رحـــيل القــاص والمســـرحي العــراقي جـــلـيــل القـيـســـي
عـشــتُ حــيـاتـي منـتـظــراً رســـالة بحـجــم الســماء
موت جليل القيسي (1937 – 2006) يشبه سمفونية ناقصة او سقوط قطعة نادرة من موزاييك مدينة كركوك التي تلخص عراقا مصغرا لن يستطيع ان يملأ فراغها احد. عائلة القيسي نفسها عراق مصغر، فهو من اب عربي وام كردية ومتزوج من ارمنية. حتى سن الثامنة لم يكن يعرف سوى اللغة الكردية، ومن خلال اللهو في المحلة الصغيرة تعلّم التركمانية من اقرانه الذين يشاطرونه الالعاب نفسها، ومثل رفاقه تاليا في "جماعة كركوك" درس الانكليزية واطلع على روائع الادب المكتوب فيا. وسوف يقال في بغداد عن هذه الجماعة الغريبة: "هؤلاء يكتبون مثل الانكليز".
ورث جليل القيسي الهدوء والانزواء من ابيه، ومن امه العناد والصبر، مما سينعكس على سلوكه ونتاجه معا. فبسبب الانزواء والعناد اصر جليل القيسي على البقاء في مدينة كركوك ولم يغادرها الى بغداد مثل الكثير من ادباء المدن العراقية، اذ كان يعتبرها مدينة النور والنار الازلية وجنته الخالدة. وسوف ينعكس ذلك على اعماله المسرحية التي يولي فيها المكان والحوار قيمة خاصة تساهم في فتح الكثير من مغاليق رموز شخصياته الدرامية.
اصدر جليل القيسي عددا مهما من الكتب القصصية والمسرحية منها "صهيل المارة حول العالم"، "غيفارا عاد افتحوا الابواب"، "زليخا، البعد يقترب"، "في زورق واحد"، و"مملكة الانعكاسات الضوئية". وصدرت دراسات نقدية عن بعض هذه الاعمال ورسائل في الماجستير. ورغم اهمية النصوص القصصية التي كتبها الا ان ما وضعه من نصوص مسرحية سيجعله الكاتب المسرحي الاول في العراق بسبب النزعة الانسانية التي انطوت عليها. اضطر في سبعينات القرن المنصرم الى هجر القصة من اجل الكتابة للمسرح فأنتج اكثر من ثلاثين نصا مسرحيا. بعد صعود الديكتاتور البعثي الى سدة الحكم عاد الى الانطواء مجددا ولم يكتب سوى ثلاثة نصوص مسرحية بسبب هيمنة المسرح التجاري وتفشي ثقافة التسقيط.
في الآونة الأخيرة سارع محبّوه الى الاحتفاء به في امسية تكريمية سمّوها "يوم جليل القيسي في كركوك" نظمتها جمعية الثقافة هناك، شارك فيها اقرب اصدقائه ودارسيه، حيث تناولوا اعماله القصصية والمسرحية بالدراسة والتحليل.
تحضر الرموز الاسطورية في معظم اعمال جليل القيسي القصصية والمسرحية، وتكاد ملحمة جلجامش لا تفارق ذهنه. استلهم الكثير من هذه الرموز في قصصه ذات الطقوسية السحرية التي يمتزج فيها الحلم بالواقع. ففي وقت تدور القصة في مكان واقعي يعرفه الجميع، يكون اسم الشخصية اسطوريا والاحداث غير منطقية. ومن خلال خياله يلتقي جليل القيسي في قصة "توهج بلازما الخيال" بدوستويفسكي ويقيم معه حوارا في بيته لا ينتهي وهما يشربان الخمر. كما يلتقي بشكسبير وكافكا وآخرين من ازمنة وامكنة مختلفة يعصرنها الكاتب كما لو انه ساحر يستحضر الارواح، مثلما يستحضر رفاقه البعيدين من "جماعة كركوك" في عزلته الفريدة.
عرضت غالبية نصوصه المسرحية على المسارح العراقية والعربية، وكانت الثيمات التي اشتغل عليها عراقية لجهة الحروب والتغييب في السجون، وعربية بشكل عام لجهة ضيق الحرية والارتكاس والنكوص بعد الهزائم التي مرت بها المنطقة العربية. تتحدد هذه الثيمات بالانتظار والفراق واليأس، مع ما يرافقها من حس تراجيدي ومشاعر محبطة ويأس كامل من الحياة في هذه البقعة من العالم. وبالرغم من ان الكاتب حاول كثيرا ان يختار اماكن بعيدة جغرافيا عن بلده العراق للتخلص من سطوة الرقيب الصارمة، الا ان موضوعاته ظلت تشير بقوة الى ما يجري داخل هذا البلد الذي حلت عليه اللعنة بعد مجيء طاغية العصر.
يختار القيسي اماكنه التي عادةً ما تكون ضيقة الى درجة الاختناق، فهي اما زنازين حشر فيها عدد كبير من المساجين، وإما محطات مكتظة بالناس. الميزة التي ينبغي الاشارة اليها، ان الكاتب يقدّم معادلا موضوعيا للتخلص من الضيق المكاني من طريق الحوار الذي يكون عميقا وسلسا للتعويض عن الاختناق الذي تتعرض له الشخصيات. اما ثيمة الفراق فغالبا ما تكون الموت غير المعلن او الضياع الكامل في صحراء، وهي موت معنوي قبل ان يكون موتا عضويا، ويعالجها الكاتب ايضا بحسه المفرط حين يختار جغرافيات اخرى، مصر او اليونان، ويزج شخوصه المختنقين للتعبير عن هذا الاختناق في المكان الفسيح لكن المفضي الى الضياع. وفي الحالتين تبقى النتيجة النهائية واحدة: الفراق او الموت في المتاهة.
لو قيِّض لجليل القيسي العيش في لبنان او مصر او في أي مكان آخر في العالم لكان نصيبه من الحب والاحتفاء الكثير. ولأنه عراقي وموته عراقي، فسينطوي سريعا مثل زخة مطر عابرة ولن يتذكره احد بعد قليل لان الموت يحمل في طياته الكثير من الاسماء التي تختفي من المشهد العراقي الحافل بالجنازات.
نال القيسي جوائز قليلة بسبب عزلته التي اختارها بنفسه، منها جائزة افضل كاتب مسرحي في مهرجان السلام المسرحي، وجائزة العنقاء الذهبية للفنون، وكرمته مؤسسة "الثقافة للجميع" في العاصمة بغداد. في زمن الديكتاتورية والقحط والطائفية والانتحار الجماهيري كان جليل القيسي مثالاً للفارس النبيل مثلما كان شخصه ولغته موئلاً للحرية وتعدد الثقافات ووحدة الوجود والجمال.
صلاح حسن
--------------------------------------------------------------------------------
مقتطف من رسالة أخيرة كتبها جليل القيسي لمؤيد الراوي
كركوك - شباط 2006
"فجأة تصلني منك، بعد ثلاثة عقود من الاغتراب، رسالة قصيرة باردة، وكأنّ القوى الوضّاءة لدى مؤيد المبدع قد جفت. لكنني مع ذلك حاولت أن أتذكرك واستحضرك بالصفاء الذي أريده، لا عبر رسالتك، بل من خلال ذلك الماضي الذي ملكناه وملأناه بكل ما هو مفيد ومتفاعلٌ وحيوي، إلاّ انني في الواقع لم أتمكن من استحضار ذلك الماضي بتفاصيله الكاملة، ولم تعنّي رسالتك المقتضبة على ذلك عندما أثارت لديّ الشجون وتغلبت عليّ العاطفة.
يقول الفيلسوف الإسباني جورج سانتيانا: لا يستطيع الانسان استرجاع الماضي بوضوح، لأن "الآن" يتدخل ويفسده. هكذا بعد قراءة رسالتك حاولت، مرات عديدة أن استنجد بذاكرتي لأجمع شتات الأحداث والوجوه القديمة التي غابت عني وابتعدت في المنفى، لكن الذاكرة راحت تتلعثم في الإجابة عليّ، وحتى على الأحداث القريبة. لولا القراءة يومياً ثلاث ساعات تقريباً، رغم ضعف بصري، وهي تعمل حتماً على تنشيط دماغي المتعب، لأصبت بمرض الزهايمر الذي تعاني منه زوجتي منذ عام.
آه، أيها العزيز مؤيد، كنت أنتظر منك بلهفة رسالة تنطوي على سماء من أروع الكلمات؛ عن حياتكَ وعن الأصدقاء وعن الأسرة، لكنك كنت بخيلاً. أنتم أبناء ألمانيا وكوستاريكا وأميركا بالتبني (في إشارة إلى فاضل العزاوي وأنور الغساني وسركون بولص) أنجزتم الكثير، ولكن اوجاعكم لم تكن قليلة أيضاً. هل ما زلت يا مؤيد تعاني من عذابات غير مفهومة مثل فان غوغ، وكالمتصوف تحاول الهرب من الزمن لكي تنسى. أما أنا فقد عشت عقوداً خرافية من الخوف ومن الرعب في ظل الفاشية الصدامية حتى أصبح الخوف عندي ضرباً من المتعة، ولا أعرف في الواقع كيف نجوت من فك الماكنة القاتلة، وبأي مزاج كتبت أعمالاً أعتز بها. أما الآن، بالرغم من الفلتان الأمني المريع، أكتب بحماسة فيما أردد مع نفسي كلمات الشاعر البرتغالي ريكاردو ريس:
"ما زلتُ على قيد الحياة
غير مكترثٍ
بأحدْ
أنا الذي يجبر الجميع على الصمت
أنا الذي يتكلم".
قدرنا، أيها الحبيب، أن نبقى بثبات إلى جانب عشاق الحياة، بغض النظر عن فوضوية اصطخاب التاريخ، لأن فهمنا، إلى حد ما، بشمولية الحياة يضخّ في عروقنا المزيد من عصارات الحب والمزيد من الثقة".
جريدة النهار