وبَضِيضَتي ، ومَا الجُودُ إلا بِالمَوْجُود، وَلَكِنّ الشَّيءَ بالشَّيءِ يُذْكَر.
قُلْتُ: كنّا نَخْرُجُ جميعاً إلى الشَّاطِئ، والِدِي يُخْرِجُ السَّمَكَةَ مِنَ البُحَيرة، فَتَضَعُها أُمِّي مِنْ فَورِها في المِقْلاة، إيه.. إيه.. كُهُولةٌ شَرِيدة، بَعْدَ طُفُولةٍ رَغِيدة.
- أمَّا أنَا فَقَدْ كَانَتْ طُفُولَتي مَلِيئةً بالاجتِهَاد، وكُنْتُ أبكِي حِينَ أُجبَرُ عَلَى اللَّعب مَعَ الأَوْلاد، وفضّلتُ الاِبْتِعادَ عَنِ النَّاس، وَمُعَاشَرَةَ القَلَمِ والقِرطَاس، قُلْتُ لَهُ: مَنْ تَكُونُ، ومَا الَّذِي دَفَعَكَ إلى العيشِ في البَرِّيَّة؟ قَالَ: دَفَعَني إلى مَا تَرَى تَوَجُّسي بسَبَبِ لَقَبي وكُتُبي، قُلْتُ: كَيْف؟ قَالَ: أنَا الإِمَامُ النَّوَوِيّ، صَاحِبُ الأربَعينَ النَّوَوِيّة .
فَقُمْتُ إلَيْهِ في حَمَاسَة، وقبَّلْتُ رَاسَه، وَقُلْتُ: أأنتَ الإِمَامُ النّوَوِيّ؟ أأنتَ رأسُ الزُّهْد وقُدْوَةُ الوَرَع؟ إنَّ الأمَلَ المَأمُول، أنْ أُجَالِسَ فَرْدَ زَمَانِه في الفِقْهِ والحَدِيثِ والأُصُول، ولكِنَّكَ قُلْتَ إنَّ لَقَبَك وَكِتَابَك، قَد أَسْرَجَا إلى التَّوَجُّسِ رِكَابَك.
قَالَ: جَاءَنَا في المَنَام، أنَّ أبنَاءَ العَمّ سَام يَتَّهِمُون الحَضَرِيَّ والبَدَوِيّ، والمَدَنِيَّ والقَرَوِيّ، بالسِّلاحِ النَّوَوِيّ، وحِينَ أبْدَيْتُ لَهُ مَزِيداً مِنَ الاِسْتِفْهَام، قَالَ لِيُزِيلَ الإِبهَام: ألا تَرَى أنَّ لَقَبِي والسِّلاحَ النَّوَوِيّ يَجْمَعُهُمَا الجَذْرُ اللُّغَوِيّ؟
مِنْ هُنا صَارَ لَدَيْنَا تَوَجُّسٌ مِنْ أنْ تَقُودَ مُلاحَقَةُ البَرَامِجِ النَّوَوِيَّة إلى مُلاحَقَةِ بَرْنَامَجِ اللُّغَةِ العُرَبِيَّة، لأنَّه يَحْتَوِي نَوَى ونَوَيْت، ونَخْشَى أن يَنْتَهِيَ الأمْرُ بِنَا في مُدَمَّسِ غوَانتانَامُو، لذَلِكَ أَنْتَشِرُ مَعَ سُكَّانِ بَلْدَتِي مُنْذُ الفَجْرِ في الجِبَالِ والسُّهُولِ والآطَام، ونَعُودُ إلى بُيُوتِنَا مَعَ حُلُولِ الظَّلام، قُلْتُ: فَفِي أيِّ بَلْدَةٍ أَنَا؟
- في نَوَى.
قُلْتُ: لا تَثْرِيْبَ عَلَيْكُم مَا لم تُوَقِّعُوا عَلَى مُعَاهَدةِ الحَدِّ مِنَ اِنْتِشَارِ الأَسْلِحَةِ النّوَوِيّة، فَقَدْ سَمِعْتُ أنَّ رَبِيباً مُدَلّلاً لَدَيْهِ مِئَاتُ الرُّؤوسِ النّوَوِيَّة المُفْزِعَة، وهُوَ يَعْمَلُ عَلَى زِيَادَتها في دَعَة، دونَ أنْ يَلُومُهُ صَاحِبُ البَرْذَعَة، وحُجَّتُهُ أنّه كَثِيْرُ المُوَاعَدَة، وأنَّ الرَّبيبَ لم يوَقِّعْ عَلَى المُعَاهَدة، فَلا يَسْألُهُ سَائِل، ولا يَقُولُ لَهُ قَائِل: "يَا مَايلة تعَدَّلي".
قَالَ: وَا أسَفَاهُ عَلَى الحقِّ الأَبْلَج، حِينَ يُؤْخَذُ في طَرِيقٍ أَعْوَج، وعَلَى القَانُونِ الَّذِي لا يَسِيرُ عَلَى الجَمِيع، إنَّه قَانُونٌ "شَرَويّ غَرَويّ"، يحكُمُ عَلَيْنَا بِقُوَّةِ السَّيْف، وَيَقُولُ لِغَيْرِنَا: لا حَيْف، لذلك دأَصَ الرَّبيبُ المُدَلّلُ وأَشِر، واسبَطَرَّ وبَطِر، وصَارَ يَفْعَل مَايَشَاء في النَّهار، "عَلَى عُيُونِكُم أيُّها التُّجار"، ولا يخْتَبِئ مِثْلَنا مُنْتَظِراً اللَّيلَ الأُدْمُوس، قُلْتُ: إذاً فالأَمْرُ خِيَارٌ وفَقُّوس؟
فَقَالَ: هُوَ ذَاك. أَلَيْسَ غَرِيباً أنَّ الّذِينَ لم يَسْمَعُوا تَوَسُّلاتِ نهْرُو بِوَقْفِ الاختِبَارَاتِ النَّوَوِيَّة، هُمْ أَنْفُسُهُم مَنْ وَضَعُوا قَوَانينَ حِمَايَةِ البَشَرِيَّة، ألَيْسَ غَرِيباً أيضاً أنَّ مَنْ مَنَعَ الدُّوَلَ اِمْتِلاكَ هّذّا السِّلاحَ الفَتَّاك، ولَبِسَ رِدَاءَ المَلاك، كانَ الأسرَعَ في اِسْتِخدَامِهِ، فَحَوَّلَ الشَّجَرَ والبَشَرَ هَشِيمَا، في نَاغَازَاكِي وهِيرُوشِيمَا، وقَصَّرَ اللِّسَان، وَغَضَّ الأبْصَار عَنْ دُوَلٍٍ تُطَوِّرُهُ في وَضَحِ النَّهَار، ولاحق دُوَلاً إِسْلامِيَّة، تحاوِلُ أنْ تفِيدَ مِنْهُ في الأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّة. قُلْتُ: ومَاذَا بَعْد؟
قال: أُرطَبُونُ القَرْيَةِ العَالميّة يحَاسِبُ الجَمَاعَاتِ حَسْبَ المَزَاج، وَهُو رَجُلٌ خَداج ، في سَاعِدِهِ قُوَّةُ عِمْلاق، وفي جَوَانِحِهِ نَفْسٌ خِلوٌ مِنَ الأَخْلاق، فإِذَا لم يُعْجِبْهُ مَصْنَعُ سَمَادٍ دمّرهُ بالقَنَابِلِ الحَمْقَاء، أو أوْعَزَ لأحبَابِهِ أنْ يَذْهَبُوا إليهِ بالكَتَائِب الخَشْنَاء، وإذَا رَأَى جَمَاعَةً أرِيبَة، تُرِيدُ استِخْدَامَ الطَّاقَةِ السِّلْمِيَّةِ حَدَجَهَا بِعَيْنٍ مُسْتَرِيبَة، وَهَدَّدَهَا بِالفَيْلَقِ والكَتِيبَة، إلا إذَا جَاءَهُ الهُدْهُدُ برِسَالَةِ أمِيرِهَا، يُبَلِّغُهُ فِيهَا قبُولَ التَّعْلِيمَاتِ بِحَذَامِيرِهَا ، وهَرَفَ إلى التَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ قَبْلَ أن يَدْعُوَهُ النَّاقُوس، وَسَمَحَ لَهُ بتَفْتِيشِ مَطْبَخِهِ، ومَا فِيْهِ مِنْ كَامِخٍ ومَكْدُوس، وحَمَّامَاتِه وَغُرَفَ نَوْمِهِ وثِيَابَ العَرُوس، وأعطَاهُ البَرْنَامَجَ ومَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الخُطَط، ومَا جَلَبَ له مِنْ مُعِدَّات، شَأنُهُ شَأنُ القِطَط، الَّتي تَتَمَسَّحُ بِأَحْذِيَةِ البَاشَاوَات.
قُلْتُ: لا يْفْعَلُها إلا رِعْدِيدٌ يَعِيشُ في إذْلال، نُخْبَةٌ لا يَسْتَحِقُّ الجُلُوسَ بينَ الرِّجَال.
ثمَّ إنَّ الجَلسَةَ صَفَتْ بينَنَا بَعْدَ ذّلك، حتى كِدْنَا ننسَى غَمَّ القَانُونِ الشَّرَويّ والغَرَويّ الَّذِي يَحْكُمُ السِّلاحَ النَّوَوِي، فَقَامَ وأحضَرَ لي تِيْناً ورُمَاناً، ثمّ سَأَلَني:
- ألا تَشْتَاقُ إلى مَدِينَتِكَ التي كَانَتْ تَنَامُ عَلَى سَفْحِهَا سَيِّدَةُ البُحَيرَات في أَمَان، وتَنْبُتُ عَلَى تَلالِهَا أشْجَارُ التِّينِ والزَّيتُونِ والبَلَحِ والرُّمَان.
- قلتُ: بلى والله، فقلبي بحبّها متبول، والجوانح شَهِيدَةٌ عَلَى مَا أَقُول، ولَكِنَّكَ ذَكَرْتَ الزَّيتُونَ والبَلَحَ والتِّينَ والرُّمَان، فَأَطْعَمتَني اثْنَتَين وَحَرَمْتَني اثْنَتَين، فَقَالَ ضَاحِكاً: فأمّا الزَّيتُونُ والبَّلَحُ فأتحرَّجُ مِنْ بَلْوَاهَا، وأَخْشَى أن يَأتِيَ التَّفْتِيشُ عَلَى نُوَاهَا.
ثمَّ أَخَذَنَا صَفَاءُ الحَالُ إلى حَدِيثٍ طَوِيل، فصَارَ يحدِّثُني عَن القُدْسِ والخَلِيل، فَقَد زَارَهُمَا في خِلالِ حَيَاته، وَقَضَى فِيْهِمَا أجْمَلَ ذِكرَيَاتِه.. وإذ ذَاكَ عَادَ إليّ الهمُّ والغمّ، فاستَأْذَنْتُ وأَسْرَجْتُ حُزْني، وفي قَلْبي شَوْقٌ للبَلَدِ والخِلَّان، وفي ذَاكِرَتِي "عَبّادُ شَمْسٍ يُحَدّقُ في مَا وَرَاءَ المَكَانْ، وَنَحْلٌ أَلِيفٌ يُعدُّ الفُطُورَ لجَدّي، عَلَى طَبَقِ الخَيْزُرَانْ، وفي بَاحَةِ البَيْتِ بِئْرٌ وصَفْصَافةٌ وحِصَانْ ".
وإذْ سَكَتَ طَرِيدُ الزَّمَان، رُحْنَا نَتَذَاكَرُ أيَّامَنا في اللدِّ والنَّاصِرَةِ وبَيْسَان، وإذْ خَرَجْنا مِنَ الدِّيوَان، ليُوَدّعَنا تودِيعَ الخِلّان، سَأَلْنَاه مَوْعِداً جَدِيْدَا، يُحَدِّثُنا فِيْهِ حَدِيثاً فَرِيدَا، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكُم في قُابِلِ الأيَّام، عَنْ "وِرْد الحِمَام في مُفَاوَضَات السَّلام".
1/11/2008