السلطان عبد الحميد وبيع فلسطين
ا.د. محمد اسحق الريفي
كتبت الباحثة د. فدوى نصيرات مقالة قبل أسبوعين بعنوان "حقيقة موقف السلطان عبد الحميد الثاني من فلسطين"، زعمت فيها أنه سهل لليهود والصهاينة غزو فلسطين مالياً وبشرياً، وأنه كان ينوي بيعها لهم، معتمدة على تأويلات وتفسيرات خاطئة لمؤرخين غربيين، ومناقضة لحقائق تاريخية معروفة حول موقف السلطان عبد الحميد الثاني من بيع فلسطين.
جاء في المقالة المنشورة في "العرب اليوم" في 24 أبريل 2010 أن السلطان عبد الحميد الثاني فتح الباب على مصراعيه للنشاط الاقتصادي والسياسي والاستيطاني اليهودي في فلسطين، ما ساعدهم على غزو فلسطين مالياً وبشرياً. واعتمدت الباحثة في هذا الزعم على أقوال "وولتر لين" عن الصندوق القومي اليهودي. وجاء في المقالة أن السلطان عبد الحميد الثاني تفاوض مع "تيودور هرتزل" على بيع فلسطين لليهود، لسداد الديون العثمانية، وأن المفاوضات انتهت بالفشل، ليس بسبب مواقف السلطان الرافضة لبيع فلسطين، بل بسبب فشل "هرتزل" في جمع الأموال اللازمة من اليهود. وهذا يناقض ما عرف عن السلطان عبد الحميد الثاني من رفض قاطع للابتزاز اليهودي، ومن تمسك شديد بحق أمتنا في فلسطين.
اعتمدت الباحثة في تحليلها على تفسيرات وتأويلات لمؤرخين غربيين، يهود وصهاينة، خاصة ما ذكره "جفريز" في "فلسطين إليكم الحقيقة" على لسان هرتزل: "كان السلطان يقول لهم ادخلوا هذه البلاد كرجال مال، واكسبوا أصدقاء لكن بعد ذلك تستطيعون أن تفعلوا ما تشاءون." والمتتبع لتاريخ النشاط اليهودي الاقتصادي والاستيطاني، يدرك أن يهود فلسطين كانت لهم أنشطة اقتصادية، مثلهم في ذلك مثل يهود الدول العربية ودول العالم، وأن اليهود قد أقاموا مستوطنات في فلسطين في عهد الدولة العثمانية، حتى قبل صدور كتاب "الدولة اليهودية" 1896، وقبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية 1897، وأن موجتين من الهجرة اليهودية حدثتا في 1882-1914 وأدتا إلى زيادة اليهود في فلسطين إلى نحو 6%. ويرجع ذلك إلى ضعف الدولة العثمانية، التي كانت تعد أيامها الأخيرة. ولا تعبر تلك الأنشطة اليهودية والصهيونية عن موقف السلطان عبد الحميد الثاني، الذي رفض بيع فلسطين لليهود، وإنما تعبر عن ضعف أمة وعن أزمة عربية وفلسطينية.
وما يؤكد موقف السلطان من بيع فلسطين أن تدفق الهجرة اليهودية قد بدأ فعلياً بعد انهيار الدولة العثمانية، وخلال الانتداب البريطاني. ومن غير المعقول أن تعجز الحركة الصهيونية العالمية عن توفير الأموال، خاصة أن مشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين حظي منذ البداية بدعم الغربيين، وعلى رأسهم البريطانيين والأمريكيين. فقد عبرت الدولة العثمانية عن رفضها لبيع فلسطين عبر تصريح لسفيرها "علي فروح بيك" في 24/4/1899 في أحدى الصحف الأمريكية، جاء فيه: "ليس في نية حكومتنا أن تبيع أي جزء من البلاد العربية، حتى ولو ملأوا جيوبنا بملايين القطع الذهبية، وقضية فلسطين ليست قضية اقتصادية، بل هي قضية سياسية."
ومن المعلوم أن الحركة الصهيونية حاولت عبثاً إغراء الدولة العثمانية بالمال لبيع فلسطين لليهود، رغم حاجتها الماسة للمال في ذلك الوقت، وتراكم الديون عليها. وقد رفض السلطان عبد الحميد الثاني ذلك الإغراء الصهيوني في رسالة تهديد أرسلها للصهيوني "هرتزل"، قائلاً فيها: "أنا لن أبيع ولو شبراً واحداً من الأرض، لأن هذا الوطن ليس ملكاً لي بل هو ملك لأمتي، لقد حصلت أمتي على هذا الوطن بدمائها، وقبل أن يؤخذ منَّا هذا الوطن ويذهب بعيداً، سوف نغرقه بدمائنا مرة ثانية." وهذا القول يفند الزعم بأن عدم تمكن "هرتزل" من جمع المال اللازم هو الذي حال دون بيع فلسطين لليهود.
كما أكد السلطان عبد الحميد في الرسالة رفضه لبيع فلسطين حين كتب: "وأنا لن أقدم أي جزء منها إلى أي أحد، دع اليهود يحتفظون بذهبهم فإذا ما تمزقت إمبراطوريتي، يمكنهم عندها الاستيلاء على فلسطين دون مقابل، ولكن تقسيم هذه البلاد لن يكون ممكناً إلا على أشلائنا، وأنا لن أسمح أبداً بإجراء عملية جراحية على جسد الأمة الحي."
كما اعتمدت الباحثة على قول منسوب للقنصل البريطاني في القدس في ذلك الوقت "ألبرت هايمسون"، الذي زعم بأن فرمانات الدولة العثمانية لمنع هجرة اليهود إلى فلسطيني استثنت يهود أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا. وفي هذا الزعم تضليل كبير، وهو يحتاج إلى دليل. وقد يكون اليهود الغربيون قد استغلوا جنسياتهم الغربية للقدوم إلى فلسطين، مستغلين سياسة الانفتاح الاقتصادي للدولة العثمانية، ربما بذريعة تخفيف الضائقة الاقتصادية الكبيرة!
7/5/2010