-
هُنَـــــــــاك..
هُنَـــــــــاك..
قصة قصيرة: د.يوسف حطيني
(1)
كثيراً ما كانت ترعبنا رؤية ذلك الرجل ذي اللحية الكثيفة البيضاء والشعر الأشعث المتهدل، وهو يتجول في حارات المخيم الضيقة، كنا حين يطل من رأس الزقاق نركض خائفين كأرانب هاربة من ذئب غادر.
غير أنه على مدى السنوات الكثيرة التي عاشها بيننا لم يؤذِ أحداً من أبناء المخيم، بل إنه كان يحاول أن يطعمنا الحلوى في بعض الأحيان، ولكن ارتباط صورته خلالها بصورة الموت القبيح كان كافياً لكي يجعلنا نرتجف لمجرد سماع سيرته.
لا أزال أتصور منذ صغري أنه وحش بلا قلب، كنت أراه ـ ونحن ندفع رؤؤسنا بين جموع الباكين ـ مسروراً، وفهمت فيما بعد أن مبعث سروره هو بضع مئات وضعها في جيبه رجل حزين.
إنه خليل عبد الرحمن الحيفاوي، ذلك الوحش الذي ورث عن أبيه صنعة حفر القبور، ولكنه لم يرث كما أكد والدي ذلك القلب الطيب، إذ لم يكن يعزي بوفاة أحد من أهل المخيم، ولم يكن يهمه سوى أن يأخذ أجر حفر القبر، وأن ينطلق وهو يصفر لحناً رديئاً نحو بائع الحلوى.
(2)
أنا خليل بن عبد الرحمن الحيفاوي، ورثت عن والدي صنعة حفر القبور، غير أنني لم أرث الأرض، كان يحدثني عن الناس الطيبين الذين عاشوا معه هناك، عن الصداقات التي قامت بين الطير والشجر، بين جبل الكرمل، ووادي النسناس، كان يحدثني عن أولئك الأحبة الذين يرحلون، فيحفر بيديه الكبيرتين الخشنتين قبوراً لهم في أرض كانت تستسلم له بلا تردد، كانت الأرض تشبه أماً تفتح ذراعيها لتستقبل أهلها، وكثيراً ما كان يبكي حين يتذكر ميتاً لفظ الأنفاس الأخيرة بين يديه، أو ميتاً صلى عليه في المسجد الكبير، أو سار خلفه مع المشيعين في حارات حي الاستقلال.
لقد أورثني أبي صنعة حفر القبور، ولكنه لم يورثني الأرض، لا أزال أذكر حتى الآن القبر الأول الذي حفره في المنفى، قال لي يومذاك: "إن الأرض هنا قاسية إلى حد لا يطاق"، وها أنا ذا قد خبرت الأرض القاسية بنفسي، فيما أخبرني أصحاب القبور بعد ذلك أنها تعتصرهم بقسوة.
(3)
إنه رجل يثير الاشمئزاز، تجده دائماً يقوم بأعمال تستفزّ جموع الباكين والمشيعين من حوله، وقد شاهدته عدة مرات يحمل الجثة الملفوفة، ثم يلقيها دون رحمة أو خشوع في أسفل القبر، ولا يتورع أن يفعل كل ذلك وهو يضع سيجارته في فمه، ويطلب أجره في أكثر المواقف حرجاً، حتى مع أولئك الطيبين الذين ينوون إكرامه على كل حال، فحين يصطف آل الميت في المقبرة لتقبل العزاء بعد أن ينتهوا من الدفن، يقفز خليل في هذا الوقت الذي يسميه "ساعة الصفر" بين الجموع ليهمس شيئاً في أذن الرجل الذي سيطلب منه المال، فيمد هذا يده إلى جيبه ليضع في يد خليل حفنة من المئات، يمضي بعدها خليل إلى ميت آخر.
(4)
أتدري يا ولدي أن اللقمة ذل، أنت لا تعرف بعد معنى أن يكون رزقك مرتبطاً بمصائب الآخرين، يستغرب الناس يا ولدي أن أدخن في أثناء عملي، وكأنهم لا يدخنون، أبو كايد البنّاء يشعل سيجارة من أختها في الورشة، ولا يعاتبونه.. يستغربون أن أشتري لك الحلوى بعد أن أقبض جزاء تعبي، أمونة التي تشطف بيوت الأغنياء في الأحياء المجاورة تشتري الحلوى لأولادها بعد أن تقبض، وكذلك أبو هلال والآخرون، فلماذا يستكثرون علي أن أفعل ذلك.
كأنهم لا يربون أولاداً، كأنهم لا يعرفون أن طلبات الأسرة لا تنتهي، أريد أن آخذك إلى الطبيب لأعالج ذلك الاصفرار الذي بدأ يغزو حمرة وجهك، أريد أن أشتري لك محفظة ودفاتر وبزة جديدة وحذاءً لامعاً، والسنة الدراسية ما تزال في بدايتها، وليس ثمة من مات في المخيم منذ أكثر من عشرين يوماً.. أخبرني بحق الله يا ولدي من أين سآخذك إلى الطبيب، من أين سأشتري لك كل ما تحتاجه، لقد حاولت أن أقترض مالاً من أبي مصطفى، ولكنه طردني قائلاً: "وهل تنوي أن تسدني قبراً لأحد أفراد عائلتي يا ابن الحرام."
اللقمة ذل يا بني، وأنا أريدك أن تكون مهندساً، وأنت والحمد لله تنتقل من تفوق إلى آخر، والمدرسة الثانوية تفتح لك ذراعيها.. لا أريد أن أورثك هذه الصنعة اللعينة التي تطلبك في أي وقت، وتهملك في أي وقت: جلست مرة شهرين دون عمل، سقطت بعدها مريضاً من الجوع والقهر، وفجأة مات ثلاثة رجال وامرأة في يوم واحد، لم يرحموا مرضي يا بني، فحملتُ ضعفي إلى ذلك التراب القاسي، وحفرت قبرين، إضافة إلى القبرين اللذين يكونان دائماً جاهزين لاستقبال المفاجآت، حفرت القبرين بما تبقى في جسدي من قوة، ثم انصرفت لأشتري من السوق بيضاً وجبناً وزيتوناً وحلاوة.
الناس لا يحبونني يا بني، لأنني أذكرهم بالنهاية، وكثيراً ما أنكروا علي تعبي، غير أنني صرت، بحكم الخبرة، أختار وقتاً أطلق عليه ساعة الصفر لأطلب حقي، أعرف أن معظم الناس هنا طيبون، ولكن العاقل يستفيد من تجاربه، وقد تعلمت من أبي جابر النصاب درساً قاسياً إذ أمهلته.. حتى أخبرني أنه لن يسدد لي أجر قبر زوجته لأنه يجمع المال ليتزوج امرأة أخرى.
الناس هنا لا يحبونني، وكذلك هذه الأرض، أحسها تسخر مني حين أضع جثة ما في رحمها، ترفضها لأنها غريبة عنها، وقد أخبرني الأموات يا بني أنهم غير مستريحين فيها، لذلك صرت ألقي الجثث الجديدة دون أي احترام لتلك الأرض، ليتني يا بني أستطيع أن أحفر لهم قبوراً "هناك"، "هناك" يا بني.. سأتسامح كثيراً في تحصيل أجري، لأن الأرض كما قال أبي تسلمك نفسها، وتحتضن الميت كأم رؤوم، عندما تكبر يا بني حاول أن تفعل شيئاً حتى تدفنني "هناك"، ولكن لا أريدك أن ترث هذه الصنعة اللعينة، لن أسمح لك أن تساعدني في صقيع الشتاء، ولا في حر الصيف، لن أسمح لك أن تقطف بسمة أولادك من دموع الناس.
كيف سآخذك إلى الطبيب، كيف سأشتري لك دواءً وأبو محمود الذي يصارع نزعه الأخير لا يريد أن يموت، وأم علي العايش تلك العجوز الكركوبة مضربة عن الموت الذي يلحقها منذ سنوات، كلهم لا يفهمون، وأنت كذلك لا تفهم، أحسد نفسي كثيراً حين أراك تبتسم، وها أنت ذا تبتسم لغزالتك الصغيرة، لا شك أنك تحلم بالمدرسة، ستذهب إلى الطبيب يا بني، وستشفى بإذن الله، وتذهب إلى المدرسة الثانوية.
"الله يقصف عمرك يا أم علي.. يا كركوبة"
(5)
"الصلاة خير من النوم
الصلاة خير من النوم
الله أكبر.. الله أكبر
لا إله إلا الله"
"ترحموا على المرحومة أم علي العايش.. يرحمنا ويرحمكم الله"
تسرب دفء لذيذ إلى قلبه، فقد جاء إليه رزقه منذ أبكر الصبح، لذلك انطلق خفيفاً نحو المقبرة ليحفر قبراً، وحين استشعر في نفسه همة ونشاطاً قال أحفر قبراً آخر، ومن يدري لعل أبا محمود يفعلها.
(6)
لم يكن خليل الحيفاوي قد انتهى من تمهيد القبر الجديد حين جاءته زوجته معولة تلطم على خديها، وفي عينيها دموع حمراء، لكي تخبره أن ابنهما الوحيد فارق الحياة، وعندها نظر إلى القبر الجديد نظرة فزع لن تستطيع زوجته نسيانها مدى حياتها.
(7)
أنا أبو أيوب اليافاوي: أخبرني خليل الذي سقط فوق قبر ابنه ميتاً أن هذه الأرض الغريبة القاسية تعتصره، وطلب مني أن أبلغكم جميعاً أن تفعلوا ما تستطيعون حتى تخلصوه من الغربة التي يشعر بها، وأن تبحثوا جميعاً عن قبور مريحة لكم … "هناك".
3/6/2001 م —
-
سلسلة قصصية جميلة تؤنس من يجول فيها أجدت أيها الرائع مودتي
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى