21 أيار 2006
هدى حنا: "أُريد أن أموت في فلسطين"
بقلـم : د. فيحاء عبد الهادي
حين التقيت "هدى حنا" في دمشق، منتصف شهر نيسان الـماضي، للتعرف عليها، وللحصول على صورة فوتوغرافية جيدة، يمكن استخدامها في كتاب توثيقي لإسهامات الـمرأة الفلسطينية السياسية؛ وجدتني أمام امرأة فلسطينية، تقارب الخامسة والثمانين عاماً، ذات قدرات مميزة، تجمع بين الـمساهمة السياسية، والـمساهمة الثقافية والتربوية؛ الأمر الذي جعلني أعود لـمراجعة شهادتها، ضمن أرشيف التأريخ الشفوي لإدارة الـمرأة/ وزارة التخطيط، الذي ركز على الـمساهمة السياسية، في توثيقه لعمل النساء، منذ الثلاثينيات.
ارتسمت أمامي صورة أكثر دقة، وأكثر إنصافاً للراوية، خاصة وقد اجتمعت لدي الوثيقة الشفوية والوثيقة الـمكتوبة. فبالإضافة إلى عمل الراوية السياسي والاجتماعي؛ وجدتها قد كتبت ثلاثة كتب أدبية هي: "صوت الـملاجئ"، الذي صدر في دمشق في خمس طبعات؛ الأولى العام 1951م، والأخيرة في العام 2004، ورواية اجتماعية بعنوان: "عائد من البعيد"، صدرت العام 2002، ومجموعة قصصية بعنوان: "أُريد أن أموت في فلسطين"، صدرت العام 2005م.
وإذا كانت الراوية قد وثقت لرؤيتها وحياتها وعملها، من خلال كتابتها الأدبية والاجتماعية، فما الذي أضافته الشهادة الشفوية؟ وما الذي كشفت عنه مما لـم تكشفه الوثيقة الـمكتوبة؟
تضيف شهادتها معلومات مهمة، لـم ترد في كتاباتها، منها معلومة عن علاقة بعض النساء بجيش الإنقاذ الفلسطيني. فمن خلال عمل الراوية كمديرة لـمدرسة البنات في الرامة، كانت تستقبل جيش الإنقاذ، وتقدم له الضيافة والـمساعدة الـممكنة، كما اجتمعت وزميلاتها بطبيب القرية الوحيد، وطلبن منه التدرب على الإسعافات الأولية:
"جيش الإنقاذ أول شي أنتمى إله، إنضم إله أخوي، ولـما كانوا، كانوا مقيمين في مكان مرتفع قريب على الرامة، أعلى منها ودائماً طريقهم بالرامة، لـما بدهم يدخلوا أي بلد ثاني أو من مكان قريب ع اليهود، أو أي شي بدهن يقوموا بمعركة، كانوا يمروا بالرامة، فلـما كانوا يمروا أنا أستقبلهم بالـمدرسة، مدرسة البنات".
"فيه طبيب واحد كان بالرامة، الرامة يعني قرية. قلت له أنا كمديرة مارر عليّ، وبيجوز دارسة شي عن الإسعافات؛ ولكن بنحب يعني يكون قدامنا شي عملي منك وللكل، للـمجموعة، إذا ما كان عندك مانع، قال: شو أكيد ما عندي أي مانع، بالعكس يعني هاي بادرة منك تُحمدي فيها. فجمعنا أنا والـمجموعة وإجينا لعنده، وأعطانا ثلاث أربع مرات، يعني دروس. فنحنا كنا مجموعنا 12 بنت. بأتذكر رفيقة إلي اسمها غصون، بأتذكره لأنه اسم حلو، وفيه لـميس، كان وفيه وحدة اسمها بلقيس".
وتتحدث عن نشاط مصاحب لنشاط التمريض والضيافة، وهو النشاط التحريضي التعبوي، من خلال الحفلات والنشاطات التربوية:
"بصفد كنت معلـمة؛ لكن انتقلت مديرة للرامة، ودائماً أستغل الحفلات الـمدرسية لإلقاء كلـمة، والحفلات الـمدرسية حتى بصفد، أنا اللي كنت أقوم فيها، يعني أنا أدرب البنات وأجيب النص وأعمل هيك، وأعمل حفلة مدرسية، دائماً كان يكون فيه تمثيل، يعني أكثر من يعني ما بأتذكر، هناك تختلف تماماً كانت حفلاتنا، عن الحفلات اللي تصير حالياً بالـمدارس، بيجوز ما كان فيه عادة أنه البنات مثلاً: ما فيه رقص وشغلات من هالنوع يعني، كان تمثيل، كان إلقاء شعر، يعني هيك".
وبينما تركز الراوية في كتاباتها على مجزرة دير ياسين؛ تتحدث ضمن شهادتها الشفوية عن مجازر أخرى، مثل مجزرة "عيلبون":
"يعني كانوا لـما أنا طلعت كانوا بعدهم ما واصلين الرامة، والخوف الحقيقة يعني ملأ الناس لـما تسمعي بالـمجازر اللي صارت، وخصوصاً، أول مذبحة اللي هي مذبحة دير ياسين، بصراحة ألقت الرعب بقلوب الناس؛ ولكن بعدها صار مجازر، يعني مثلاً بعد ما طلعنا كمان وقفوا الناس، يوم اللي أنا طلعت بالذات، كنا واصلين لقرية اسمها البقيعة، وصلتنا لهناك الأخبار إنه فيه قرية إسمها عيلبون، كمان قريبة ع الرامة، إنه طالعوا الشبان كلهن وقفوهم صفين وأطلقوا النار عليهم كلهم. بقرية ثانية قالوا لهن: خلص إحتلوها يعني، قالوا لهن خلص أعطيناكم الأمان؛ لأن فيه بين العرب يهود عرب يعني عم يحكوا، ولاتخافوا أولادكم وين؟ ما كانوا هربانين إبعثوا وراهم ييجوا، خلص يعني بين إنتوا آمنين ما عملتوا شي، راحوا بعثوا وراء أولادهن. يعني العرب طيبين لدرجة ما بأعرف إذا لدرجة البله يمكن، بعثوا وراء أولادهم جابوهم، وقفوهم وأطلقوا النار عليهم كُلهن".
*** *** ***
عملت الراوية في مجالات عمل كثيرة بعد الهجرة. واصلت عملها السياسي، والثقافي، والتربوي، والاجتماعي. عملت في ميدان الخدمة الاجتماعية، في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في محافظة حلب، ومدينة اللاذقية، وفي محافظة درعا، مدة أربعة عشر عاماً، كما عملت في مجال التدريس. وبعد تقاعدها، عملت في الترجمة مدة ثمانية عشر عاما. وفي مجال العمل النسوي؛ أنشأت في القنيطرة مع زميلة لها جمعية نسائية، تعنى بالنشاطات الأدبية، والـمحاضرات السياسية، والإسعافات الأولية، كما كانت عضواً في الاتحاد النسائي/ فرع القنيطرة.
*** *** **
"أجل لقد طال انتظاري وطال، وقد بلغت من العمر اثنين وثمانين عاماً، والأمل لا يفارقني، متمسك بي، وأنا متمسكة به؛ ولكني خشيت وعلى غير إرادتي أن تفاجئني الـمنيَّة، وفلسطين بعد سبيَّة. وإذا بقلبي الـمضنى قد تباطأ نبضه، فانتابني خوف مريع من أن يتحقق ما خشيته، فرفعت يدي إلى قلبي الـممزق أصيح به أقول له: يا قلب مالك وللنبض البطيء؟ فهل أضناك طول الانتظار ولـم تعد تقوى على الصبر؟ فتجلد، وأخفق عالياً، ولا تتوقف عن الخفقان، فأنا لـم أتم رسالتي بعد، وما زلت قادرة على العطاء، ولا يزال أمامي مشوار طويل، وأنا لا أنوي الرحيل.
لا أنوي الرحيل حتى أرى فلسطين بلادي قد تحررت من الغزاة الـمغتصبين، وأرى فوق جميع ترابها يخفق علـم العروبة علـم فلسطين. وأرى رامة الأحباب قريتي الوادعة، أقف على سطح بيتي القديم أمتع ناظريّ بمرأى مروج الزيتون الخضراء، ثم أتجول ولو قليلاً بينها، وهناك تحت شجرة زيتون وارفة الظلال، أحفر اسمي على جذعها، ليكون في ذاك الـمكان الحبيب مثواي الأخير".
*** *** ***
هدى حنا، نحن في انتظارك
* كاتبة وباحثة فلسطينية تقيم في مدينة نابلس.