الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن أمر القلوب أمر عجيب؛ فبينما ترى الأمور واضحة جليَّة في الدلالة على أمر ما، بحيث يتفق على دلالتها كل من يشاهدها، تجد في المقابل آخرين قد سُدَّت عليهم منافذ العلم والمعرفة ـ بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد ـ فيروا عكس ما يراه الناس، ويستنبطوا منها ما لا يستنبطه أحد غيرهم، انظر إلى الآيات البينات، والدلائل الواضحات، والمعجزات الخارقات، التي أيد الله ـ تعالى ـ بها رسله إلى خلقه، كيف عميت عنها أبصار الكفار وقلوبهم، فلم يروا منها إلا أنها أساطير الأولين، وسحر الساحرين، وكهانة الكهان، وجنون المجانين؟
لقد أظهر الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه السلام ـ من الأمور العجيبة جدّاً؛ والتي لا يقدر على الإتيان بها إلا نبي مرسل من عند الله ـ تعالى ـ، ورغم هذا الأمر البيِّن لم يؤمن فرعون ـ لعنه الله ـ. لقد تحدى فرعونُ موسى ـ عليه السلام ـ وخسر فرعون التحدي؛ بل خسر ما هو أكبر من ذلك، حيث خسر القوم الذين كان يتحدى بهم موسى ـ عليه السلام ـ؛ إذ ظنّ أنَّ ما يأتي به موسى ـ عليه السلام ـ هو من السحر، فجمع السحرة ووعدهم بالقرب منه والأعطيات الجزيلة إن هم تغلبوا على موسى، وهذا الاحتياج منه إلى غيره في منازلة موسى ـ عليه السلام ـ يبطل دعوى ربوبيته وألوهيته التي كان يدَّعيها، وقد كان يكفيه هذا ليعَلمَ ضعفه وعدم قدرته وقلة حيلته التي تنافي دعوته، وقد كان في هذا ما يكفي له أن يؤمن لو كان له قلب، وبعد ذلك تغلبت آيات الله على سحر السحرة فآمن السحرة بالله رب العالمين، وقد كان في هذا ـ أيضاً ـ ما يكفي لفرعون أن يؤمن؛ لكن تلك القلوب المقفلة المحجوبة عن إبصار الحق ورؤيته، والتي لا تنفذ إليها بينات الحق ودلائل الهدى، من أين لها أن تدرك ذلك؟
لقد ابتلى الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه بالآيات المفصَّلات كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} ومع ذلك لم يؤمنوا بل: {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 133]، وقد كانت هذه الآيات كافية في أن يعلموا صدق موسى ـ عليه السلام ـ وكَذِبَ فرعون فيما يدَّعيه، ثم بعد ذلك حدث أمران مهمَّان يبيِّنان حقيقة الأقفال التي تكون على القلوب، حتى تحجبها حَجْباً كاملاً عن المعرفة والعلم والانقـياد لمـدلولهما، فقد أرسل الله ـ تعالى ـ عليهم العذاب، ولم يجـدوا مخرجاً من ذلك إلا باللجوء إلى موسى ليدعو لهم الله ـ تعالى ـ، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134]، وقد كشف الله ـ تعالى ـ عنهم الرجز بدعوة موسى ـ عليه السلام ـ، أفلم يكن ذلك كافياً لهم ليعلموا أن موسى ـ عليه السلام ـ مرسل من ربه، وأن فرعون عبد مربوب ليس رباً ولا إلهاً؟ لكن القفل الذي يسدُّ على القلب منافذ الخير كلها يفعل ما هو أكثر من ذلك، ثم جاءت الحادثة الثـانية والتـي فـاقت في دلالتـها كل دلالة، فعندما طارد فرعونُ ـ لعنه الله ـ موسى ـ عليه السلام ـ وأتباعه، خرج موسى ومن معه وضاقت عليهم السبل، حتى كانوا في وضع صعب فالبحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم، ولا سبيل غير ذلك، وفي هذا الوضع الصعب، أعطى الله موسى آية من أعظم الآيات؛ حيث شق لهم البحر، وجعل فيه طريقاً يَبَساً يمشون عليه، هذا البحر العظيم الذي تغوص في لججه السفن العظام يجعل الله فيه بضربة عصا من موسى طريقاً يبساً، وانفلق البحر حتى كان كل فرق كالجبل العظيم، ألم يكن في هذا ما يكفي لفرعون أن يرعوي، أو حتى أن يكفَّ عن مطاردة موسى، ويعلم أنه ليس ثَمَّ سبيل إلى النيل منه؟ لكن القلب العجيب الذي كان يملكه فرعون قاده إلى أن يسلك على الطريق اليبس نفسه، فسبحان الله! إذا كان الله ـ تعالى ـ قد جعل لموسى وأصحابه هذا الطريق الخارق لكل قدرات البشر؛ لكي يفلت من فرعون وجنده، أيقوم في عقل عاقل أنه يمكن أن يستخدمه في ملاحقة موسى ـ عليه السلام ـ والتمكن منه؟ لكن القلوب التي أُغلِقَتْ عليها الأقفال لا تتصرف إلا بهذا السبيل.
وقد أُقفِلت على اليهود قلوبهم من الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فـقـد كـانوا يعـرفونه كما يعرف أحدهم ابنه، ومع ذلك لم يؤمنوا قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] ، وتـروي السيدة صفية ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتـقول: «لمـا قـدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء ـ قرية بني عمرو بن عوف ـ غدا إليه أبي وعمي (أبو ياسر بن أخطب) مُغْلِسَين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاتِرَيْـن كسلانَيْن ساقطَيْن يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي (أبا ياسر) يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعـم والله، قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت»(1).