في ليلة من رمضان:
كانت ليلة القدر.
وكنت في نشأتي الأولى، أغدو إلى روضة تقوم عليها داعيات خصصن سحابة ذلك اليوم للحديث في شأن تلك الليلة التي اصطفاها الله على ليالي الدهر كلها.
فلما أن حل المساء، وانقضى وقت الإفطار، ذهبت إلى معلمي الأول والدي رحمه الله راغباً في سؤاله عما أتعبد به خالقي في الليلة الفضلى، ولجت عليه غرفة استقبال الزوار في بيتنا القديم فسكنتني قشعريرة الموقف، كانت الأنوار مطفأة، والسكينة تعمر المكان بروحانية ضافية، وهو في وسط الغرفة منتصباً خاشعاً في صلاته بين يدي خالقه، ومن نافذة الغرفة كانت دمشق ترتل تسابيح الليلة العظيمة بأضوائها الشتائية المنبسطة لناظرَيّ، ومساجدها المخضرّة احتفاءً تكاد تعانق بأذكارها سقف السماء المتأبط حنان ساكني العلياء على بني البشر.
وقفت خلفه وأنا لا أدري ما صلاة الجماعة ولا كيف الاقتداء، فصليت وحدي بما أحفظ من سور قصار لكنْ بروحية مشرَبة من روحه الشفافة، فألقي في روعي ما لم يُلقَ قبل ذلك ولا بعده، كأنما تجردت روحي فغادرتني وانطلقت تسبح مع الأفلاك الدوارة والجواري الكُنَّس، محلقةً في مدى الروح غير المنظور الذي يسع كل منظور.
امتدت بي أرجاء الغرفة الصغيرة، واتسعت جدرانها وانبسطت أرضها لتسع الكون بما فيه، بل أحسست أن حلّت السموات بين جانحَيَّ واستقرت في صدري، ووهبني الله من التجلي ما قلّ أن يوهبَه غلام في مثل سني ساعتها.
قبضت نفسي على تلك اللحظات الملكية وألقت أثرها على القادم من حياتي، أو لعل طوفان ليلكها ألقي من غير إرادة مني على أيامي التي تلتها، فصنع بي كثيراً لعلي أدركت منه شطراً ولعلي لم أدرك منه إلا أقله.
وبقيت في صدري أمنية آلت حسرة آخر الأمر، أن تمر علي ليلة القدر في عام غير ذلك العام فتتكرر تلك المشاهد بتفاصيلها، وتستقي روحي من إيماءات الوجود والخلود ما استقت ليلتئذ، لكن تلك الأمنية بقيت حلماً يصعب تحقيقه بل يستحيل، لأن شروطها لو انعقدت جميعها فإن الشرط الأول الذي سكب فيها كل دلاء الروعة لن يتيسر لي استعادته ولو بذلت في سبيله ما بذلت، شرط أن أقتدي بالإمام نفسه وتسري فيّ روحه كما سرت في ذاك المقام، ذلك أن الوالد العلامة لم يقدّر له أن يشهد ليلة قدر في دنيانا من بعدها.