نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





عندما دخل المسلمون الى الاندلس قبل اختتام القرن الهجري الأول ، كانت أشبيلية مجرد مدينة صغيرة ، وقبل أن تسقط المدينة في أيدي ملوك قشتالة من نصارى الأسبان كانت أشبيلية الأندلسية واحدة من أكبر وأشهر مدن القارة الأوروبية.
وعلى الرغم من محاولات ملوك الأسبان لتغيير معالم هذه الحاضرة الإسلامية فما برحت، بما تبقى من أوابدها المعمارية تقف شاهد عيان على عظمة حضارة الأندلس.
أسست العناصر الأيبرية هذه المدينة الواقعة في جنوب البلاد تحت اسم «أشبالي» وبعدما دخلها الرومان سنة 205 قبل الميلاد صارت تعرف بالاسم اللاتيني «أشباليس» وعرب المسلمون هذا الاسم الأخير الى أشبيلية، واشتق الأسبان بدورهم منه الاسم الحالي للمدينة سفيليا sevilla.


جارة المغرب


تقع أشبيلية على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير قرب مصبه في خليج عميق بحيث كانت مؤهلة لأن تكون ميناء بحريا في جنوب الأندلس.
وكانت المدينة قبل دخول المسلمين الى شبه جزيرة أيبريا حاضرة لدولة القوط الغربيين الى أن نقل الملك ليوفخلدو العاصمة الى طليطلة سنة 567م.
ولم يستطع للفاتحين المسلمين أن يستولوا على أشبيلية في موجة الهجوم الأولى التي قادها طارق بن زياد ولكنهم وصلوا إليها في موجة ثانية من الفاتحين قادها موسى بن نصير الذي افتتحها بعد حصار دام عدة شهور نظرا لحصانة أسوارها.


حاضرة الولاة


وقع اختيار موسى بن نصير أول ولاة الأمويين بالاندلس على أشبيلية لتكون حاضرة لولايته، وذلك لوقوعها على مقربة من الشاطئ المغربي حيث توجد قواعد الجيوش الاسلامية ولارتباطها في ذات الوقت في يسر ودون عوائق تذكر بسائر المدن الأندلسية، ولكن هذا الامتياز لم يستمر الا لثلاث سنوات فقط اذ أدى تسارع الأحداث بعد عزل موسى فاتح الأندلس الى مقتل ابنه والوالي من بعده عبد العزيز بن موسى في سنة 98 هـ 717م وفشل خاله أيوب بن حبيب اللخمي في الاحتفاظ بكرسي الولاية لأكثر من أشهر قليلة، وعندما تولى الحر بن عبد الرحمن الثقفي الاندلسي في نهاية عام 98 هـ أمر بتحويل العاصمة الأندلسية الى مدينة قرطبة.

وقد أثر هذا التحول على التواجد العربي بالمدينة اذ فضل أغلب الفاتحين النزوح للإقامة في العاصمة قرطبة، ولم يبق بالمدينة سوى عدد قليل من العرب فيما زخرت المدينة بعدد كبير من النصارى الأسبان باعتبارها المركز الديني المسيحي الأول في أسبانيا منذ عهد القوط الغربيين. ولكن هذا الوضع الاستثنائي لم يستمر لأكثر من ربع قرن، ذلك أن الخلافة الأموية أرسلت فرقة من الجيش الأموي كانت تعسكر بمدينة حمص للإقامة بأشبيلية ولحماية سواحلها وما أن دخلت المدينة في عام 742 م حتى أخذت القبائل العربية في التدفق على أشبيلية مثل بني موسى من بيت غافق وبني زهرة وبني حجاج وبني خلدون .


مهد التسامح


ونظرا للتسامح الذي عامل به العرب نصارى أشبيلية فقد توطدت العلاقات فيما بين العنصرين وكثر زواج الفاتحين من الأندلسيات ونشأ عن ذلك جيل من الاسبان المسلمين عرفوا بالمولدين حتى أصبحوا في نهاية القرن الثالث الهجري يشكلون غالبية سكان أشبيلية.


اهتمام أموى


شهدت أشبيلية أزهى عصورها بعد نجاح عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) في تأسيس الدولة الأموية الغربية بالأندلس، وقد عنى أمراء وخلفاء هذه الدولة بالمدينة التي كانت المحطة الأولى في رحلة صقر قريش لاستعادة ملك أجداده.
فقد أنشأ الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) مسجدا جامعا بأشبيلية في سنة 829 م ولكن غزاة الشمال من النورمانديين (الفايكنج) الذين هاجموا أشبيلية سنة 884 م ونجحوا في دخولها بقواربهم الشراعية السريعة قاموا بإضرام النار في هذا المسجد وخربوا بعض قصور الأمويين بالمدينة أثناء قيامهم بالسلب والنهب قبل أن يتمكن المسلمون من هزيمتهم وطردهم من المدينة.

وقد أدت هذه الهجمات التي شنها النورماند إلى تنبيه الأمويين الى أهمية تحصين أشبيلية فأنشأوا سورا حولها وأقاموا بها داراً لصناعة السفن الحربية التي شكلت نواة الأسطول الاموي فيما بعد.
وقد شهدت أشبيلية خلال عهد الدولة الأموية الغربية تمردا واسعا أدى الى نجاح العصاة في الاستقلال بها حيث استبد بها إبراهيم بن حجاج أحد زعماء المدينة وأشرافها واستمر بنو الحجاج يحكمون أشبيلية إلى أن تولى عبد الرحمن بن محمد المعروف عبد الرحمن الثالث (الناصر) إمارة قرطبة وعزم على إخضاع الثائرين وتوحيد الأندلس تحت راية خلافية ونجح عبد الرحمن الناصر بالفعل في القضاء على أولاد عمر بن حفصون الثائرين بقلعة ببشتر واستسلم له أيضا أحمد بن مسلمة بن حجاج.

وبذلك انضوت أشبيلية تحت لواء قرطبة وعقب سقوط دولة الخلافة في قرطبة استولى المعتمد ابن عباد على مقاليد الأمور في أشبيلية سنة 1042 م وفي عهد بني عباد شهدت المدينة ازدهارا لم تشهده من قبل وأضحت أعظم مدن الأندلس بعد انهيار قرطبة ومع قصور ابن عباد ازدهرت الحركة الأدبية والفنية في أشبيلية التي أصبحت قبلة الشعراء والأدباء والمهندسين .


عاصمة الموحدين


سرعان ما انهارت دولة بني عباد وأصبحت تدفع الجزية لملوك قشتالة من النصارى، وما لبث المرابطون الذين جاءوا من المغرب للدفاع عن مدن الأندلس التي كانت تتساقط في أيدي الأسبان أن التفتوا بعد انتصارهم في موقعة الزلاقة الشهيرة الى ملوك الطوائف الذين كانوا السبب الرئيسي في نكبة الأندلس، وراح المرابطون يعزلون ملوك الطوائف الواحد تلو الآخر، وقد دخلوا أشبيلية في سنة 1091 م وقبضوا على المعتمد ابن عباد وجردوه من ثرواته قبل أن ينفوه الى المغرب حيث مات هناك فقيرا معدما.

ومع انهيار دولة المرابطين اجتازت جيوش الموحدين مضيق جبل طارق قادمة من المغرب وبايع أهل أشبيلية عبد المؤمن بن على خليفة الموحدين سنة 1156 م، فاختارها حاضرة لملكه في الاندلس وعادت أشبيلية لتحتل موقع الصدارة بين مدن الاندلس.
ثم تولى أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة سنة 1164م وكان محبا للفنون والآداب رغم ميوله الحربية فكانت أشبيلية أقرب الى قلبه من مراكش حاضرته في المغرب اذ أنه من مواليد قرطبة قضى في أشبيلية قدرا كبيرا من طفولته.
وقد اختص يوسف هذه المدينة بعدد من أجمل عمائر الموحدين بالأندلس فشيد بها القصور والمساجد وحرص على تجميل حاضرة ملكه التي ازدانت في حلل من الجمال خلال عهد ابنه أبي يوسف يعقوب المنصور.


الخيرالد


استحق يعقوب أن يلقب بالمنصور بعد انتصاره على جيوش قشتالة في موقعة الأرك الشهيرة (يوليو 1195م)، وقد أراد هذا القائد أن يخلد انتصاره التاريخي فقرر أن يشيد مئذنة سامقة لمسجد أشبيلية الجامع، فجاءت صومعة شاهقة الارتفاع تطل في إباء ورشاقة على حديقة أشبيلية وما يحيط بها من المنطقة المعروفة بالشرف، وقد أمر المنصور بعد موقعة الأرك بصنع فتاحات أربع مذهبة لتكلل المئذنة ورفعت في حضوره وركبت بالسفود البارز بأعلى القبة وأزيحت عنها الأغشية التي كانت تكسوها فبهرت ببريقها أنظار الحاضرين.
وقد تحولت هذه المئذنة التي كانت رمزا للسيادة الإسلامية الى برج نواقيس للكنيسة التي حلت مكان المسجد الجامع وهي تعرف اليوم باسم «الخيرالدا» لأنها زودت في أعلاها بتمثال من البرونز يرمز للسيادة المسيحية صنعه برتولومي موريل سنة 1567 م بحيث يدور مع الرياح ولذلك أطلق عليه اسم خيرالديو أي دوارة الرياح ومنها جاءت تسمية المئذنة باسم الجيرالد أو الخيرالد ويبلغ ارتفاع الجزء الاسلامي من هذه المئذنة 65,69 مترا.

نهاية الحكم الاسلامي

وعقب هزيمة جيوش الموحدين أمام الاسبان في موقعة العقاب سنة 1212 م بدا واضحا أن نهاية الحكم الاسلامي قد باتت وشيكة وقد حاول الخليفة الموحدي (أبو العلاء إدريس بن أبي يوسف يعقوب ) أن يعيد لأشبيلية رونقها الذي كانت عليه أيام أبيه المنصور فعمد الى تحصينها أمام الخطر المسيحي فأقام بها سنة 1221 م برجا ضخما هو برج الذهب المشهور والذي لا يزال قائما حتى اليوم ، ثم جدد أسوار المدينة وشيد أمامها سورا جديدا يتقدمه خندق مائي.
وبموت هذا الخليفة الموحدي تتابع سقوط المدن والحصون التي كانت تشكل خط الدفاع الأول عن أشبيلية مثل قرطبة وقرمونة وحصن القصر والقلعة وحصن الفرج وقلعة جابر.
وفي 22 ديسمبر سنة 1248 دخلت جيوش قشتالة مدينة أشبيلية بعد حصار دام قرابة العام والنصف وقاست المدينة أهوال الجوع قبل أن تستسلم للنصارى.

ونظرا لقرب المدينة من الساحل المغربي فقد خشى فرناندو الثالث أن تطرقها الجيوش الإسلامية من أجل تحريرها ولذا عمد الى إعادة تجديد قلاعها وأسوارها كما دفع المزيد من المقاتلين الأسبان للإقامة بها.
( عن جريدة البيان الإماراتية )