ليست روايةالسيرة الذاتية ظاهرة جديدة في الأدب العربي الحديث، بل كانت على العكس واحدة من أكثر الظواهر شيوعاً، فقد استخدم رواد الرواية العربية مادة
حياتهم الشخصية ليصنعوا منها رواياتهم الأولى في صيغة سير ذاتية واضحة، خلَوا فيها إلى أنفسهم، وكشفوا عن مكنوناتها ودواخلها، ودلّوا القراء على الكثير من
يومياتهم وانفعالاتهم وانكساراتهم.
ولعل السيرة الذاتية هي إضافة إلى ذلك الفن الأكثر بقاءً بالنسبة إلى كاتبها، ولا شك في أن لوحة السيرة الذاتية العربية الحديثة لوحة متعددة الألوان تنبض بحياة
جيل كان أبناؤه يلتقون طوراً في آلامهم وأشواقهم، ويفترقون أطواراً أخرى في رؤاهم وقدراتهم على تمثل حيواتهم وتوظيف تصوراتهم لتطوير مجتمعاتهم، ولكنهم في
الحالتين كانوا يسعون جاهدين لتأسيس صورة جديدة للإنسان العربي الفاعل في تاريخه، فكان عطاؤهم الفكري والأدبي بلا حدّ.
وسواء نجحوا أو فشلوا نسبياً في مسعاهم، فيكفيهم أنهم كانوا منارات أضاءت بأنوارها عصرهم في زمن عصيب اختلطت فيه الطرق.
وليس فن السيرة الذاتية الذي أنشؤوه إلاّ دليلاً على أن الأدب العربي الحديث يدين لهم بانبعاثه وتجدده. لذلك لم تنته حياة هؤلاء المترجمين لذواتهم بكتابتهم لسيرهم
الذاتية أو بموتهم، بل لعلها بدأت.
ولا شك في أن أدب السيرة الذاتية فضاء تنشط فيه الذاكرة الفردية، وفيه يمارس الأديب الكاتب عملية استرجاع تفاصيل حياته بشكل مكثف، لذلك فإنه غالباً ما يلجأ
إلى عملية الربط بين ذكرياته الواقعية في محاولة منه لسدِّ ما يصادفه من فراغات في سرد حياته المسترجعة، ومن ثم فإن الإبداع في روايةالسيرة الذاتية يقوم على
المزج بين حمولة الذاكرة الفردية من الواقع وبين عنصر الخيال.
وتعكس كتابةروايةالسيرة الذاتية واقعاً ذاتياً غير مطلق، وذلك لكون هذا الواقع يجمع بين الحقيقة والتخيل في حدود معينة، وهي ازدواجية تقيم صلب الحياة
الواقعية للذات الفردية، ولهذا السبب نرى كاتب السيرة الذاتية يجد نفسه مضطراً إلى ترميم ماضيه الواقعي المسترجع بنسجٍ تخيُّليٍّ، لكن بشرط ألاّ يخل بدعامة
الصدق.
شرطُ تَدخُّل الخيال في روايةالسيرة الذاتية:
قد يفهم البعض أن المخيلة قد تسمح لفضاء خيالنا أن يبتدع أحداثاً ووقائع لم تقع لنا، وهذا لو حدث فإنه يخرج برواية السيرة الذاتية عن مسارها، ويحولها إلى جنس
أدبي آخر، فالمخيلة التي تفتح فضاء خيالنا، لا تعني استحداث شخصيات أو أحداث لا وجود لها في الواقع.
وإنما هي تضيء بعض الجوانب التي غشيها ضباب الذاكرة، فحجبها عن الإدراك، أو لطرح بعض الاستفسارات عن بعض الأمور التي تلبدت من حولها الغيوم في
أعماق الذاكرة، فحجبت عنها وضوح الرؤيا ولو لبعض الوقت.
إن الذاكرة الواقعية المعتمدة على مزج الحقيقة بالخيال لهي الأرض الخصبة التي تنبت فيها السيرة بسلاسة، لتكون قادرة على نقل تجربة صاحبها إلى الآخرين،
ولتشد انتباه القارئ ليتعاطف معها أو ينفر منها، والسيرة الذاتية الفنية بشكل أو بآخر هي التي يصوغها صاحبها في صورة مترابطة، على أساس من الوحدة
والاتساق في البناء والروح.. وفي أسلوب أدبي قادر على أن ينقل إلينا محتوى وافياً كاملاً عن تاريخه الشخصي، على نحو موجز حافل بالتجارب والخبرات المنوعة الخصبة.
وهذا الأسلوب يقوم على جمال العرض وحسن التقسيم وعذوبة العبارة وحلاوة النص الأدبي وبث الحياة والحركة في تصوير الوقائع والشخصيات وفيما يتمثله في
حواره، مستعيناً بعناصر ضئيلة من الخيال لربط أجزاء عمله حتى تبدو ترجمته الذاتية في صورة متماسكة محكمة على ألا يسترسل مع التخيل والتصور حتى لا
ينأى عن السيرة الذاتية.
إن الشرط الأهم لاستخدام الخيال في روايةالسيرة الذاتية هو ضبط الخيال، وذلك لأن كاتب السيرة الذاتية إذا أغرق في الاسترسال مع التخيل فإنه يدخل في إطار
التحريف، أو يكون عمله أقرب إلى الرواية العادية والأعمال التخييلية منه إلى السيرة الذاتية، فالصدقُ يجعل من روايةالسيرة الذاتية وسيلةً لإقامة جسور من
التعاطف والصداقة بين القارئ والكاتب، ولكي يستطيع الكاتب أن يكسب ثقة القارئ لا بد من أن يلتزم الصدق والصراحة.
وتختلف روايةالسيرة الذاتية عن الرواية العادية بخيالها المقيد، فالروائي يستطيع أن يستخدم الخيال كما يشاء، ولكن خيال كاتب روايةالسيرة الذاتية ممسوك
الزمام لأن السيرة هي إعادة تقديم صورة لحياة إنسانية، وعندما يريد الفنان أن يكتب روايته يجد نفسه حراً في استخدام إمكانيات خياله كافة، أما إذا أراد أن يكتب
سيرة ذاتية فإنه يجد أن مادته قصيرة ومحدودة، ودور الخيال هو في جمع هذه المادة وتشكيلها.
فالروائي يمكنه أن يستدعي أحداثاً من خارج نطاقه الشخصي، وأن يتخيل أفكاراً ضمنية لم يعبر عنها الآخرون، كما يمكنه أن يعيد تشكيل الحوارات التي لا قدرة
للذاكرة على الاحتفاظ بها، أضف إلى هذا أن بطل الرواية يمكن وصفه بضمير الغائب ومن كل جوانبه.
أما الميزة الأهم، فهي اختلاف المنظور العام للعمل، إذ يكون المؤلف في روايةالسيرة الذاتية مستقلاً، شأن المؤلف في كل عمل فني آخر، أو فلنقل إنه لا يكون
موجوداً داخل صفحات عمله، يمكنه أن يصف مراحل الحياة الأولى للشخصية، دون أن يتورط في متابعة مستقبلها، ويمكنه من حيث المبدأ أن يستدعي تجربة طفل
بكل طزاجتها، دون أن يشير إلى ما آلت إليه أمور هذا الطفل.