الذين لايقرأون التاريخ ...!
دكتور/ محمد فؤاد منصور
طبيب / أديب
الـّذين لايقرأون التاريخ ...
مقال لمن هم دون الأربعين .
في نهاية خمسينات القرن الماضي وبداية ستيناته وصلت الثورة المصرية إلى أوج قوتها وازدهارها .. فقد استطاعت الثورة أن تحدث تغييراً مشهوداً على الساحتين المصرية والعربية وحققت نجاحات مذهلة شعر بها المواطن العربي من المحيط إلى الخليج ..فقد خرجت منتصرة من حرب السويس انتصاراً سياسياً واضحاً وتراجعت جيوش الدول المعتدية الثلاثة وكان جلاء الأنجليز عن مصر قد تم قبلها بسنوات .. و حكومة الثورة قد حققت حلم الوحدة العربية بين مصر وسوريا .. و أحدثت مجموعة من التحولات الأجتماعية على المستوى الداخلي .. وساند عبد الناصر حركات التحرر الوطني جميعاً في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية .. وذاع صيت عبد الناصر وانتشر حتى تربع على عرش القلوب بعد أن تربع دون منازع على عرش زعامة العالم العربي من المحيط إلى الخليج ..
في تلك الأيام البعيدة من منتصف القرن الماضي لم يكن يطرب المصريون ومعهم العرب جميعاً إلا ثلاثة أصوات .. أم كلثوم وعبد الحليم حافظ في الغناء .. و جمال عبد الناصر بأسلوبه الخطابي المدوي الساحر للجماهير وخطبه التي كانت تلتهب لها الأكف بالتصفيق .. والحناجر بالهتاف فقد كان شخصية كاريزمية ندر وجودها .. وكانت خطبة منه تكفي لإشعال ثورة او إحداث انقلاب .. كانت خطب عبد الناصر تفيض حماسة ووطنية وكنا ونحن صغار لاتفوتنا كلمة منها فهي تشعرنا بالعزة والكرامة وأننا نسيج خاص غير بقية الشعوب العربية ..فزعيمنا المفدى كان يحمل على اسرائيل في خطبه ويهددها ويتوعدها .. بل كان يهدد ويتوعد من هم وراء إسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأمور .. وكان ذلك يطربنا ..وشاعت بيننا حقيقة أننا نملك أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط وأن جيشنا قادر على الوصول إلى تل أبيب في خلال ساعات قليلة وأن المسألة ليست أكثر من تحين الفرصة المناسبة لتحرير فلسطين وإلقاء إسرائيل في البحر ..
كان عبد الناصر في خطبه يحمل كثيراً على الملك حسين ويتهمه بالخيانة والعمالة ولم يكن يذكره إلا باسم أمه "أبن زين" ..وكان ذلك يعجبنا ويطربنا كثيراً !! ..
ولم يسلم كذلك من لسان عبد الناصر السليط الملك فيصل رحمه الله .. فقد كان يسبه في خطبه سباً قبيحاً تصورنا وقتها أن هؤلاء الملوك لاقيمة لهم ولاوزن وأن عبد الناصر لو ظهر في عمان أو الرياض لفر هذا وذاك ولوجد الأرض امامه مفروشة بالورود ليتربع على عروش تلك الدول ..
عشنا هذه الأكاذيب طولاً وعرضاً وعمقاً وكان زعيمنا المفدى يتصرف كزعيم عصابة لاكقائد دولة .. لم يكن يحترم هؤلاء الخونة والعملاء كما كان يسميهم والذين يتلقون أوامرهم من البيت الأبيض أو من السفير الأمريكي في بلدانهم .
لكن سرعان ماظهرت الحقائق جلية لكل ذي عينين حين نشبت الحرب بيننا وبين إسرائيل ولم تكد تمضي ستة أيام حتى كانت إسرائيل قد التهمت سيناء بالكامل وهضبة الجولان السورية والضفة الغربية بالكامل بمافيها القدس الشرقية وقطاع غزة ..
صحونا على الحقائق المروعة والأكذوبة الكبرى .. وظهر أن بطلنا المفدى هو بطل من ورق وتبعثر جيشنا على رمال سيناء دُفن فيها من دفن .. وأ ُسر من أ ُسر .. أما من نجا من القتل والأسر فقد تاه في صحراء سيناء حيث ابتلعته الرمال أو عاد سيراً على الأقدام في أسوأ حال ..
ولأننا شعوب عاطفية نتعاطف مع المهزوم .. ونضمد جراح المجروح فقد رضينا بأن تقام محاكمات صورية لمن تسببوا في هزيمتنا واكتفينا بانتحار قائد قواتنا المسلحة وتشبثنا بزعامة عبد الناصر وقيادته حتى يخرجنا مما أوقعنا فيه .. وتحايلنا على اللغة فأسمينا الهزيمة نكسة .. ودعونا خسارة الحرب ..خسارة جولة من الجولات ..
ولم يمهل القدر عبد الناصر فقضى قبل أن يزيل آثار العدوان ويثبت شعاره الذي رفعه ليواسي شعبه " إن ماأخذ بالقوة لايسترد بغير القوة "
وكان قدر السادات أن يرث تركة ثقيلة .. فإسرائيل بقضها وقضيضها تربض جيوشها على الضفة الشرقية لقناة السويس .. وسكان مدن القناة الثلاث بورسعيد والأسماعيلية والسويس مهجرون إلى القرى والمدن داخل الجمهورية .. وثرواتنا الرئيسية من البترول والفوسفات والحديد قد استولى عليها العدو وأخذ ينقلها إلى داخل إسرائيل أمام أعيننا .. وقناة السويس وهي أحد أهم مصادر الدخل القومي المصري قد سدتها السفن الغارقة فأوقفت الملاحة بها ..أما ثلث آراضينا المصرية فقد أصبحت تحت الأحتلال الأسرائيلي وبدأ يستثمرها ويبني عليها مستوطنة من أكبر مستوطناته .. وفوق كل ذلك فقد صار الطريق إلى قلب القاهرة مفتوحاً أمام العدو ..لو أراد..
تلك كانت الصورة حين تولى أنور السادات حكم مصر .. استوعب الدرس وتعلم من سلفه أن الأستعراض الخطابي والتلويح بالقوة لايزيد الطين إلا بلة وأن إسرائيل تستثمره خير استثمار لأبتزاز الغرب لتبدو وهي المغتصبة المحتلة كالحمل الوديع الذي يحيط به الذئاب من كل اتجاه ..
لم يكن السادات من الشخصيات البارزة لاعلى المستوى الداخلي ولا الخارجي .. ولم يكن معروفاً في الأوساط الشعبية .. ولم تكن لديه القدرة على ملء مقعد عبد الناصر ذو الشعبية الكاسحة داخلياً وخارجياً .. وبدا للجماهير المصرية والعربية بشخصيته الهزلية المتقلبة غريبة الأطوار غير مقنع على الأطلاق .. كانت نبرات صوته العميقة مدعاة للسخرية والتندر وراح الشعب المحب للفكاهة ينظر إلى زعيمه نظرة ساخرة لاتخلو من احتقار واستهانة خاصة وقد بدا السادات راغباً في السلام وداعياً إليه وقدم مبادرة رفضتها اسرائيل للأنسحاب حتى خط المضايق في سيناء وفتح قناة السويس أمام الملاحة الدولية.. لكن اسرائيل على مايبدو كانت تسخر من الزعيم الذي استهان به شعبه بل واستهان به العالم أجمع حتى أن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي لم يتورع عن أن يبلغ مستشار السادات للأمن القومي دهشته من أن تطلب مصر مطالب المنتصر بينما هي مهزومة في الحرب العسكرية ..
لكن السادات كان قد استوعب درس الهزيمة التي لم يكن له دخل فيها .. وراح يبني القوات المسلحة المصرية على أساس علمي وبأحدث أدوات العصر .. وأعاد تجهيز وتدريب الجيش المصري ليكون قادراً على الصمود ثم التصدي والردع وصولاً إلى تحرير الأرض والأخذ بالثأر وفي سبيل ذلك وظف كل شئ على أرض مصر بمافي ذلك شخصيته الهزلية التي كان الناس يتندرون بها والتي خدعت الجميع حتى اسرائيل ذاتها ..
ولم ينتصف نهار السادس من أكتوبر 1973 حتى فوجئ العالم أجمع بالجيش المصري ينطلق إلى الضفة الشرقية لقناة السويس فيعبر أكبر مانع مائي عرفه التاريخ العسكري ويدك حصون اسرائيل ونقاطها المنيعة على الجانب الآخر ..كان جلياً أن اسرائيل قد ابتلعت الطعم وخدعت في السادات ورجاله ذوي الكفاءة العالية وهي التي تعودت أن يصرخ العرب دون جدوى وأن يهددوا دون فعل وأن تسمع جعجعة ولاترى طحيناً ..
هذه المرة كانت اسرائيل هي التي تصرخ على لسان رئيسة وزرائها جولدا مائير صرختها المدوية " انقذوا اسرائيل " .
انتهت حرب اكتوبر بأول نصر عسكري عربي في التاريخ الحديث .. وخرجت مصر من الحرب منهكة..فالبنية التحتية مدمرة تماماً والمرافق العامة لاوجود لها تقريباً .. والأقتصاد المصري يعاني أزمات طاحنة نتيجة سنوات الحرب العجاف وتكاليف الأستعداد للحرب وخوضها .. وفي ظل هذه الظروف الصعبة كان المنتظر من الأخوة العرب الذين تضخمت ثرواتهم نتيجة ماجنوه من أرباح بسبب الحرب وكنتيجة لها أن يعاونوا مصر في إعادة بناء قدراتها .. لكن الأخوة – سامحهم الله – أداروا ظهورهم لمصر .. وألقوا إليها بالفتات وراحوا يتندرون على السادات المتسول الذي لايكف عن طلب المساعدة .. هو ذات الموقف الذي وجد صدام حسين نفسه فيه بعد حربه مع إيران والتي كان يخوضها بوصفه حامياً للبوابة الشرقية للعالم العربي من المد الفارسي ومن محاولات تصدير الثورة الإيرانية .. لم يعوض العرب السادات الذي خاض حربه باسم القضية العربية .. فألجأوه إلى الأتجاه بكل قوة نحو طرح مبادرته للسلام بزيارته الشهيرة للقدس .. ولم يعوض العرب صدام الذي خاض حربه ضد إيران فاكتسح الكويت وهدد السعودية طمعاً في أن يضع يده على مصادر الثروة التي تعوض خسائره .. إنهما موقفان متطابقان تماماً .. لكن مصر التي لم تتعود إلا على البذل والعطاء تصرفت بعفة نفس وترفع فلم تعتد على أحد ولم تطمع في سلب الآخرين ثرواتهم ..وأخذت قضيتها بيدها وانطلقت إلى معركة السلام من منطلق القوة والأنتصار .. ودعت دول المواجهة إلى مؤتمر مع اسرائيل لبحث السلام العادل ورد الحقوق .. ورفعت أعلام سوريا والأردن ولبنان وفلسطين على فندق مينا هاوس إيذاناً ببدء محادثات السلام التي تعيد الحقوق العربية كاملة غير منقوصة .. لكن العرب هم العرب .. سبوا وأهانوا وقطعوا العلاقات مع مصر ونقلوا جامعة الدول العربية ورفضوا الحضور بينما حضرت اسرائيل ..
كان واضحاً أن الفرق في التفكير بين مصر وبقية المجموعة العربية كبيراً .. وأن هذا الفارق الزمني بين التوجه المصري والتوجه العربي هو المشكلة .. فالموقف المصري يتقدم على الموقف العربي بمالايقل عن أربعين عاماً .. وآية ذلك أن العرب اليوم يسعون لبدء محادثات السلام مع اسرائيل لأستعادة الحقوق .. وهو ذات الموقف الذي كان متاحاً لهم منذ أربعين عاماً.. مع فارق واحد هو أن اسرائيل أصبحت أكثر قوة وتوسعاً بل وصارت تتهرب من استحقاقات السلام.. وأن أعداد المستوطنات على الأرض العربية قد تضاعف أكثر من مرة وأن القيادات التاريخية الشجاعة والقادرة على اتخاذ قرارات قوية قد ماتت وشبعت موتاً .