جبهات التقدم العلمي في محاربة السرطان
بقلم الدكتور فيليب سالم*
الخميس 4 شباط 2016
بمناسبة اليوم العالمي للسرطان
بينما ينحدر العالم إلى العنف، ويتقهقر هذا الشرق إلى التطرف الديني الذي يُرسّخ ثقافة الجهل، تتقدم المعرفة على جبهات عِدة ضد ألدّ أعداء البشرية، لقهره ولإخضاعه تحت سلطة العلم. وفي مثل هذا اليوم سنوياً، تقف الإنسانية بخوف أمام هيبة الرعب الذي يُسببه مرض السرطان، وتسأل إن كان هناك ضوء في «آخر هذا النفق المظلم والطويل». والجواب وبكل تأكيد هو أن الظلام يتبدد بسرعة. كما أن دائرة الضوء تتسع وتكبر يوماً بعد يوم.
في السنوات الأخيرة، تمددت المعرفة على مساحات واسعة في جبهتين: جبهة علم الجينات وجبهة علم المناعة. على الجبهة الأولى، كانت مدينة لندن العام الماضي مسرحاً لدراما مثيرة، وتناولت وسائل الإعلام قصة "ليلى"، الطفلة التي كانت تُصارع الموت في احدى مستشفيات المدينة، نتيجة إصابتها "باللوكيميا". وعندما باءت جميع العلاجات التقليدية بالفشل، جاء الأطباء ليطلبوا من أهلها القبول بهذا الواقع. إلا أن إصرار الأهل على عدم الرضوخ لليأس، والمضي في معالجتها بأية طريقة كانت، جعل الأطباء يُغيرون رأيهم ويُغامرون بتجربة لم تكن قد نضجت بعد. فخضعت "ليلى" لعلاج إختباري جديد. فأُخِذت خلايا ليمفاوية وأُخضِعت في المختبر لتكنولوجيا جديدة، تُدعى Genetic Editing وتم بواسطتها تغيير هندسة الجينات. ومن ثم حُقنت هذه الخلايا الجديدة في عروق "ليلى". لم يُصدق الأطباء للوهلة الأولى ما حدث. لقد زالت جميع مظاهر "اللوكيميا"، وعادت الحياة تدب في جسد "ليلى". كان ذلك إنتصار الأمل على الإحباط، إنتصار التمرد على اليأس. وها قد احتلت هندسة الجينات بهذه الطريقة المبتكرة الخطوط الأمامية للمعركة ضد مرض السرطان. وكنا في السنوات الخمس الماضية استعملنا الجينات في معالجة أمراض سرطانية عِدة كالبروستات والبنكرياس والدماغ بنسب متفاوتة من النجاح. وهناك اعتقاد راسخ وهو أن هذه التقنية الحديثة في هندسة الجينات ستؤدي قريباً إلى تطوير لقاحات متعددة ضد الأمراض السرطانية.
أما الجبهة الثانية فهي معالجة الأمراض السرطانية بواسطة دعم المناعة. وكنا تعلمنا في السنوات العشر الماضية عن علاقة المناعة بالإصابة بمرض السرطان. فعندما تضعف المناعة كما يحدث في مرض «السيدا»، تزداد الإصابات بالسرطان. وعندما تتحول الخلية الصحيحة إلى خلية سرطانية، تعمل هذه الخلية على استراتيجية جديدة تُدمر بها مناعة الجسم وتشل أجهزتها، بحيث تُصبح هذه الأجهزة غير قادرة على الاقتراب منها وشن هجوم عليها كما يحدث عادة في أمراض أخرى. وانطلاقاً من هذه المعرفة تمحورت الأبحاث العلمية الحديثة حول تطوير علاجات جديدة تهدف إلى بناء المناعة وتقوية أجهزتها. وها نحن اليوم نملك أدوية عدة قادرة على تحقيق هذه الأهداف. خذ مثلاً الـ Melanoma، أحد سرطانات الجلد؛ لقد اكتشفنا حديثاً أن نسبة كبيرة من الخلايا في هذا المرض تحمل جينات مسرطنة مثل BRAFوغيرها التي تبني جداراً تمنع بواسطته قوى المناعة من أن تتقدم نحوها وتقتلها. وبالتالي تم تطوير أدوية جديدة مثل Nivolumab وKeytruda لشل وظيفة هذه الجينات وهدم الجدار المانع حتى تتمكن أجهزة المناعة من القضاء على الخلية السرطانية.
كان هذا التقدم العلمي نتيجـة الغوص في معرفـة الماهيـة البيولوجيـة للخليـة السـرطانيـة وأنماط تصرفها. إن الطريق إلى القضاء على الأمراض السـرطانيـة يمر إلزامياً بهذه المعرفـة. خيارنا الوحيد هو المعرفـة. والمعرفـة لا تنمو إلا بواسـطـة البحث العلمي. لذلك نطلب في هذا اليوم بالذات إلتزاماً بالبحث العلمي ودعمـه. وبدل أن يكون هذا اليوم يوم خوف، نُريده يوماً نحتفل فيـه بالإنجازات التي حققها العلم.
ويسألونك متى يأتي يوم يقضي العلم فيه على الأمراض السرطانية كلها؟ وهنا لا بد أن نتذكر حقيقتين: الأولى أننا نملك اليوم المعرفة الكافية للوقاية من 75 في المئة من الأمراض السرطانية، إن وضعت هذه المعرفة في عُهدة السياسات الصحية. والثانية هي أن العلم اليوم قادر على شفاء أكثر من 60 في المئة من المرضى المصابين بالسرطان إن تمكن هؤلاء المرضى من الحصول على العلاجات الحديثة. ولكن المأساة الكبرى هي أن نسبة المرضى الذين ينعمون بهذه العلاجات هي أقل من 10 في المئة.
تعالوا نجعل من هذا اليوم يوم عطاء. عطاء لدعم الأبحاث العلمية. إن العطاء بكل أشكاله عمل كبير، ولكن ليس هناك عطاءً أكبر من عطاء الحياة. عندما تلتزم أنت بدعم الأبحاث العلمية، تلتزم أنت بعطاء الحياة. وبذلك تمجد الحياة وتمجد من يهب الحياة.
-------------
* الدكتور فيليب سالم
Philip A. Salem, M.D.
The Philip A. Salem, M.D. Chair in Cancer Research
Baylor St. Luke’s Medical Center
President
Salem Oncology Centre