بسم الله الرحمن الرحيم
أرجو ملاحظة توفر موضوع المقال على اليوتيوب في الرابط التالي:
تفسير سورة الكهف والكتاب الذي لا عوج له. د نبيل أكبر - Video Dailymotion
ولحضراتكم الشكر والتقدير على ملاحظاتكم القيمة
وحفظكم المولى عز وجل وسدد خطاكم
يقول تعالى في الآية 54 من سورة الكهف الكريمة:
ولقد صرفنا فى هذا القرءانِ للناسِ من كلِّ مثل وكان الإنسن أكثر شىء جدلا {الكهف: 54}
فإن جعل سبحانه في القرآن مثلا لكل شيء، فما مثله تبارك وتعالى في القرآنِ؟
الجواب يكمن في الآية الأولى من سورة الكهف، والتي تتمركز آياتها وموضوعاتها وكلماتها وأحرفها وأعداد ذلك كله حول قضية واحدة، وهي إبراز أن "الكتب الذى لا عوج له" هو حرف "ألف المد أو الرقم واحد" وأنه مثل ورمز لله الواحد تبارك وتعالى ...
وسنبين وجهة النظر هذه فيما يلي ...
تستهلُ السورة بقوله العزيز:
الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتب ولم يجعل له عوجا {1}
ما معنى الكتب هنا؟ لكلمة الكتاب هنا مدلولين مترابطين ولكنهما مختلفان. الأول وهو المتعارفُ عليه عند الناسِ ويعني مجموعةً من الصحائفِ الورقيةِ تحتوي على كتابة ورسمٍ للحروفِ والأرقامِ (كتاب الجغرافيا مثلاً)، دفتر، كراس، ...
أما المعنى الثاني فهو " ما كتب" أي الحروف والرسوم والأرقام بِحد ذاتها. فيكون ا كتاباً، ب كتاباً، ج كتاباً، د كتاباً، هـ كتاباً ... وهكذا لجميع الحروف . ويكون الرقم 1 كتاباً، و 2 كتاباً، 3 كتاباً، 4 كتاباً ... وهكذا لجميع الأرقامِ ... فكلٌ منها "كتابٌ" مستقلٌ بنفسه، له شكله وله رسمه وله نطقه ...
فلو أخذنا بالمعنى الأول للكتاب – مجموعة من الأوراق – فلا يمكن فهم الآية الأولى من سورةِ الكهف إلا مجازياً إذ لا معنىً ولا دلالة لاستقامة الأوراق. إذ لا يختلف – في محتواه – كتاب معوج عن مثيله الغير معوجٍ. من يدرس من هذا أو ذاكَ سوف ينجح، ولا فرق بينهما.
فيمكن فهم الآية بالمعنى المجازي التالي : الحمدُ لله الذى أنزلَ على عبدهِ الكتابَ ذا المنهج المستقيم الواضحِ والذي لا يتعارض مع بعضه البعض، وهذا المعنى المجازي – وليس الحرفي – هو المتعارف عليه ...
بالاضافة للتفسير المجازي للآية يمكن وضع فهم حرفي للآية كما يلي:
ما معنى أن يعوجَّ الكتاب؟
الاعوجاج هو الانحناء والميل والانحراف، وعكسه الاستقامة. ولأنَّ المعنى الحرفيَّ للكتاب هو " الحروف والأرقام بِحدّ ذاتها " ...
فيكون معنى الآية الحرفي:
الحمدُ لله الذى أنزل على عبده ((الحرف المستقيم)) ولم يجعل له عوجا
والآن: ما هو الحرفُ المستقيمُ الذي لا اعوجاج له؟ كما هو معلوم هناك حرف أبجديٌ مستقيم وهو ((الألف ا)) وهو أول الحروف، وهناك رقم مستقيم وهو ((الواحد 1)) وهو أول الأعداد!
فيكون معنى الآية : الحمد لله الذى أنزل على عبده (( ا )) ولم يجعل له عوجا! ... وهذا الكتاب الذي لا عوج له (( ا )) هو رمز لله الواحد جلّ جلاله في القرآن الكريم، وعند الموحدين يشار إليه عزَّ وجلَّ بفتح السبابة مستقيمة على شكل هذا الكتاب
(( ا ))
فآيات وموضوعات وكلمات وأحرف سورة الكهف وأعداد ذلك يشير إلى قضية توحيدية مهمة وهي إن "الكتب الذى لا عوجَ له" هو حرف "ألف المدِّ"، وهذا ما أوضحه فيما يلي ...
السورة تستهل بالحمد، والحمد يكون عند الفتح كشكر لله على فتحه تعالى للناس. فالحمد يأتي بعد الفتح عادة، كما في قوله تعالى :
وقل الْحمدُ لله سيريكم ءايته فتعرفونها، وما ربّك بغفلٍ عمّا تعملونَ {النمل :93}،
فالحمد في الآية للمعرفةِ ...
هناك حوالي خمسة مواضع في المصحف الشريف تستوجب "سكتة لطيفة" عند تلاوتها، وهي معلمة بحرف (س). أحدها في نهاية الآية الأولى من سورة الكهف:
الحمدُ لله الذى أنزلَ على عبده الكتب ولم يجعل له عوجا {1} (س)
فما الحكمة من السكتة؟
فإذا كنت تمشي في طريق ثم أمرت بالوقوف للحظة فما الذي ستفعله؟ ستنظر وتتمعن فيما حولك بطبيعة الحالِ ... فإذا توقفت عند نهاية الآية الأولى من الكهف فما الذي ستراه حولك؟
سترى الرقم 1 مباشرة أمامك وهو ترتيب الآية، وهو كتاب (حرف) مستقيم ...
وبعدها مباشرة – أي أول كلمة من الآية الثانية – سترى كلمةَ "قَيماً" والتي هي بمعنى مستقيماً ...
أما إذا نظرت إلى خلفك فسترى الحرف ا من كلمة "عوجا"، وهو كتاب (حرف) مستقيم ...
ولو نظرت إلى أول حرف من الآية ستجد الحرف ( ا ) من كلمة "الحمد" ، وهو كتاب (حرف) مستقيم ...
ولو نظرت إلى آخر حرف من السورة السابقة (الإسراء) ستجد الحرف ا من كلمة "تكبيراً" ...
ولو نظرت إلى أقرب رقم من خلفك ستجد الرقم ( 1) مكرراً 3 مرات 1 1 1 وهو عدد آيات السورة السابقة، الإسراء، وهي كتب (أحرف) مستقيمة:
وقل الحمد لله الذى :
(لم يتخذ ولداً)
(ولم يكن له شرِيك) فى الملك
(ولم يكن له ولى) من الذل، وكبره تكبيراً {1 1 1} ...
لاحظ العبارات الثلاثة الدالة على التوحيد في مقابل الواحدات الثلاثة {1 1 1} ...
فالحكمة من السكتة في هذا الموضع هي لفت النظر للحرف ( ا ) وللرقم ( 1 ) في السورة.
المحور الرئيسي للسورة هو تصحيح العقيدة وتوحيده عزّ وجلّ ..
فإنذار من الشرك في أولها {وينذر الذين قَالوا اتخذ الله ولداً}،
إلى إنذار في آخرها {... أنما إلهكم إله وحدٌ ...} ...
وفى قصة أصحاب الكهف: {... لن ندعوا من دونه إلهاً ...}
وفى التعقيب عليها: { ما لهم من دونه من ولى، ولا يشرِك فى حكمهِ أحداً }،
وفى قصة الجنتين: {... لكنا هو الله ربى ولا أشرك بربى أحداً}،
وفى مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة: {... نادوا شركاءى الذين زعمتم ..} ...
فإرساء التوحيدِ (الواحد) بالقصصِ والحجج العقليةِ من محاور السورةِ، فلمَ لا يكون إرساء التوحيدِ ( 1 ) عددياً وكتابياً (ا) من محاور السورة أيضاً؟
آخر آيةٍ من سورة الإسراء وهي التي تسبق الكهف مباشرة تحمل معاني (الحمد) و (التوحيد)،
وأول آية في الكهف تحمل معاني (الحمد).
وإن قلنا بتشابه المعاني في الآيتين المتجاورتين، فتذهب الإشارة في (الكتاب الذي لا عوج له) إلى التوحيد.
ابتداءً من الآيةِ 32 إلى نهاية الآية 44 من سورة الكهف، يذكر سبحانه قصةَ رجلين يتفاخر أحدهما على الآخر بما حباهُ الله تعالى من خيرات:
واضرِب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتينِ من أعنبٍ وحففنهما بنخلٍ وجعلنا بينهما زرعاً {32} كلتا الجنتينِ ءاتت أكلها ولم تظلم منه شيـءـاً وفَجرنا خللهما نهراً {33} ....
... ولم تكن له فئة ينصرونه من دونِ الله وما كان منتصراً{43} هنالك الولية لله الحقِّ هو خير ثواباً وخير عقباً {44}
في الآية 38 من السورة، أي في منتصف القصة تماماً رسمت كلمة ( لكنَّ ) هكذا:
لكنـــــا هو اللهُ ربى ولا أشرك بربى أحداً
فلم؟
السؤال بطريقة أخرى: لغوياً، كان على حرف الألف الزائدة في كلمة " لكنا " أن تكتب هاءً كما في "لكنه" فيكون ضمير ( هاءِ ) الغيبة عائداً إلى الله عزّ وجلّ ... فلم أستبدل ضمير (( ـه )) الغيبة العائد إلى الله جلّ جلاله بحرف ألف المدِّ (( ا )) ؟
السبب من منظورنا هو في إن حرف ألف المدِّ ((ا)) رمزٌ لـ هو اللهُ .
وهذا يتضمن إشارة إلى أن الحرف ((ا)) في الآية يرمزُ لله الواحدِ الأحد سبحانه ....
مع ملاحظة إنّ كلمةَ { لكنـا } لم تتكرر كحرف ناسخ مع حرفِ الألف الزائدة في أي موضعٍ آخر من المصحفِ ...
ومع ملاحظة الإحصاءات التالية من المصحف الشريف:
وردت كلمة " لكن " مرة واحدة فقط من دونِ ضمير بحرف ألف المد الزائد في سورة الكهف الآية 38 ... لكنا هو اللهُ ربى ...
ووردت من دون ضمير 118 مرة في المصحف ... كما في :
وَلَـكِنَّ الشيطِينَ كَفَرُواْ ... وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ... وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ ... وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ ... لَّـكِنِ اللهُ يَشْهَدُ ...
ووردت بضمير ( نا ) الفاعلين 3 مرات كما في :
طه آية 87 ... وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً ...
القصص آية 45 : وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً ...
القصص آية 45 : وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ...
ووردت بضمير المتكلم ( ى ) 4 مرات كما في :
الأعراف آية 61 وآية 65: ... وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعلمينَ
هود آية 29 ، والأحقاف آية 23 : ... وَلَـكِنِّى أرَاكُم قَوْماً تَجْهَلُونَ
ووردت بضمير جمع المذكر ( هم ) مرة واحدة كما في:
التوبة 56 ... وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ...
ووردت بضمير الغيبة ( ــه ) مرة واحدة كما في:
الأعراف 176 ... وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ...
ووردت بالضمير المتصلِ ( كُمْ ) مرتين كما في:
الروم 56 ... وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ
الحديد 14 ... وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ
في آيات قصة الرجلين السابقة، ورد حرف ألف المد ((ا)) 82 مرة. نصف هذا العدد هو:
82 ÷ 2 = 41
إذا عددنا أحرف (ألف المد) من أولِ القصة نجد أنّ ترتيب حرف ((ا)) الواقع في كلمة لكنـــا هو نفسه 41!
أي أن حرف (ألف المد) المميز في كلمة لكنا يتوسط حروف (ألف المد ا) في القصة!
((ملاحظة: هناك الكثير من الإحصاءات المختلفة لأحرف المصحف، نشير إلى أننا نستنبط ونحسب الأحرف من المصحف الشريف نفسه، ولا نعتد بغير ذلك.))
وردت كلمة {أحدا} 20 مرة في المصحف الشريف. استحوذت الكهف على 8 منها (أي بنسبةِ 40 % )، أحدها كان آخر كلمة في السورة.
يلي ذلك 5 مرات في سورة الجن (وهي السورة الوحيدة في المصحف التي تنتهي بكلمة {عددا} أو أي من تصاريفِ الكلمة)! ومرتين في المائدة ، ومرة واحدة في كل من التوبة، مريم، النور، الأحزاب، والحشر.
فالحكمة من استحواذ سورة واحدة بنسبةِ 40 % من مجمل ذكر كلمة التوحيد {أحدا} هي للفت النظر إلى الرقم (واحد) ...
كلمة {أحدا} وردت 20 مرة في المصحف الشريف. إذا حسبنا عدد ورود كلمة { أحداً } من أول المصحفِ، نجد أن ترتيب كلمة { أحداً } التي هي آخر كلمة في سورة الكهف هو 1 1 ....
لو قلنا أن حرف ( ا ) يرمز لله تعالى، وسورة الكهف تختص ببيان ذلك، فتكون السورة مميزة أيضاً من حيثية وضع هذا الحرف بالنسبة للمصحف الشريف كاملاً. وهذا ما وجدناه ...
فإذا أحصينا حروف (ألف المد) في جميع المصحف نجد أنها 38667 حرفاً.
فيكون حرف ألف المد (ا) المنصف للقرآن هو حرف الألف الذي ترتيبه 19334 . وقد وجدنا أن هذا الحرف هو الواقع في آخر كلمة {ويستغفروا} من الآية 55 من سورة الكهف :
... وما منع الناس أن يؤمنوا إِذ جاءهمُ الهدى ويستغفرو ((ا)) ربهم إِلا أَن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً {الكهف:55} ...
فسورة الكهف إذن مركزية بالنسبة لعدد ( ا ) على مستوى القرآن كله لكون ( ا ) من كلمة {ويستغفروا} من الآيةِ 55 منصفاً لمجموع أحرف ( ا ) في المصحف.
وإن لم يكن وقوع منصف أعداد حروف ألف المد (( ا )) بالنسبة لجميع المصحف في الآية 55 من سورة الكهف ملفتاً للنظر، فلعله يثيرك أن تعلم أيضاً أن الآية 55 هي منتصف سورة الكهف من حيث عدد آياتها البالغ 110 ... لأنَّ :
110 = 2 × 55
مما يعني أيضاً مركزية هذه الآية هو قوله تعالى فيها ....
إِلا أَن تأتيهم سنة الأولينَ أو يأتيهمُ العذاب قبلاً ...
فسنة الأولين تومئ إلى الماضي أو الخلف،
بينما تشير كلمة " قبلاً " الأمام ...
وليس بين الخلف والأمام إلا الوسط، وهذا إشارة إلى وسطية حرف ألف المد في هذه الآية بالنسبة للقرآن أجمع ....
وأخيرا، إذا نظرنا إلى الآية التي تسبق الآية 55 فسنجد قوله تعالى:
ولقد صرفنا فى هذا القرءانِ للناسِ من كلِّ مثَل وكان الإنسن أكثر شىء جدلا {الكهف: 54}
والمثل هنا هو حرف ألف المد ا الذي سيأتي في الآية المركزية 55 ... والذي هو مثلٌ لله تعالى ...
رسم كلمة "الكتاب" برسم ألف مد بين التاء والباء ومعرفة بـ ( ال ) لم ترد مطلقاً في المصحف الشريف إذ ترسم من دونِ ألف المدّ هكذا: {الكتب}. أما كلمة { كتاب } من دونِ ( ال ) التعريف فقد وردت 4 مرات في جميع المصحف.
في سورة الرعد آية 38: ... لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
وفي الحجر آية 4 : وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كتابٌ مَّعْلُومٌ
وفي مطلع سورة النمل : طس تِلْكَ ءَايَتُ القُرءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ
وفي الآية 27 من سورة الكهف :
وَاتْلُ مَا أوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
تخصيص السور الأربعة الكريمة بهذا الرسم المميز لكلمة {كتاب} له دلالاته. وتكلمنا بالتفصيل عن كل سورة في بحث منفصل. ما يهمنا هنا هو كلمة {كتاب} من الكهف كونها تستهل بقوله تعالى:
الحَمْدُ لله الَّذِى أنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
وبهذا تومئ زيادة حرف ( ا ) في السورة لله الواحد سبحانه. لاحظ أيضاً التذكير في الآية بأن كلمات هذا الكتاب لا مبدل لها، فهي محفوظة وليس قولي مجرد مصادفات عابرة ...
ملاحظة: حذف حرف { ا } رسماً بعد حرف "ت" من كلمة {كتاب} ومرادفاتها في المصحف 252 مرة ووردت 4 مرات فقط برسم حرف { ا }.
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خير المرسلين
سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه
إلى يوم الدين