بقلم: د. جابر قميحة
جعل الشاعر «خمنيث» من ديوانه معرضاً ضخماً، أو حديقة واسعة الرحاب لعالم الحيوان والطيور، وكل ذلك يمثل الطبيعة الحية والكيان النابض المتحرك للمسرح الكبير، الذي عاش فيه الشاعر مع حماره «بلاتيرو»، فلا تكاد قصيدة من قصائده تخلو من إشارة أو وقفة تطول أو تقصر مع حيوان أو طائر أو زاحف من الكلاب والثيران والحمير والأفراس والعصافير والكناري والأسماك والسلاحف.. ونلاحظ أن رؤية الشاعر لهذا العالم تتسم بالطابع الإنساني الذي لا يتخلى عن الشاعر ولا يتخلى عنه الشاعر في كل قصيدة أو في كل لوحة من لوحاته. كما أنه يحاول بما يقدم أن يستخلص أو يشير إلى قيمة إنسانية يقنع القارئ بها، أو يستميله إليها، وأوضح هذه القيم هي التعاطف مع الحيوان المظلوم أو المسحوق على يد الإنسان الظالم الغاشم. وأخيراً نجد لـ«بلاتيرو» مكاناً واضحاً، أو جسراً عابراً في كل حديث للشاعر عن أي من هذه الحيوانات. امتزاج عاطفي ومن الصور الرائعة التي يمتزج فيها الشاعر امتزاجاً عاطفياً مع الحيوان حتى يعيش معه معاناته القاسية بل القاتلة صورة «الفرسة البيضاء» (ص 137) التي بلغت من السن حداً أصبحت فيه عبئاً على صاحبها فأوردها حتفها: «أجيء حزيناً يا «بلاتيرو» أنظر وأنا أمر في شارع «لاس فلوريس» إلى طفلين توأمين رأيت فرسة بيضاء ميتة، يحيط بها أطفال يكادون يكونون عرايا وهم صامتون.. «موريكا» الخياطة التي كانت تمر هناك قالت لي: إن صاحب الفرسة قد حملها هذا الصباح إلى حيث تقتل وقد ضاق ذرعاً بطعامها، أنت تعلم أن المسكينة كانت كهلة كثيرة التخبط لا ترى ولا تسمع ولا تكاد تمشي...» (ص 41). إرادة قوية وإذا كانت «الفرسة البيضاء» تعد نموذجاً للحيوان المستسلم العاجز الذي أخنى عليه عاملان قاسيان غاشمان؛ هما الزمن والإنسان، واستسلم للموت مقهوراً دونما مقاومة إيجابية، قدم الشاعر نموذجاً آخر للحيوان المصر الذي استطاع بإرادته أن ينتصر على ظلم الإنسان وغشومته، إنها «الكلبة الوالدة» التي اختلست «سالود» اللبانة أجراءها الأربعة لتذبحها، أو تذبح أحدها لصغيرها المحتضر فيشرب مرقته، فيتخلص من آلامه، وتدب في أوصاله الصحة والعافية بناءً على نصيحة أحد معارفها، ولكن «الكلبة الوالدة» التي كانت تجهل مكان أولادها، وتجهل شخصية اللص لم تستسلم واستبد بها الحزن، ولكن حزنها لم يهزم إصرارها وقوة عزيمتها، فظلت تمشي طول يومها ذاك كالمجنون، تدخل وتخرج وتتطلع إلى الطرق وتتقلب في الشعاب، وتشم الناس، ولقد رآها الناس ساعة الصلاة بجانب دار الحارس في «لوس هارنوس» وهي تنبح بحزن فوق بعض غرارات الفحم في الغروب، وجعلت تروح وتغدو أربع مرات في الليلة، وفي كل مرة تأتي بكلبة في فمها.. ولما طلع الصباح وفتح «لباتو» بابه كانت الكلبة على العتبة تنظر بلذة إلى سيدها وصغارها جميعاً متشبثون في رعدة ساذجة بأثدائها الوردية الممتلئة. ظلم وقسوة ويلتقي النموذجان في أنهما شاهدان على ظلم الإنسان وغشومته وأثرته وقسوته، ويشتركان في أنهما أعمر النماذج، وأشحنها بالإنسانية، كما يتسمان بالدقة في رسم ملامح الصورة النفسية، وخصوصاً للكلبة الأم التي كادت أجراؤها أن تقدم طعاماً أو دواءً لمريض من البشر يحتضر. وزيادة على غرابة الصورتين - وخصوصاً الثانية - فإن درامية التصوير تتضح في البناء الوصفي القصصي للمشهدين اللذين يسير أولهما إلى نهاية فاجعة، ويسير ثانيهما إلى نهاية سعيدة.. وأخيراً هناك السمة المشتركة في كل القصائد؛ وهي الحضور القوي لـ«بلاتيرو» كشاهد آخر على كل شريحة من شرائح صورة النموذجين، وما آل إليه أمر كل منهما، وإن شئت فقل: إنه الشاهد العادل دائماً المتفاعل دائماً مع الإنسان والحيوان والطبيعة على اختلاف نوع التفاعل وقدره، إنه اللازمة التي لا تغيب أبداً، فإن أغفلها الشاعر أحياناً في قليل جداً من قصائده، فإن القارئ يحس بوجود هذه اللازمة أيضاً على سبيل التمثل الذهني والاستحضار المتخيل. نموذج رومانسي ويعرض الشاعر أيضاً لما يمكن أن نسميه بـ«النموذج الرومانسي»، وأعني به الكائن الحيواني الذي يمثل ملمحاً مثالياً من ملامح الطبيعة السمحة، كالصورة التي رسمها الشاعر للعصافير، وهي صورة تثير كل حماس القارئ، وتشد كل مشاعره، فهي «تدخل إلى النباتات المتسلقة وتخرج منها، وعجباً لها وهي تصيح، ثم عجباً لها وبعضها يأخذ بمناقير بعض، هذه تسقط على غصن ثم تدعه وهو يهتز، وتلك تشرب قليلاً من الماء في غدير عند حافة البئر، وثالثة تثب على سطح الطنف أعلى، بزهر يكاد يكون جافاً أنعش اليوم المغبر، عصافير مباركة ليس لها عيد معين، فرحات دون التزام مقدور. (ص 86). وأخيراً هناك النموذج السيكيوباتي العدواني؛ مثل ذلك «الحصان الصغير» الذي رفص «بلاتيرو» رفصة أسالت دمه. (ص 74). وكذلك «الحمار الأسود» العجوز الذي وصفه الشاعر بأنه شيطان؛ لأنه ألقى الرعب في قلب «بلاتيرو».. أما صورته الحسية فبشعة، فهو - زيادة على كونه أسود - كبير عجوز كثير العظام، بحيث يبدو كأن الشعر سينزع في كل موضع من جسمه، وقف وكشف عن أسنان صفراء كأنها حبات الفول، وأخذ ينهق بشدة نهيقاً عالياً في نبر لا يناسب شيخوخته التي لا ركاكة فيها. (ص 45). تشخيص النماذج: ومنهج الشاعر في تشخيص النماذج الحيوانية كمنهجه في تشخيص النماذج الإنسانية، ويتضح ذلك من وجهين: الوجه الأول: استيفاء نوع الشخصيات السوية والشاذة بكل تفصيلاتها ودقائقها الداخلية والخارجية. الوجه الثاني: السمات الفكرية والفنية التي تتلخص في دقة الوصف وبراعته، ووضع الشخصية في إطار من ملامح الطبيعة ومشاهدها، والنقد الاجتماعي، والطابع الإنساني، وهذا التلاقي الفني والموضوعي إذا أضفنا إليه منهج الشاعر في وصف الطبيعة تأدى بنا إلى حقيقة لا تنكر؛ وهي إيمان الشاعر إيماناً جازماً بوحدة الوجود. وقد عاش طيلة حياته يتعبد بها، وتذوق الإيمان بعقيدة الفنان والمتفرج في آن، وارتضى من حياته ما يرتضيه المتفرج الذي يتقبل من الدنيا كل ما تلقاه به غير ما يقطع عليه الفرجة، وينغص عليه متعة التأمل وسكينة العابد الناسك في هذا المحراب، ولم يحفل بوجود قط وراء هذا المتحف المزدحم بالصور والألوان. (العقاد: شاعر أندلس، ص 138). الشاعر والطبيعة لو قلنا: إن «خمنيث» هو شاعر الطبيعة ما كان في حكمنا هذا إسراف أو شطط، فكتابه يضم عشرات من اللوحات الساحرة للطبيعة بأشجارها وأنهارها وسمائها وأرضها وأطيارها وحيوانها.. ومجموع هذه اللوحات يعطينا «طبيعة متكاملة» بكل جزئياتها، فهو يستقصي ويفصل، ويبرز الدقائق الدفينة والأبعاد الخفية، فكأنها ظاهرة للعيان فأبلغ من يكون الظهور.. فلا يكفيه أن يقول عنا للزهرة الصغيرة: إنها حمراء أو ذهبية أو ذات لون غالب عليها يدل على ما عداه، بل يحصر النظر فيها ولا يحوله عنها إلا إذا فرق عليها ألوانه، وقال لنا: كيف تكون حمراء هنا، وصفراء هناك، وضاربة إلى الخضرة أو السواد في هذه الحاشية أو تحت تلك الزاوية إلى غاية من التدقيق والاستقصاء تحمل القارئ أحياناً لولا ما يتخللها من لمسات العطف ونفحات البهجة والجمال (العقاد: شاعر أندلسي، ص 136). وهذه الطبيعة التي يعايشها الشاعر - بل يعيشها - ليس طبيعة جامدة خامدة الروح، بل إن الشاعر أحياها بنفحات ونفحات من روحه وفنه حتى ليشعر القارئ أنه أيضاً يعيش عوالم يتدفق جامدها - لا حيها فحسب - بالحياة الإنسانية؛ نبضاً ومشاعر وحركة وتعاطفاً أو امتزاجاً بالكائنات الأخرى. حلول وإحلال وترتبط ظاهرة التشخيص عند الشاعر بظاهرة أخرى هي الامتزاج بالطبيعة إلى درجة الحلول والإحلال، وسيرورة المتعدد؛ لأن الأساس الذي يقوم عليه الاتجاه التشخيصي أن يدرك الإنسان الصورة الجميلة التي أمامه إدراكاً مبهماً، ويندمج في الشيء الذي يشاهده وهو متحد معه، متفان فيه، يؤلفان وحدة لا تتجزأ، وصدى هذا الإدراك يملأ أرجاء النفس، وينشأ عنه التعاطف والتفاهم والمشاركة الوجدانية بين الجمال وعاشقه. (الطاهر مكي: الشعر العربي المعاصر، ص 10). فهو يتحدث عن شجرة الطلح التي زرعها بنفسه ويصفها بأنها سيدة الفناء كله ويقول: لا أدري إن كانت تذكرني، أما هي فتبدو لي شيئاً آخر، كأنما يرى أن القاعدة في أن تتحدث إليه، وتفضي إليه بما تختزنه من مشاعر وأفكار وذكريات. ولـ«صنوبرة كرونا» مكانة خاصة عند الشاعر، حتى إنه يرى فيها نفسه وتحس هي بمشاعره وآماله وآلامه.. يقول الشاعر: «وما أشد قوتي التي أحس بها كلما استقر بي المقام تحت ذكراها، إنها وحدها التي لم تكف - وأنا أنمو - عن الكبر، وهي وحدها التي عظمت مع الزمن، ولما قطعوا منها الغصن الذي حطمته العاصفة خيل إليَّ أنهم بتروا عضواً من جسمي، وأحياناً ينتابني ألم على حين غرة، فيخيل إليَّ أنه يؤلم صنوبرة كورونا».
شخصية «الحمار» في الفكر والأدب (14) النماذج اللاآدمية