رسائلُ التطميناتِ الرّبانية !
( التطمينات الفكرية 2)
مَنْ تأمّل كتاب الله العزيز وأنعم فيه النظر، خرج منه بحصيلة وافرة وغنيمة زاخرة من التطمينات الرّبانية التي مدارها الميادين الفكرية ، ليستشف في ضوئها مآلات الاعتقادات الفكرية السويّة ونهاية ما ينجم عنها من مسالك عملية ، تفضي بأصحابها إلى عاقبات هنيّة ، ومن جملة ذلك :
• وعْدٌ من الباري قد أجراه وأمضاه ، أن يبطل بدينه سائر الملل حتى لايكون دين سواه؛ بشر بذلك قوله جل في علاه : {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} (الحج28)
قال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ: (أي: ليبطل به الملل كلها حتى لايكون دين سواه) (تفسير الطبري 26/109) فهو سبحانه سيعلي دين الإسلام على كل الأديان لأنه الحق (تفسير القرطبي 16/278)
وذا نصر للإسلام بالحجة والبيان ، وإن طرأ قصور عن نصرته بالأسنّة والسّنان !
• ومنها : الهداية تدرأ عن أهلها شرور أهل الضلالة والغواية؛ بيّن ذلك قول الباري تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة 105) أي (الزموا إصلاح أنفسكم ، وتزكيتها بما شرع الله لكم ، لا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم) (تفسير المنار 7/176)
ومنها :
• من أخلص لله واتقاه ، أفاض عليه من علمه وأنواره وهُداه ؛ أذاع هذه البشارة قوله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} (الأنبياء 10) أي يجعل لكم بسبب هذا الاتقاء {فرقاناً} أي: هداية ونوراً في قلوبكم تفرقون به الحق من الباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد ( زاد المسير لابن الجوزي3/346)، أو مخرجاً كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ( تفسير الطبري9/224)، وعن مقاتل: مخرجاً في الشبهات(معاني القرآن للفرّاء1/408) أو نصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين ، وإذلال الكافرين كما جاء عن الفراء وابن عباس في رواية (فتح القدير للشوكاني 2/380)، أو نجاة كما جاء عن ابن عباس في رواية ، وكما هو ظاهر كلام السدي ، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة(الدر المنثور للسيوطي3/324)، أو فصلاً بين الحق والباطل يشهر أمركم وينشر صيتكم ، كما يشعر بذلك كلام محمد بن إسحاق : مِن بِتّ أفعل كذا حتى سطع الفرقان: أي الصبح(تفسير أبو السعود4/18) ـ وكل المعاني معتبرة وترجع إلى الفرق بين أمرين، لذا قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ معقباً على تفسير ابن إسحاق لهذه الآية: (وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم ، وقد يستلزم ذلك كله ، فإن من اتقى الله بفعل أوامره ، وترك زواجره ، وفق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره ، ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا ، وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه ـ وهو محوها ، وغفرها: سترها عن الناس ـ سبيلاً لنيل ثواب الله الجزيل) (تفسير ابن كثير4/43).
ونظير هذه الآية قوله عز وجل: {واتقوا الله ويعلمكم الله} (البقرة 282)
فهذا (وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه ؛ أي: جعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه ، وقد يجعل الله في قلبه فرقاناً أي: فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل ، ومنه قوله تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}) (تفسير القرطبي3/402).
قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى : (ووعد بدوام ذلك لأنه جيء فيه بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أن التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل: إن الواو فيه للتعليل أي: ليعلمكم)( ابن عاشور : التحريروالتنوير 3/118)
ومنها :
• سَعْي الإنسان آيل إلى الخسران ،سوى سعيه في عمل صالح مبعثه الإيمان ؛ صدع بذلك قول الحق تبارك وتعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}( سورة العصر 1 ـ 3).
أقسم سبحانه وتعالى بـ{العصر} أي: (الدهر) (الشوكاني: فتح القدير 5/608) وهو ( الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر) (تفسير ابن كثير 8/480) على {إن الإنسان لفي خسر} قال الزجاج ـ رحمه الله تعالى ـ: (والمعنى أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمال في أعمال الدنيا لفي نقص) (فتح القدير للشوكاني 5/608،609) {إلا الذين آمنوا} (فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم {وعملوا الصالحات} بجوارحهم) ( تفسير ابن كثير 8/480)(فإنهم في ربح لا في خسر، لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها) (تفسيرفتح القدير للشوكاني 5/609){وتواصوا بالحق} وهو (أداء الطاعات ، وترك المحرمات، {وتواصوا بالصبر} على المصائب والأقدار، وأذى من يُؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر) ( تفسير ابن كثير 8/480)
قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ: (التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق ، فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ، ومزيد شرفه عليها ، وارتفاع طبيعته عنها) ( تفسير فتح القدير للشوكاني 5/609)
• {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}( آل عمران آية 101).
قال ابن جريج: (أصل العصم : المنع، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به) (تفسير الطبري 4/26)
ومنه قول الشاعر:
أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا
والاعتصام: افتعال من العصمة ، وهو التمسك بما يعصمك ، ويمنعك من المحذور والمخوف، فالعصمة: الحمية، والاعتصام : الاحتماء، ومنه سميت القلاع: العواصم ، لمنعها وحمايتها، والاعتصام نوعان: اعتصام بالله ، واعتصام بحبل الله، قال الله تعالى: {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}(الحج آية 78) وقال: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا}(آل عمران 103)
فالاعتصام الأول: اعتصام توكل واستعانة وتفويض ولجاء وعياذ، وإسلام النفس إليه والاستسلام له سبحانه، فهو في لبّه اعتصام نفسيّ يورث سكينة وطمأنينة !
والثاني: اعتصام بوحيه؛ وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام ، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، علماً وعملاً، وإخلاصاً واستعانة ومتابعة ، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة، فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح، والمادة التي يستلئم بها في طريقه( الضوء المنير على التفسيرلابن القيم 2/94، ومدارج السالكين 1/460) (فالاعتصام بالله والتوكل عليه ، هو العمدة في الهداية ، والعدة في مباعدة الغواية ، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد وحصول المراد) (تفسير ابن كثير 2/96)
• أهل التقوى والصبر والإحسان يحظون بمعية الرحمن ؛ بذا جاءت آيات القرآن ، حيث قال سبحانه: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل آية 128)
قال الحسن ـ رحمه الله تعالى ـ: (اتقوا الله فيما حرم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم) (تفسير ابن أبي حاتم 7/2308)أي: تركوا المحرمات، وفعلوا الطاعات، فهؤلاء الله تعالى معهم بتأييده ونصره ومعونته، وهذه معية خاصة بموجبها يحفظهم ربهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم(تفيير ابن كثير 4/615)
وعن المعية الخاصة بالصابرين قال سبحانه في كتابه المبين: {إن الله مع الصابرين }( البقرة آية (153).
فهي (معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم، وليست معية عامة) (مدارج السالكين لابن القيم 2/152) كمعية العلم الوارد ذكرها في قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم}( الحديد آية 4). فهذه يندرج تحتها جميع خلقه فهي مضروبة عليهم بسائرهم .
وليس من نافلة القول أن يستطرد في هذا المقام فيقال: إن الصبر هو: (حبس النفس عن الجزع والتسخط ، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش) ( مدارج السالكين لابن القيم2/152) وهو على ثلاثة أنواع:
صبر على مأمور ؛ وهو الصبر على طاعة الله ..
وصبر على محذور ؛ وهو الصبر عن معصية الله ..
وصبر على مقدور ؛ وهو الصبر على امتحان الله وابتلائه ..
وجاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: (الصبر على أداء الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية) (الضوء المنير على التفسير لابن القيم 1/287)
قال الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لهذه الآية: (فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب في الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال) (فتح القدير للشوكاني 1/202)
• بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ؛ صرح بذا قول الحق المبين: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} ( السجدة 24) قوله {أئمة} قال قتادة: رؤساء في الخير) ، ( الدر المنثورللسيوطي 5/343) وقال سفيان: (لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤساء) ( تفسير ابن كثير6/372) فهم (لما كانوا صابرين على أوامر الله، وترك نواهيه وزواجره، وتصديق رسله ، واتباعهم فيما جاءوهم به ، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله) (تفسير ابن كثير6/371 )وبه يعدلون .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: (فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم؛ إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين) (الضوء المنير على التفسير لابن القيم 4/567)[/align]