الدم والأيديولوجيابقلم: د. حسن حنفي - مصر
كان الشائع هو «العلم والأيديولوجيا»، «الثقافة والأيديولوجيا»، «الدين والأيديولوجيا». سادت هذه القرائن في القرن التاسع عشر. ثم استمرت أثناء حركات التحرر الوطني في العالم الثالث في منتصف القرن العشرين حتى برأت منها الثقافة السياسية لصالح العولمة في القرن الواحد والعشرين.فما تركه الغرب أخذناه. فقد أخذ الغرب اليميني الأيديولوجيا بدلا من الدين. وأخذ الغرب اليساري الثورة بدلا من الدين، وأصبحت الأيديولوجيا والثورة أهم إفرازات الثورة الفرنسية. الأيديولوجيا عند اليمين، والثورة عند اليسار. وانتقلت المعركة عندنا في الستينيات. البعض يقول بالأيديولوجيا وهو اليسار والبعض الآخر يقول بالإصلاح أو الدين المستنير وهو اليمين. والثورة لم تؤثر لأنها كانت ثورة النخبة أو ثورة الضباط الأحرار. ونشأت صراعات ثلاثة بين الدين والثورة والأيديولوجيا. الدين ظل في جعبة اليميني حتى لو استنار. والثورة في يد الليبراليين خوفا من الماركسية. والأيديولوجيا في حضن الماركسيين وتعني الماركسية أو الشيوعية.والدم الذي يسيل هو الحياة، الذي ينبثق من ينابيع الأوردة والشرايين، والنفس والرئتين، ونبضات القلب. وهو المقصد الأول من مقاصد الشريعة عند الإسلاميين قبل العقل والثروة العامة والكرامة الوطنية. وهي التي من أجلها جُعل القصاص أحد الأحكام الشرعية. هذا الدم هو الذي يسير في الطرقات وفي مدرجات الجامعات. هو الذي يسيل في المركبات العامة وعلى واجهات المنازل والمحال، وكأنه لا قيمة له. والدم لا هو دين ولا ثورة ولا أيديولوجيا. لا يسعى إلى سلطة. ولا يصارع من أجل منصب. ولا هو مسلم أو قبطي.والدين، لو عرف المتدينون هو أيديولوجيا أي عقيدة وشريعة. والعقيدة تصورات نظرية لا تلزم أحدا. إنما المهم هو الشريعة. فالدين نظام الحياة، نظام للفرد والجماعة. يرفع شعار «تطبيق الشريعة الإسلامية». هو نظام سياسي يقوم على الشورى، واجتماعي يقوم على التكافل الاجتماعي، واقتصادي أوله الزكاة، والملكية المشتركة للمصالح العامة، والتكافل الاجتماعي وحد أدنى وحد أعلى للأجور. والقطاع العام، والعمل مصدر القيمة. والأيديولجيا دين عندما يتمسك بها أصحابها كعقيدة تطبق حرفيا دون أخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية المتغيرة. وهي عامة لا تختلف في مبادئها سواء طبقت في أوروبا أم آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. ومن ثم عاد الدين من الوراء بعد أن كان قد تحول إلى أيديولوجيا. ولا أحد يفكر جديا في الثورة التي تجمع بين الدين والأيديولوجيا. فالثورة لديها مبادئ عقائدية مثل الدين، وتنظيمات اجتماعية مثل الأيديولوجيا، لذلك لا يحتاج الثائر إلى أن يصارع رجل الدين أو الأيديولوجي لأنه يحتويهما في ثورته العقائدية التنظيمية، ولا يحتاج رجل الدين إلى أن يصارع الثائر لأنه خارج الرحمة الإلهية أو أن يصارع الأيديولوجي لأنه يحمل كلاما غير مفهوم، ولغة العقائد أوضح.والأيديولوجي أو الثائر يحتاج كل منهما إلى أن يعيش سعيدا بالفعل وليس واهما بسعادة في عالم آخر. ويحتاج إلى أن يعيش آمنا في مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والإخاء. يأخذ حقوقه كما يؤدي واجباته في عالم تضيع فيه الحقوق بالرغم من أداء الواجبات. وفي مجتمع النظام السياسي فيه ضعيف لا يستطيع الحسم في شيء إلا الخطابة من وزير الدفاع التي تلهب مشاعر الجماهير لما لديه من مصفحات ودبابات وطائرات ومشاه أمام شعب يود الحسم. وسئم الانتظار. وملّ الخطابة وسماعها بعد أن تعود عليها في العقود الأخيرة. ولَفَظَ الإصلاح الذي وُعِدَ به في القرنين الأخيرين دون أن يحدث الكثير، فالثورات سريعة الإيقاع. والإصلاح بطىء. والسرعة هي التي تحدد مسار التاريخ وترتبط بيقظة الشعوب بها، ومهما علت الخطابة فإنها تطير في الهواء إن لم يسندها تحليل فعلي للواقع المباشر. إن الأمن الذي يعتمد على السلاح وحده هو أمن زائف، لأنه يعتمد على ميزان القوى وليس على قوة الاعتقاد. أليس هذا أفضل من الاحتفال بعيد ميلاد أو وفاة كاتب أو روائي؟ فالأموات أموات ولكن القضية مع الأحياء. عند العاقل. لا يهم من يحكم. فليس من يحكم هو من يجلس في القصر. من يحكم هو ما يستقر في العقل من أنساق للقيم ومراعاة لها في الواقع.وفي نفس الوقت لا يدرك مخططو المدن مخاطر بناء المدن الجديدة على حواف العشوائيات والنجوع. فهم كمن يضع الزيت على النار. فالأحياء الجديدة تمثل رأس المال الجديد، رأس المال الذي بنى سيتي ستارز وسيتي سنتر وسبع عشرة مولا تجاريا داخل القاهرة. فإذا كانت الثورة القادمة ثورة الجياع فإن عشرين مليونا من المعدمين سيقذفون على هذه المدن الجديدة ويحتلونها بأجسادهم التي لم تعرف النوم أو الطعام أو الراحة. وتكون الصورة مثل المرأة التي تفتح سجن الباستيل. كصورة رمزية للثورة الفرنسية. إذا كان عشرون مليونا من المصريين يعيشون في العشوائيات، وكان أربعون مليونا منهم يعيشون تحت خط الفقر فإن الثورة القادمة مثل ثورة 1952 لإعادة تحديد الملكية، وإعادة تحديد الدخل، فالثورة الاجتماعية تسبق الثورة السياسية، والثورة الاجتماعية تتحدد برغيف الخبز، وغرفة السكن، ومياه الشرب، والصرف الصحي، والعمل اللائق، والملبس النظيف حتى يكون للمواطن كرامة. ومتى كانت له كرامة أصبحت له حرية.